14-مارس-2023
البرلمان التونسي

كانت الصورة باهتة وأقرب إلى المسرحيّة الفاشلة التي لا أحد يهتمّ بها أو بتفاصيلها (ياسين محجوب/Nurphoto)

مقال رأي 

 

 

دارت الجلسة الافتتاحية للبرلمان التونسي في أجواء لم يعهدها التونسيّون. فقد كانت قبّة البرلمان شاهدة على جيل جديد من النواب الذين ترشّحوا في أغلبهم بيافطات غير حزبيّة. وهو ما جعل الجلسة تكون تجسيدًا لما يمكن أن تكون عليه صورة النقاشات في المستقبل.

وجوه جديدة عن العمل السياسي وأخرى كانت منتمية إلى أحزاب بارزة في السنوات الماضية وآخرون ممّن ساندوا مسار 25 جويلية وجاؤوا ركوباً على الأحداث

وجوه جديدة عن العمل السياسي وأخرى كانت منتمية إلى أحزاب بارزة في السنوات الماضية وآخرون ممّن ساندوا مسار 25 جويلية وجاؤوا ركوباً على الأحداث. ومهما يكن التموقع أو النيّة، يبدو أنّ جلسة البرلمان الافتتاحيّة، فتحت الباب أمام فصل جديد من مسار الرئيس المثير للجدل والذي قوّض أغلب ما بُني في 10 سنوات وبدأ بإفراز مؤسّسات جديدة ستكون هي عماد منظومة يقول ساكن قرطاج إنّها الأفضل لهذا البلد.

فأيّ مكانةٍ للبرلمان في رقعة يتحكّم فيها قيس سعيّد؟ وكيف ستُدارُ الأمور ببرلمانٍ يمارس وظيفةً لا سلطة تشريعيّة؟ وهل يمكن الحديثُ عن دورٍ رقابيٍّ مع غياب ضمانات دستوريّة لذلك؟ وهل يستقيم العمل البرلماني دون تمثيليّات أو مرجعيّات حزبيّة سياسيّة؟ وكيف سيتمكّن هذا البرلمان من التعامل مع الاختلافات الموجودة بين النواب الجدد؟

 

 

  • "كتلة واحدة" أو كيف غالط إبراهيم بودربالة الجميع

لا يمكن الخوض في تفاصيل الوظيفة التشريعيّة كما نص عليها دستور قيس سعيّد دون التعرّض إلى ما دار خلال الجلسة الافتتاحيّة وما جاء في كلمة رئيسه الذي انتخب على مرحلتين. فالعميد الأسبق للمحامين ورئيس اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي عيّنها سعيّد ولم نرَ مخرجاتها إلى اليوم، عمَد إلى استعمال منصبه الجديد لخدمة أجندات صاحب المسار - الذي يراقب ما يحصل من غار الدماء - من خلال الإشارة في كلمته الافتتاحيّة إلى أنّ العمل صلب البرلمان سيكون كتلة واحدَة وسيكون العمل اليد في اليد مع التعريج والثناء على مسار 25 جويلية.

البرلمان، الذي يعرف في مختلف دول العالم أنّه مكان الاختلاف والجدل السياسي والتجاذب، يتحوّل إلى مجرّد وسيلة/ غرفة خالية من كل معنى هدفها تمرير القوانين بطريقة آليّة

والمتمعّن في مقاطع خطاب رئيس البرلمان الجديد إبراهيم بودربالة، يفهم تمثّله للعمل البرلماني عموماً وكيفيّة إدارته للنقاشات بشكل خاص. إذ أنّ البرلمان - الذي يعرف في مختلف دول العالم أنّه مكان الاختلاف والجدل السياسي والتجاذب فيما يتعلّق بالأفكار التي تصل إلى حدّ التناقض - يتحوّل إلى مجرّد وسيلة/ غرفة خالية من كل معنى هدفها تمرير القوانين بطريقة آليّة يغيب معها كنه العمل البرلماني  التشريعيّ. فغياب الأحزاب المعارضة للمسار والاقتصار على مساندين ترشّحوا فرادى أو أحزاب باركت خطوات سعيّد وظلّت تنتظِر لحظة انتخابيّة لتنتهز الفرصة، لن يخوّل لهذا البرلمان أن يكون فرصة للنقاش الحقيقي وعرضٍ للرّأي والرأي المخالف.

