01-يوليو-2021

هناك ما يشبه التراجع عن مسار كامل نحو ما يشبه المصالحة المفروضة والتي تغلق كل الملفات (فتحي بلعيد/أ.ف..ب)

 

في 24 من جوان/ يونيو 2021، انقضت الآجال القانونية لتقديم الحكومة التونسية برنامج عمل لتطبيق توصيات هيئة الحقيقة والكرامة، وهي هيئة حكومية مستقلة أشرفت على مسار العدالة الانتقالية في تونس ونشرت تقريرها النهائي منذ سنة. 

وتوصيات هيئة الحقيقة والكرامة، المضمنة في تقريرها الختامي، تكتسب طابعًا ملزمًا للدولة التونسية حسب الفصل 70 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013، إذ ينص هذا الفصل من القانون المتعلق بالعدالة الانتقالية على ضرورة تقديم الحكومة لخطة عمل وبرنامج تطبيق التوصيات الواردة في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، ويتمّ مراقبة تطبيق هذا البرنامج من قبل مجلس نواب الشعب في ظرف سنة من نشر التقرير، وتنقضي هذه الآجال بذلك يوم 24 جوان/ يونيو 2021.

على الحكومة تقديم خطة عمل وبرنامج تطبيق للتوصيات الواردة في تقرير هيئة الحقيقة والكرامة ويتمّ مراقبة تطبيق هذا البرنامج من قبل البرلمان في ظرف سنة من نشر التقرير وهو ما لم يحصل

السؤال هنا، ما الذي تحقق من كل هذا؟ الإجابة بسهولة لا شيء، على الأقل لم يصدر أي برنامج للعلن يتضمن أي إصلاحات لتفعيل توصيات هيئة الحقيقة والكرامة رغم طابعها الإلزامي وتوفر آجال قانونية كان من الضروري عدم تجاوزها/ تجاهلها.

في الأثناء، كانت هناك مبادرة من المجتمع المدني التونسي تمثلت في "الكتاب الأبيض" كما تمت تسميته من قبل أصحاب المبادرة، وهم ائتلاف "لا رجوع"، وقد قاموا بتقديمه للإعلام وللعموم في مؤتمر صحفي في 23 جوان/ يونيو الماضي، في محاولة للقيام بدور لم تقم به مؤسسات الدولة المطالبة بذلك أملًا، كما قالوا خلال المؤتمر، في أن تعتمده السلطات وتتداول فيه ويكون منطلقًا لتفعيل توصيات هيئة الحقيقة والكرامة واستكمال مسار العدالة الانتقالية المتعثر جدًا في تونس.

ويتضمن "الكتاب الأبيض" مجموعة من الإصلاحات لإرساء ضمانات عدم تكرار انتهاكات الماضي، وهي كما يصفها ممثلو ائتلاف "لا رجوع" "مقترحات عمليّة وتقنيّة لبلورة توصيات هيئة الحقيقة والكرامة على أرض الواقع". وقد صاغ مقدمة الكتاب الأبيض كل من الأستاذة راضية النصراوي، والدكتور مصطفى بن جعفر، والدكتور وحيد الفرشيشي تحت عنوان "حين ينير المجتمع المدني درب من اختلطت عليهم السّبل".

يتضمن "الكتاب الأبيض" مجموعة من الإصلاحات لإرساء ضمانات عدم تكرار انتهاكات الماضي وهي مقترحات لبلورة توصيات هيئة الحقيقة والكرامة على أرض الواقع

وتعتبر "لا رجوع" الكتاب الأبيض بمثابة "برنامج عمل جاهز، يقدّم قراءة تحليلية في توصيات هيئة الحقيقة والكرامة ومقترحات عملية لتطبيقها، في مجالات متعلّقة بإصلاح الأمن والقضاء والحريات الفردية والحوكمة ومكافحة الفساد وجبر الضرر الجماعي وغير ذلك" .

و"لا رجوع" هي مبادرة تضم عديد الجمعيات اجتمعوا بغاية دعم مقاربة شاملة لمسار العدالة الانتقالية في البلاد، انطلاقًا من مسارها القضائي لمكافحة الإفلات من العقاب والمحاسبة ومسار الإصلاحات قصد إرساء ضمانات عدم التكرار ومسار كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة ومسار إنصاف الضحايا ماديًا ومعنوياً عبر الاعتذار الرسمي من رئيس الدولة وإعادة الاعتبار للضحايا وجبر الضرر للمناطق الضحية.. الخ.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد نشر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة في الرائد الرسمي؟

  • مسار العدالة الانتقالية: مسار من غياب المحاسبة وتكريس الإفلات من العقاب

عن الكتاب الأبيض ومحتواه، تقول المحامية إيمان البجاوي، الكاتبة العامة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (أحد أطراف مبادرة لا رجوع) خلال المؤتمر الصحفي، "الكتاب الأبيض انطلق من توصيات هيئة الحقيقة والكرامة ووضح أسسها في المعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس وفي الدستور والقوانين وقدم فيما بعد مقترحات جمعيات من المجتمع المدني التونسي هي أساسًا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبوصلة ومحامون بلا حدود وقدم مقترحات لإنفاذ التوصيات ولكي لا تبقى حبرًا على ورق، خاصة وأنه قد مرت الآجال ولم تصدر الحكومة أي مشروع حكومي لإنفاذ التوصيات".

تعتبر البجاوي أن "الإصلاح المؤسساتي لم يعرف أي تقدم لا على المستوى الأمني ولا القضائي ولا مستوى الحريات ولا العدالة ولا مكافحة الفساد"، وتوضح أن "الثقة انعدمت في تحرك حكومي"، مضيفة "هذه الحكومة فاشلة على جميع المستويات".

في ذات السياق، يقول أيمن بن صالح، عن منظمة البوصلة (أحد أطراف مبادرة لا رجوع)، إنه كما لم تقدم الحكومة خطة عمل وبرنامج متكامل لتطبيق التوصيات المضمنة في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة وتحويلها لإصلاحات، فإن البرلمان أيضًا "لا يبدو في حده الأدنى مساندًا لمسار العدالة الانتقالية" ويضرب مثالاً تعيين رئيس البرلمان راشد الغنوشي آخر أمين عام لحزب التجمع المنحل كمستشار له مكلف بالمصالحة، إضافة إلى "مهاجمة الغنوشي المسار القضائي في حوار صحفي"، مذكرًا أن المسار القضائي في ملفات العدالة الانتقالية معطل منذ سنوات دون أحكام باتة، مع بطاقات جلب لا تنفذ وسلطة قضائية متخاذلة عن القيام بدورها في المحاسبة ومكافحة الإفلات من العقاب". 

مع العلم أن برنامج الحكومة لتفعيل توصيات التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، والذي لم يقدم للآن رغم انتهاء الآجال، كان سيوجه للبرلمان الذي يكلف لجنة برلمانية لمراقبة مدى تطبيق الحكومة لهذه الإصلاحات.

أيمن بن صالح، منظمة البوصلة: المسار القضائي في ملفات العدالة الانتقالية معطل منذ سنوات دون أحكام باتة، مع بطاقات جلب لا تنفذ وسلطة قضائية متخاذلة عن القيام بدورها في المحاسبة ومكافحة الإفلات من العقاب 

اقرأ/ي أيضًا: شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس.. قصص الألم والعبر

من جانب آخر، يوضح خيام الشملي، مدير مشروع في منظمة محامون بلا حدود (أحد أطراف مبادرة لا رجوع)، أن غياب الإصلاحات وعدم تفعيل توصيات هيئة الحقيقة والكرامة أدى إلى تواصل الإفلات من العقاب وهو ما يعني أن الانتهاكات التي حصلت في الماضي لا تزال متواصلة وبعضها "بنفس الطريقة التي كانت عليها قبل 14 جانفي/ يناير 2011"، وفق حديثه في ذات المؤتمر الصحفي.

