08-أغسطس-2018

الوزير الفرنسي المكلف بالفرنكفونية آلان جيوندات أثناء زيارته لتونس العاصمة سنة 2008 (آلان بنينوس/getty)

تواصلنا، في الجزء الأول من التقرير في إطار الحفر حول الفرنكفونية في تونس، مع مصممة الرقص سهام بلخوجة، وهي واحدة من أبرز وجوه الفرنكفونية في الساحة الثقافية التونسية. كما استعرضنا وجهة نظر الصغير شامخ الباحث في علم الاجتماع الذي أكد اعتبار الفرنكفونية كإحدى الأشكال الجديدة للاستعمار الفرنسي. نواصل في هذا الجزء الثاني طرقنا لملف الفرنكفونية في السياق التونسي من خلال أسماء ذاع صيتها في هذا الملف، وكذلك مواطنين فرنسيين وتونسيين لديهم ما يخبروننا أيضًا حول هذه المسألة.

اقرأي/ي أيضًا: الفرنكفونيون في تونس..."أيتام فرنسا"؟ (2/1)

فريد ممّيش... التعريب أحدث البلبلة في الشخصية التونسية

"الفرنكفونية في تونس قصّة كبيرة"، لاحظ فريد ممّيش في بداية حديثنا، منبّهًا إلى أنّ "اعتبار الفرنكفونية امتدادًا للامبريالية والهيمنة الفرنسيّتين هو أحد المفاهيم المغلوطة". ليس ممّيش سوى ممثّل رئيس الجمهورية التونسية لدى المنظمة الدّولية للفرنكفونية. يقضّي السياسيّ وأستاذ الفلسفة المتقاعد، ذو الجذور التركية، وقته بين تونس وباريس أين يقيم منذ عشرات السنين.

في إحدى المقاهي الراقية في المرسى، الضاحية الشمالية للعاصمة، وغير بعيد عن معهد "غوستاف فلوبير" الفرنسيّ، التقيت فريد وزوجته الفرنسيّة. انغمست الزوجة في مطالعة كتاب فيما أشعل ممّيش سيجاره الكوبي وقال "حتّى أواسط القرن التاسع عشر كانت تونس منغلقة على نفسها، ثمّ بدأت الحكاية عندما سافر أحمد باي إلى فرنسا فوقف على مظاهر الحداثة والتمدّن هناك وأراد النّسج على منوالها بإدخال تحويرات على هياكل الدولة والنسيج المجتمعي".

 مميش ممثل رئيس الجمهورية في المنظمة الدولية للفرنكفونية يعتبر اللغة الفرنسية ملكًا لكل الشعوب الفرنكفونية

لا يولي فريد ممّيش اهتمامًا لمن يصفونه بـ"يتيم فرنسا"، فهو يفخر بكونه قد "رضع" الفكر البورقيبي "الذي علّمنا أن نكون فخورين بأننا تونسيون"، مستطردًا "والنموذج المجتمعي الّذي بناه بورقيبة يقوم على ازدواجية ثقافية ولغوية دون مركّبات أو عقد".

ويؤكّد ممّيش أنّ "الجيل الذي تحصّل على الاستقلال وناضل من أجل إثبات الشخصية التونسية كان ثنائيّ اللّغة متشبّعًا بالثقافتين العربية والفرنسية"، مضيفًا بتأسّف "حتّى كانت أواخر السّبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي عندما ظهرت فكرة الأصالة والتعريب فزرعت بذور البلبلة في الشخصية الجماعية التونسية".

فريد ممّيش ممثل رئيس الجمهورية في المنظمة الدولية للفرنكفونية يرى أن اعتبار الفرنكفونية امتدادًا للامبريالية والهيمنة الفرنسيّتين هو أحد المفاهيم المغلوطة

يعتبر ممثّل رئيس الجمهورية في المنظمة الدولية للفرنكفونية أنّ الفرنكفونيين التونسيين متمسّكون بالأصالة العربية الإسلامية لكن عندما تكون "صافية ومغربلة من كلّ ما أثقله التاريخ ولوّث به حضارتنا"، فهم بالتالي "يحاربون كلّ مظاهر تقهقر العرب التي لا تخدم صورتهم من عنف ورداءة فكرية وعدم احترام للقيم الحضارية". ويتوجّه فريد ممّيش لمناهضي الفرنفكونية في تونس بالسؤال "إذا كان استخدام اللغة الفرنسية مسًا من الأصالة والكرامة الوطنية لأنّها مستجلبة من الخارج، فهل أنّ الديمقراطية التي نعيشها اليوم جزء من تراثنا العربي الإسلامي؟" يطرح ممّيش سؤاله ثمّ يعتدل في جلسته ليستدرك "لا تقولي لي كان هناك الشورى لأنّني سأستغرق في البكاء عندها".

