مقال رأي
هل أن إتقان اللغة الفرنسية وإجادة نطقها هو طقس العبور الأوحد إلى الحداثة والحضارة؟ هو تساؤل مشروع للمتابع لحجم الانتقادات الموجهة لوزير التربية محمد الحامدي حين نطق اللفظ الفرنسي "recule"، في الندوة الصحفية للإعلان عن إجراءات الحجر الصحي الموجه، بلكنة توحي باللحن في القول. ولا شك أن القضية مركبة ويمكن الولوج إليها من مداخل مختلفة غير أنه من المهم التأكيد على بعض النقاط.
إن اللغة المهيمنة هي بالضرورة لغة الشعوب والثقافات والحضارات السائدة والفاعلة في التاريخ. وفي هذا السياق، لا يُخفى أن اللغة الأنجليزية هي لغة العلوم والمعارف والتكنولوجيات الحديثة اليوم وربما في المستقبل، وبالتالي فإن التشبث بالفرنكوفونية في أيامنا يعد في حد ذاته حقًا "recule" أي تراجعًا وتخلفًا مركبًا. فمن المعلوم أن الفرنسيين هم اليوم يولون وجوههم نحو ثقافة شكسبير ولغته بقدر شغفنا بلغة موليير وثقافته.
إن اللغة المهيمنة هي بالضرورة لغة الشعوب والثقافات والحضارات السائدة والفاعلة في التاريخ
وسم ابن خلدون الفصل 23 من المقدمة بـ"في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، وهو يفسر ذلك بقوله: "والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه". وقد انعكس ذلك على صراع اللغات عبر تاريخ البشر، فنحن اليوم مثلا نترجم لفظ "magazin" بمغازة، لكن ألم يكن أصل "magazin" هو اللفظ العربي "مخزن"، وكذلك شأن "alcool" إذ نترجمها اليوم بالكحول في حين أن أصلها "الغَوْلٌ" لقوله تعالى "لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ".
اقرأ/ي أيضًا: تونس واللغة العربية.. لا تقدّم لمجتمع بغير لغته الوطنيّة
وتفسير ذلك جلي وواضح يتمثل في قانون التدافع والغلبة. لكن إذا كنا لا نناقش اليوم في أننا في موقع المغلوب، فمن يكون الغالب إذًا؟ في كل الأحوال وبكل المقاييس الممكنة والمتخيلة، لا يمكن أن تكون فرنسا وثقافتها.
وبهذا الفهم، هل يمكن اعتبار اللحن والتلعثم في اللغة الفرنسية مرحلة مهمة وضرورية، ناهيك أن تكون من وزير تربية، في سياق إعادة توجيه البوصلة إلى ثقافة العصر ولغته في انتظار أن تعود الأمة الى مدارها الطبيعي في الفعل الحضاري وحينها سيعود للضاد سطوتها؟
لقد كان لافتًا نزول جماهير أمريكية في "وول ستريت" وترديدها لشعار الثورة التونسية "الشعب يريد إسقاط النظام" بلغة عربية واضحة، ولكن بلكنة قد تشبه لكنة الوزير حين نطق "ركيل" .
إن كان لابد من جلد ذواتنا وذوات الآخرين فمن الأجدر أن يكون في عدم إتقان الأنجليزية
إذًا فإتقان الفرنسية مطلوب دون شك لكن على ألا يتعدى ذلك مقدار وزن الثقافة الفرنسية الفعلي في عالم المعرفة والعلم وتطبيقاته. ومن هنا فإن كان لابد من جلد ذواتنا وذوات الآخرين فمن الأجدر أن يكون في عدم إتقان الأنجليزية قبل غيرها دون أن نغفل عن الوضع الطبيعي المفقود والمنشود وهو أن تستعيد لغة القرآن ولغة الجاحظ والمتنبي ألقها القديم فتعود الرحال تشد إليها كما هي حال رحالنا اليوم في ترحالها إلى لغة موليير أو شكسبير. ولكي يتحقق ذلك لا مناص من أن نقفز من موقع المغلوب إلى موقع الغالب دون ذلك لن نغادر مواقع القابلية للاستلاب اللغوي المقيت وسنبقى في "ركيل" أي في تراجع بلا قاع.
اقرأ/ي أيضًا: