18-سبتمبر-2019

ما الذي يفسر التلاعب باستطلاعات الرأي؟ (الشاذلي بن إبراهيم/Getty)

 

مقال رأي

 

يلاحظ المتمعن في انتخابات 2019 والمستكشف لتطوراتها بروز نوع جديد من التأثير الماكر على نوايا التصويت يتمثّل في التلاعب باستطلاعات الرأي ونشر نسخ مزيفة منها، حتى أن بعض مؤسّسات استطلاعات الرأي ندّدت بعمليات التلاعب باسمها التجاري وبقرصنة علامتها التجارية لنشر استطلاعات مزيفة. فما الذّي يفسّر استخدام استطلاعات الرأي أو سبر الآراء، رغم منع نشرها بالقانون، إلى وسيلة من وسائل في الدعاية المضادة الماكرة للتأثير على نوايا التصويت إرادة الناخبين؟

وجب التذكير أولًا أن القانون الانتخابي المحيّن لعام 2014 منع نشر استطلاعات الرأي طيلة الفترة الانتخابية وذلك إلى غاية غلق آخر مكتب اقتراع أي إلى غاية على الساعة السادسة من يوم الانتخابات. ومن أسباب منع نشر الانتخابات طوال هذه الفترة الطويلة هي المخاوف من من تأثيراتها كما كان الحال في انتخابات المجلس الـتأسيسي. فجاء القانون الانتخابي صارمًا بمنعه لاستطلاعات الرأي لمدة طويلة، مما جعل مؤسّسات استطلاعات الرأي تشتكي من هذا المنع بل وتصفه بأنه قرار مناف للديمقراطية وحرية التعبير. لكن ما الذي يفسر التلاعب باستطلاعات الرأي؟

يلاحظ المتمعن في انتخابات 2019 والمستكشف لتطوراتها بروز نوع جديد من التأثير الماكر على نوايا التصويت يتمثّل في التلاعب باستطلاعات الرأي ونشر نسخ مزيفة منها

اقرأ/ي أيضًا: "كيف سننتخب؟": استطلاعات الرأي.. مرآة "الرأي العام" أو آلية لصناعته؟ (4/2)

في انتخابات 2014، كان التنافس واضحًا وجليًا بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي من جهة أولى والرئيس السابق المنصف المرزوقي من جهة ثانية، وقد مرّا إلى الدور الثاني بفارق شاسع عن منافسيهم. فلم تكن هناك حاجة حينئذ لهذين المتنافسين للتلاعب باستطلاعات الرأي في سياق كان فيه الخطاب الإستقطابي قادرًا لوحده على تحفيز الناخبين إما بواسطة التصويت المفيد أو لصالح التصويت "الثوري". 

أما في انتخابات 2019 وقد غاب عنها منطق الاستقطاب، توزع المترشحون على عدة عائلات سياسية: "العائلة الحداثية" أو "الوسطية" و العائلة "الثورية" والعائلة "اليسارية"، واحتدم الصراع بين المتنافسين المنتمين للعائلة ذاتها. وهو ما يفسّر استخدام بعض المترشحين للتلاعب باستطلاعات الرأي لإبراز منافس على  حساب منافس آخر لإقناع الناخبين بأن أصواتها يجب أن تذهب إلى المترشح الأكثر حظوظًا حتى لا تذهب سدى.

