مقال رأي
لم يكن قرار إدارة مجلس نواب الشعب بالاكتفاء بدخول صحفيي القناة الوطنية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء فقط لتغطية الجلسة الافتتاحية، ومنع صحفيي الإعلام الخاص والأجنبي من حقهم في التغطية، إلا مؤشرًا على تمادي السلطة في تحييد الإعلام.
تغطية صحفيين للجلسة الافتتاحية وبالخصوص تغطية هوامش الجلسة كاستطلاع تصريحات النواب الجدد، وما قد يثيره ذلك من كشف لمستوى هزيل وهزلي، هو مما تسعى السلطة لإخفائه
ولا يُعتقد أن قرار المنع صدر دون إيعاز أو على الأقل مراجعة رئاسة الجمهورية التي تشرف على أجهزة الدولة، ولم يعد البرلمان أصلًا إلا جهازاً تشريعيًا في خدمة السلطة التنفيذية، بحكم تصوّر الرئيس للوظيفة التشريعية، وكما أسس دستوره الرئاسوي المحض.
إن تغطية صحفيين للجلسة الافتتاحية وبالخصوص تغطية هوامش الجلسة كاستطلاع تصريحات النواب الجدد، وما قد يثيره ذلك من كشف لمستوى هزيل وهزلي، هو مما تسعى السلطة لإخفائه.
توجد حاجة حيوية لإخفاء أي عيوب من البرلمان الجديد الذي يقدمه الرئيس بأنه قطيعة عما سبقه
توجد حاجة حيوية لإخفاء أي عيوب من البرلمان الجديد الذي يقدمه الرئيس بأنه قطيعة عما سبقه، ولم يخف سعيّد بدوره بلهجة تهديدية أن سيف سحب الوكالة يسمح بعزل أي نائب يخرج عن الجادة. في هذا الجانب، مثلت حادثة إلقاء الأمن القبض على نائب من داخل قبة البرلمان تنفيذًا لبطاقة جلب صادرة منذ أسابيع، رسالة واضحة عن هشاشة الحصانة الممنوحة للنواب بحكم الواقع قبل القانون.
مثلت مشاهد عالقة من البرلمان السابق كالتهريج تحديدًا من رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، والعنف اللفظي وحتى المادي، محددًا في النظرة السلبية للتونسيين للبرلمان. وجد سعيّد، بذلك، مبررًا يسيرًا أمام التونسيين لتنفيذ انقلابه صيف 2021، وبالخصوص قراره بتعليق أعمال البرلمان.
لم يقدم مجلس النواب السابق مثالًا محفزًا وناجعًا حول أداء البرلمانات، ليس فقط للمشاهد السابق ذكرها، بل أيضًا لأنه ظهر كغرفة للحسابات السياسية الضيقة على حساب مصالح العامة. لكن ما يُتجاوز أن التركيبة البرلمانية تلك هي وليدة لتمثيلية عموم التونسيين إثر انتخابات مباشرة. والبرلمان الحالي، رغم محدودية مشروعيته وضعف تمثيليته بحكم مشاركة 11% فقط من الناخبين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لن ينتج نوابًا إلا نتاج البيئة السياسية والاجتماعية بنهاية المطاف.
لم يقدم مجلس النواب السابق مثالًا محفزًا وناجعًا حول أداء البرلمانات، ليس فقط لمشاهد التهريج، بل أيضًا لأنه ظهر كغرفة للحسابات السياسية الضيقة على حساب مصالح العامة
في هذا السياق بالخصوص، عكس تبادل الاتهامات بين بعض النواب الجدد بمناسبة انتخاب رئيس البرلمان، والحديث عن شراء الذمم واختراق شخصيات فاعلة وتكوينها مجموعات موالية لها، تأكيدًا بأن البرلمان الجديد لن يكون جنة موعودة كما يوهم الرئيس.
وأيضًا في نفس الجانب، يأتي تصريح شخصيات من مبادرة "لينتصر الشعب" أن إبراهيم بودربالة لم يكن مرشحها لرئاسة البرلمان وأنه كان يعمل في الخفاء لصالح نفسه، وأنه صعد لرئاسة البرلمان بفضل مجموعات موالية للتجمع المنحل والنداء، فيما يبيّن واقع العملية السياسية من تحالفات علنية وأخرى خفيّة وتسابق بين مجموعات المصالح باستعمال مختلف الوسائل الممكنة. هذا هو برلمان الرئيس بالنهاية.