لقد أرسى هذا البرلمان قواعد جديدة في التعامل مع العمل السياسيّ، وهو ما بات جليّا مع أولى جلساته التي فتحت أبوابها فقط أمام الإعلام العموميّ في أجواء تذكرنا بسنوات ظنّ الجميع أنّ تونس ودّعتها دون رجعةٍ.

  • نظريّة الهدوء والطمأنينة: من أجل عيون النواب يعتدَى على حريّة الصحافة

يقول المثل الفرنسي إنّ فلاناً أضاع فرصَةً ليظلّ صامتاً، في إشارة للشخص الذي يتكلّم فيثير المشاكل. يبدو أنّ هذا المثل ينطبق على رئيس البرلمان الجديد وأحد فرسان مسار 25 جويلية إبراهيم بودربالة. ففي كلمته الافتتاحيّة تعرّض إلى إشكاليّة منع الصحفيين من تغطية الجلسة وأشار إلى أنّ ذلك جاء في سبيل هدوء النواب وطمأنينتهم.

منع الصحفيين من تغطية الجلسة الافتتاحية وتصريحات عدد من النواب كفيلة بأن تعطي لمحة عن تصوّر كامل لدور الصحافة في هذه المنظومة وفي العمل البرلماني مستقبلًا

على الرغم من موجة السخرية التي رافقت هذه التصريحات، إلاّ أنّها كفيلة بأن تعطي لمحة عن تصوّر كامل لدور الصحافة في هذه المنظومة وفي العمل البرلماني مستقبلًا. يفهم مناصرو المسار، وعلى رأسهم بودربالة، أنّ العمل الصحفي وحريّة الصحافة منّة يمكن أن تأتي حسب الظروف والأحوال. وقد يصل الأمر بأن يمنع الصحفيين من أداء عملهم في سبيل راحة النواب النفسيّة.

وهي بداية أو شروع في تقديم حجج واهيةٍ لرسم معالم علاقة الصحافة بالعمل البرلماني. ويمكن أن تكون كلمة رئيس البرلمان فرصة لقراءة استباقيّة للحدود التي ستُرسم للصحفيين أثناء أداء مهامّهم في تغطية ما يحصل داخل البرلمان المنتخب بأضعف نسبة في تاريخ تونس وثاني أضعف نسبة في العالم وهو ما يفتح النقاش أيضاً حول نجاعة عمله في إطار التشكيك وإثارة إشكاليّة الشرعية.

  • شبح الشرعيّة يلقي بظلاله على البرلمان الجديد

صرّح أمين خراط، المكلّف بالسياسات العامّة في منظّمة البوصلة أنّ المنظّمة لن تكون حاضرة داخل قبّة البرلمان لأنّها تعتبر أنّ المشاركة قد تضفي نوعًا من الشرعيّة على مسار رفضته منذ البداية. والحقيقة أنّ العديد من منظّمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية كانت أعلنت على مقاطعتها للبرلمان بصفته فاقداً للشرعيّة.

تركيبة البرلمان الجديدة يغيب عنها المختصون في مجالات حيويّة ودقيقة

لا يكمن الإشكال في هذه المواقف فقط، والتي لا يلقي رئيس الجمهوريّة أو النواب بالًا بها، بل في عمل البرلمان الذي اعتدنا - كما هو الحال في كلّ الديموقراطيّات - أن تقتصر التجاذبات السياسيّة الأكثر حدّة على قبّة البرلمان. أي أنّ العملية السياسيّة كانت تتمثّل في الدفاع عن أفكار ورؤى حسب الأيديولوجيا أو التوجّهات الحزبيّة أو المصالح في أسوأ الحالات. لكن الأمر يظلّ حبيس منظومة ومجال يحكمه القانون.

لكن اللافت أنّ قواعد اللعبة تغيّرت والعمل البرلماني  والنواب الجدد أصبحوا متموقعين في مشهديّة سياسيّة مأزومة. فالبرلمان لم يعد هو حاضنة الأضداد والخصومة السياسيّة بل بات مطالباً بالدفاع عن شرعيّته أمام طيفٍ واسعٍ من الأحزاب السياسية من مختلف التوجّهات، والتي رفضت الانخراط في المسار واعتبرت البرلمان فاقداً لكلّ شرعيّة.

البرلمان لم يعد هو حاضنة الأضداد والخصومة السياسيّة بل بات مطالباً بالدفاع عن شرعيّته أمام طيفٍ واسعٍ من الأحزاب

هذا الانقسام لا يمكن أن يمرّ دون التأثير على صورة البرلمان في الخارج ونجاعة عمله من خلال النظر في القوانين والاشتغال صلب اللجان، خاصّة إذا ما علمنا أنّ هذه التركيبة الجديدة يغيب عنها المختصون في مجالات حيويّة ودقيقة.