التأثيرات الممكنة للتلاعب باستطلاعات  الرأي

في الحقيقة لا توجد دلائل علمية ثابتة على أن استطلاعات الرأي  لها تأثير على نوايا التصويت، لكن في المقابل لا توجد دلائل على أن هذه الاستطلاعات لا تؤثر في نوايا التصويت. لكن ما هو التأثير الذي يبحث عنه المتلاعبون باستطلاعات الرأي؟

 يسعى المتلاعبون باستطلاعات الرأي إلى وضع مرشحهم في قائمة الفائزين حتى يصنعوا هذا الأغلبية لصالحه ولإقناع الناس بأن من مصلحتهم التصويت للفائز 

أبرزت دراسة حول استطلاعات الرأي وجود تأثيرين اثنين على الأقل لاستطلاعات الرأي. يتمثل التأثير الأول في أن الناس يحبذون التصويت كالأغلبية محاكاة لها أو بتعبير آخر للمترشح الذي يُقدم على أن له أكثر حظوظًا للفوز اعتقادًا منهم بأن الأغلبية على حقّ وحتى يكونوا ضمن الفائزين ويسمّى هذا التأثير "The wagon  Band". وعلى هذا النحو، يسعى المتلاعبون باستطلاعات الرأي إلى وضع مرشحهم في قائمة الفائزين حتى يصنعوا هذا الأغلبية لصالحه ولإقناع الناس بأن من مصلحتهم التصويت للفائز وللأجدر لأن الأغلبية قد صوتت له وحتى لا يعطوا أصواتهم لخاسرين ما يجعلهم أيضًا من الخاسرين.

ويسعى فريق آخر من المتلاعبين باستطلاعات الرأي إلى وضع مرشحهم في مراتب أعلى من مرتبته الحقيقة دون أن يضعوه بالضرورة في المرتب الأولى وذلك لتحفيز ناخبيه طمعًا في ما يسمى تأثير "underdog" أي "تأثير المُستضعف".

يمكن أيضًا أن نعود إلى سياق التنافس الانتخابي لتفسير التلاعب باستطلاعات الرأي، فقد استخدم بعض المترشحين أشكالًا جديدة من الدعاية المضادة لإفساد صورة منافسيهم في إطار هذا التسابق بين المرشحين من نفس العائلة، وقد تمثلت هذه الدعاية المضادة في حملات منظمة بذكاء كبير في فيسبوك لثني الناخبين على إعطاء أصواتهم له.

الدرس المستخلص عن استطلاعات الرأي في انتظار الدور الثاني

يبتكر الفاعلون السياسيون باستمرار أنواعًا لا حصر لها للتلاعب بنوايا التصويت للتحكم في إرادة الناخبين خاصة في فيسبوك بما أنه المجال الذي يبحث فيه التونسيون عن المعلومات حول المترشحين وبرامجهم. وقد تحوّل فيسبوك إلى ساحة حرب افتراضية بين هؤلاء المترشحين  بما شمل التلاعب باستطلاعات الرأي.

 تحوّل فيسبوك إلى ساحة حرب افتراضية بين المترشحين بما شمل التلاعب باستطلاعات الرأي

ويتحمل طرفان المسؤولية في هذه الحالة التي لا شك أنها تضر بنزاهة المسار الانتخابي. الطرف الأول هو السياسيون الذي لم يلتزموا بالقانون الانتخابي الذي ينصّ صراحة في الفصل 172 على ضرورة إصدار قانون خاص باستطلاعات الرأي، وهو ما يعني أن الأحزاب السياسية ونواب الشعب لم يلتزموا باستكمال مقومات المنظومة الانتخابية.

أما الطرف الثاني المسؤول عن هذه الوضعية فهو بلا شك مؤسسات استطلاعات الرأي نفسها التي لم تنظم إلى الآن هذه المهنة عبر وضع مدونة سلوك تتضمن القواعد المثلى التي يجب أن يلتزم بها المهنيون العاملون في هذا المجال وعبر مبادرات لبناء ثقة التونسيين في استطلاعات الرأي. 

 نحن إذًا أمام حلّين: إما الاستمرار في هذه الوضعية غير الطبيعية التي أدت إلى هذه الممارسات المضرة بالمسار الانتخابي أو تنظيم هذا القطاع بشكل يتماشى مع المعايير الديمقراطية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتخابات: مبادئ التغطية الصحفية الخائبة!

في الرئاسيات.. لا تأمن السّكوت ولا تصدقن "البلعوط"