يقول الشملي إن 205 ملفات قضائية تنظر فيها الدوائر القضائية المختصة للعدالة الانتقالية"، وهي ملفات تخص الفترة بين سنتي 1955 و2013، انطلاقًا من خروج المستعمر الفرنسي إلى الانتهاكات التي شملت اليوسفيين ثم بقية التيارات الفكرية من إسلاميين ويسار وغيرهم وكذلك المنظمات الطلابية والنقابية والأحداث الكبرى كأحداث الخبز والخميس الأسود وبراكة الساحل والحوض المنجمي وشهداء وجرحى الثورة التونسية وأحداث الرش بسليانة إلى غير ذلك.

ويضيف الشملي "من بين هذه القضايا 54 ملف فساد منها ما يخص ملف المنظومة البنكية (البنوك العمومية التي تم الإضرار بها)، الخطوط التونسية، الكرامة هولدينغ، مارينا بنزرت، إسمنت قرطاج.. الخ"، موضحًا "في كل هذه القضايا، هناك 237 بطاقة جلب لم يتم تنفيذها وهي صادرة عن حوالي 8 دوائر جنائية متخصصة وتخص بطاقات الجلب مسؤولين من المنظومة الأمنية والسجنية وخبراء ماليين ومنهم حتى من هو نائب في البرلمان ولكنها لم تنفذ". 

ويتابع، عن حالة غياب الإصلاحات وانتشار الإفلات من العقاب في تونس، "رئيس الحكومة وهو في الوضعية الحالية وزير الداخلية بالنيابة مسؤول لعدم سهره على تطبيق بطاقات الجلب الصادرة عن محاكم تونسية وهو المسؤول على أعوان الضابطة العدلية التي من اختصاصها تنفيذ بطاقات الجلب". 

خيام الشملي، محامون بلا حدود: هناك 237 بطاقة جلب لم يتم تنفيذها وهي صادرة عن حوالي 8 دوائر جنائية متخصصة في العدالة الانتقالية وتخص مسؤولين من المنظومة الأمنية والسجنية وغيرهم لكنها لم تنفذ

اقرأ/ي أيضًا: سنة بعد انطلاق الدوائر القضائية المتخصصة.. النقابات الأمنية تضغط والجلاد غائب!

  • نافذة على بعض الإصلاحات من الكتاب الأبيض

يتضمن "الكتاب الأبيض" مجموعة من الإصلاحات لإرساء ضمانات عدم تكرار انتهاكات الماضي ولبلورة توصيات هيئة الحقيقة والكرامة في مجالات عديدة كإصلاح الأمن والقضاء والحريات الفردية والحوكمة ومكافحة الفساد وجبر الضرر الجماعي وغير ذلك.

من بين الإصلاحات المقترحة، كما ذكرت إيمان البجاوي، الكاتبة العامة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مجال القضاء التوجه لاعتماد ما يعبر عنه بـ"الآجال المعقولة"، إذ أن عديد الشكاوى تبقى في أدراج القضاء لسنوات إلى ضياع الحق، كما أكدت البجاوي.

وعلى المستوى الأمني، تعرضت إلى مقترح يخص القيادات الأمنية الموجودة ميدانيًا والتي "يمكن توفير حماية قانونية لها إذا رفضت إنفاذ التعليمات الماسة بالحقوق والحريات والتعليمات اللا مشروعة".  

أمنيًا أيضًا، من توصيات هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها الختامي منذ سنة "إنجاز هيئة مستقلة عن الجهاز الأمني لمراقبة الشرطة" لكن دون توضيح لكيفية بلورة ذلك فعلياً على أرض الواقع، في هذا السياق، يقول خيام الشملي، عن محامون بلا حدود، "فكرنا وبالاستعانة بخبراء، أن نقترح إما التوجه لسن قانون أساسي ينشئ هيئة مستقلة تهتم بالأمر أو تعديل قانون هيئة حقوق الإنسان وإسنادها صلاحية مراقبة الشرطة وإصدار تقارير دورية عن ذلك ترفع للبرلمان وتقدم للعموم أيضًا".