  • إشكاليّة عمل اللجان: بين غياب الكفاءة والبحث عن معارضة

لعلّ أبرز ما يحسب للبرلمانات السابقة هو وجود نوّاب ذوي خبرة في مجالات عملهم سجّلوا حضورهم في لجان كانت أغلب مداولاتها واجتماعاتها حول أمور تقنيّة (كالصحّة، الفلاحة…).

لقد سعى قيس سعيّد ومن خلفه نوابه الأوفياء للمسار، أن يكون البرلمان مجرّد صورة باهتة لا روح فيها بتعلّة القطع مع ترذيل الحياة السياسيّة

والمتمعّن في تركيبة البرلمان الجديدة يكتشف أن غياب المختصين في هذه المجالات سيعطّل العمل صلب اللجان إذا ما تعلّق الأمر بنقاش تقنيّ. ذلك أنّ الرّئيس في القانون الذي سنّه بصفة فرديّة فضّل أن ينصّ كل من الفصلين 61 و61 على أن النواب ممنوعون من القيام بوظائف أخرى خلال المدّة النيابيّة وهو ما جعل البرلمان يغيب عنه المختصون في القانون، الخبراء المحاسبون، الأطباء وغيرهم ممّن كانوا يشاركون بطريقة فاعلة في نقاشات اللجان.

لا يتوقّف العبث عند هذا الحدّ، فالمعمول به في كلّ مرّة أن تكون رئاسة لجنة الماليّة، وهي من أهمّ اللجان في الوضعيّة التي تعيشها تونس، من نصيب المعارضة. لكن في البرلمان الحالي، تعود إشكاليّة اللون الأوحد الذي يطغى عليه. ويبقى السؤال المطروح كيف ستسلّم رئاسة لجنة الماليّة وضمن أيّ شروط علماً وأنّ الجميع كالجوقة المتناغمة التي تشيد بمسار 25 جويلية؟ لقد سعى قيس سعيّد ومن خلفه نوابه الأوفياء للمسار، أن يكون البرلمان مجرّد صورة باهتة لا روح فيها بتعلّة القطع مع ترذيل الحياة السياسيّة.

  • من سلطة إلى وظيفة: حجّة الترذيل الواهية

حوّل دستور 2022 السلطة التشريعيّة إلى مجرّد وظيفة. وهو ما سينعكس حتماً على عمل البرلمان. إذ لا يمكن لهذا البرلمان أن يقوم بلائحة لوم ضدّ الحكومة التونسيّة إلاّ إذا كانت ممضاة من طرف نصف أعضائه ونصف أعضاء مجلس الجهات والأقاليم.

الغرفة التشريعيّة بحلّتها الجديدة ليست سوى ديكور لمشهد سياسي مأزوم. والوظيفة التشريعيّة هي مجرّد وسيلة لعرض قوانين ونقاشها مع العودة في كل مرّة إلى أعلى هرم في السلطة

لا سلطة رقابيّة إذاً للـ"وظيفة" التشريعيّة -كما يسمّيها دستور سعيّد - على الحكومة فهي لا تنبثقُ من البرلمان الذي لا يصوّت على منحها الثقة. فوجودها مرتبط برئاسة الجمهوريّة المحصّنة من كلّ مساءلة. ههنا، يمكن أن نتساءل عن دور البرلمان في المرحلة القادمة للدولة التونسيّة.

الحقيقة أنّ الغرفة التشريعيّة بحلّتها الجديدة ليست سوى ديكور لمشهد سياسي مأزوم. والوظيفة التشريعيّة هي مجرّد وسيلة لعرض قوانين ونقاشها مع العودة في كل مرّة إلى أعلى هرم في السلطة. هي ملامح نظام رئاسويٍّ تدور مؤسّساته في فلك ساكن قرطاج الذي وضع نفسه فوق كلّ محاسبة أو سؤال عن أفعاله. فالبرلمانات، تلك المؤسّسات التي تقاس بها الديموقراطيات في مختلف الأنظمة في العالم، أصبحت في تونس حاضنة لمردّدي شعارات 25 جويلية، فكانت الصورة باهتة وأقرب إلى المسرحيّة الفاشلة التي لا أحد يهتمّ بها أو بتفاصيلها. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"