عكس تبادل الاتهامات بين بعض النواب الجدد بمناسبة انتخاب رئيس البرلمان، والحديث عن شراء الذمم واختراق شخصيات فاعلة وتكوينها مجموعات موالية لها، تأكيدًا بأن البرلمان الجديد لن يكون جنة كما يوهم الرئيس
يعلم سعيّد أن البرلمان يضم عديد الشخصيات الوصولية والتي لا تقودها إلا مصالحها الشخصية البحتة، وأن المال السياسي كان محركًا أساسيًا في الانتخابات الأخيرة القائمة على التنافس بين الأفراد.
والجميع يعلم أن مستوى النواب سواء السياسي أو الثقافي وتطبيقاته على مستوى الممارسة والخطاب، هو أسوأ من البرلمان السابق الذي كان يقوم على الأقل على التصعيد عبر الأحزاب الضامنة لحد أدنى من الكفاءة النوعية في اختيار ممثليها.
إن التحدي الحقيقي الآن هو إبقاء البرلمان الجديد تحت ضوء الإعلام كما السابق، من نقل مباشر للجلسات العامة وجلسات اللجان، وتغطية لهوامش البرلمان، دون أي تضييق. سيكتشف التونسيون حجم الخديعة، وسيكتشفون ممثلين لهم لا يتحوّزون على الحد الأدنى من شروط العمل البرلماني. ولكن السلطة في المقابل ستسعى لإخفاء هذه الحقيقة، وهو ما يشترط عليها تقييد ولوج الإعلام للبرلمان، دونًا عن تقييد حرية النواب أنفسهم داخل البرلمان وبالخصوص في الجلسة العامة.
الجميع يعلم أن مستوى النواب سواء السياسي أو الثقافي وتطبيقاته على مستوى الممارسة والخطاب، هو أسوأ من البرلمان السابق الذي كان يقوم على الأقل على التصعيد عبر الأحزاب الضامنة لحد أدنى من الكفاءة
فمن الواضح أن سعيّد يريد برلمانًا كقسم المدارج هادئًا دون ضجيج، لا يثير امتعاض التونسيين ولا يذكّرهم بالبرلمان السابق، وهو ما سيعمل الرئيس على تحقيقه بأي ثمن كان. فليس من قبيل الصدفة أنه استبق ذلك في دستوره بما ورد بالفصل 66 أنه "لا يتمتّع النّائب بالحصانة البرلمانية بالنّسبة إلى جرائم القذف والثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس، كما لا يتمتع بها أيضًا في صورة تعطيله للسّير العادي لأعمال المجلس". وهو فصل لم يسبق أن نص عليه أي دستور تونسي سابق، بل لا يُعرف أنه سبق لدستور أن نظم بهكذا تفصيل استثناءات لمبدأ الحصانة البرلمانية للنواب.
إن سعي سعيّد لفرض برلمان هادئ وطيّع وموال له يفترض إبقاءه بعيدًا عن أضواء الإعلاميين خاصة "المتطفلين" الذين يصطادون في المياه العكرة، بحسب الرئيس.
إن التحدي الحقيقي الآن هو إبقاء البرلمان الجديد تحت ضوء الإعلام كما السابق.. سيكتشف التونسيون حجم الخديعة، وسيكتشفون ممثلين لهم لا يتحوّزون على الحد الأدنى من شروط العمل البرلماني.
والواقع أن تعامل سعيّد بالخصوص مع الإعلام الوطني يكتسي طابعًا غير ودّي منذ البداية، فللتذكير فهو، منذ توليه الرئاسة قبل ما يزيد عن ثلاث سنوات، يرفض المشاركة في أي حوار إعلامي تلفزي كان أو إذاعي، في مصادرة لحق الصحفيين في محاورة الرئيس ومساءلته، كما يقتضي دور الإعلام في أي نظام ديمقراطي، وهذا حرمان لعموم التونسيين من حقهم في استطلاع مواقف الرئيس وتصوراته حول القضايا التي تهمهم.
وربما من الحريّ التذكير أن النيابة العمومية كانت قد أذنت بتتبع نقيب الصحفيين من أجل نشاط احتجاجي الصيف الفارط، طبعًا دونًا عن أن السلطة استطاعت إعادة الإعلام التلفزي العمومي لبيت الطاعة الذي بات لا يستضيف إلا أنصار الرئيس دون غيره.
توجد هجمة واضحة من السلطة اليوم على حرية الإعلام وعلى استقلاليته. فبالنهاية، سعيّد لا يحبّ الإعلام الحرّ والمزعج للسلطة، ولذلك سيسعى لتقييد نفاذ هذا الإعلام إلى برلمانه.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"