من المقترحات المقدمة، إحداث صندوق دعم للاستثمارات في "الجهات الضحية" يمول من قبل الضريبة على القطاعات التي تحقق أرباحًا طائلة مثل الشركات التي تستثمر في الطاقة أو الاتصالات 

أما على مستوى جبر الضرر الجماعي، فمن المقترحات المقدمة في "الكتاب الأبيض" وذلك في سياق ما يُعرف بـ"إنصاف الجهات الضحية" اعتبار ذلك أولوية من أولويات الاقتصاد الوطني، على معنى الفصل 10 من الدستور، ورصد موارد جبائية للاستثمار في هذه الجهات، على الأقل في البنية التحتية ولما لا استثمارات توفر فرص شغل لسكان تلك المناطق، وفق ما ذكره الشملي. 

و"الجهات الضحية" مضمنة في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، ومن حق هذه الجهات، وفق قانون 53 لسنة 2013، جبر الضرر عبر برامج كانت قدمتها الهيئة بعد استشارات مفتوحة في أعماق البلاد وتم تحديدها حسب ضروريات هذه المناطق وبعضها على مستوى عاجل وفوري أو قريب أو على مستوى زمني متوسط وبعيد.

وفي ذات السياق دائمًا، يقول الشملي، في ذات المؤتمر الصحفي، إنه تم "اقتراح التسريع في إصدار الأمر الحكومي المنظم لصندوق دعم اللامركزية الذي تم إحداثه بمقتضى قانون المالية الأخير وإدراج الجهات الضحية كجهات ذات أولوية في هذا الإطار"، إضافة إلى اقتراح إحداث صندوق دعم للاستثمارات في الجهات الضحية يمول من قبل الضريبة على القطاعات التي تحقق أرباحًا طائلة مثل الشركات التي تستثمر في الطاقة أو الاتصالات.. الخ. 

ما بقي هي ملفات مشتتة غير واضحة المآلات أو طرق العمل عليها ومنها ملف شهداء وجرحى الثورة أو موضوع صندوق الكرامة وغير ذلك الكثير من الضبابية لما تبقى من مسار "العدالة الانتقالية التونسية" إبان ثورة 2011 

بعيدًا عن مقترحات مبادرة "لا رجوع" لتفعيل توصيات التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة وعن جهود المجتمع المدني في تونس لتكريس العدالة الانتقالية على أرض الواقع إلا أن مؤسسات الدولة لا تبدي أي تحرك جدي لتفعيل التوصيات رغم طابعها الإلزامي بل هناك ما يشبه التراجع عن مسار كامل نحو ما يشبه المصالحة المفروضة والتي تغلق كل الملفات دون محاسبة أو اعتذار أو جبر ضرر مادي كان أو معنوي، وذلك على عكس ما تبديه ذات المؤسسات من افتخار أمام المنظمات الدولية وأمام دول أخرى عند حديثها عن التجربة التونسية في هذا المجال.

لكن المتابعين لمسار العدالة الانتقالية الممتد منذ سنوات في تونس يؤكدون أنه قد لا يصح حتى الحديث عن نموذج تونسي للعدالة الانتقالية أو تجربة مكتملة في هذا السياق، بل يقتصر الأمر على هيئة أتمت أشغالها بكثير من الارتباك والأخطاء ووسط سخط شعبي واسع وتشويه من عديد الأطراف وعدم تعاون من مؤسسات الدولة الرسمية واتهامات لأعضائها وتقريرها الختامي بالفساد أو الضرر بمصالح الدولة أو خدمة مصالح أطراف أو تضارب المصالح وغير ذلك من التهم، هذا إضافة إلى مسار قضائي متواصل لكنه متعثر (الدوائر القضائية المختصة)، وما بقي هي ملفات مشتتة غير واضحة المآلات أو طرق العمل عليها ومنها مثلًا مآلات ملف شهداء وجرحى الثورة أو موضوع جبر الضرر المادي وتحديدًا ما يُعرف بـ"صندوق الكرامة" وغير ذلك الكثير من الضبابية لما تبقى من مسار "العدالة الانتقالية التونسية" إبان ثورة 2011.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد.. تعثر التفعيل

أهم 10 إخلالات في عمل هيئة الحقيقة والكرامة وفق دائرة المحاسبات