دون أن تفارقه نبرة السخرية، يضرب ممّيش مثلًا عن أهمية المنظمة الدولية للفرنكفونية بطلب المملكة العربية السعودية الانضمام إليها. فـ"المملكة التي تزعم أنها المرجع الأوّل في الأصالة والتمسّك بالقيم العربية الإسلامية قد تقدّمت بطلب الانضمام إلى المنظّمة"، يتوقّف قليلًا قبل أن يضيف "لكنّ هذه الأخيرة غير راضية عنها".

عندما التقيت فريد ممّيش الذي عرفته للمرّة الأولى مستشارًا للرئيس المؤقّت فؤاد المبزّع إبّان ثورة 14 جانفي/كانون الثاني، لم تكن قد مضت بضعة أيّام على مشاركته في مهرجان الفرنكفونية بمحافظة سوسة الساحلية في دورته الأولى. قدّم ساعتها ممّيش مداخلة ركّز فيها على أهمية اللغة الفرنسية في تونس منذ عهد بورقيبة الذي كان من أبرز المتشبّعين بالثقافة الفرنكفونية وفق تعبيره.

فريد ممّيش: لم تعد الفرنسية حكرًا على الفرنسيين بل هي ملك لكلّ الشعوب الفرنكفونية

يدافع ممثّل رئيس الجمهورية التونسية لدى المنظمة الدولية للفرنكفونية عن ضرورة مواصلة استخدام الفرنسية في تونس لمزيد اكتساب الثقافة والقيم التقدّمية ولأهداف اقتصادية بالأساس. فهو يرى أنّ "الفضاء الفرنكفوني عبارة عن شبكة عنكبوتية تتكثّف داخلها العلاقات وفرص الاستثمار"، متسائلًا "لم نحرم أنفسنا من هذه الفرص بسبب الإيديولوجيا؟"

"الاستعماريون الفرنسيون كلاب أبناء كلاب ونجحنا في طردهم"، يحدّثني ممّيش دون أن يفارق السّيجار يده، لكنّنا غنمنا شيئًا هامًا من تلك الحرب ضدّهم وهو اللّغة الفرنسية"، مضيفًا "لم تعد الفرنسية حكرًا على الفرنسيين بل هي ملك لكلّ الشعوب الفرنكفونية". ومقابل "الاستعماريين الكلاب" كما وصفهم، يثمّن مستشار الرئيس الأسبق وممثّل الرئيس الحالي جهود فرنسيين آخرين كانت لهم "أياد بيضاء" في تونس خلال الفترة الاستعمارية سواء بمساندتهم مطلب الاستقلال أو بتقديمهم خدمات للتونسيين على غرار الطبيب شارل نيكول والذي يحمل أحد أكبر مستشفيات تونس اسمه.

كما يشدّد فريد ممّيش على أنّ تعلّق التونسيين بالفرنكفونية يقابله أيضًا تعلّق الفرنسيين بتونس، مبيّنًا أنّ عددًا منهم بقوا هنا بعد رحيل الاستعمار فيما يختار آخرون لم يعايشوا تلك الفترة الاستقرار في تونس لما تمثّله لديهم من "قيم جميلة" أهمّها الحفاوة وحسن الضيافة وقبول الآخر.

الفرنسيّون يحنّون إلى تونس

في بيت عتيق يطلّ على كورنيش المهدية، يقطن جيرارد بورشوري وزوجته منذ ما يزيد عن 12 عامًا. في الطّريق إلى هذه المحافظة التي تبعد نحو 200 كلم عن العاصمة، كنت شديدة القلق جرّاء اعتذار السيدات الفرنسيات الأربع اللّواتي سبق لي الاتّصال بهنّ عن إجراء الحوار وحدهنّ أو برفقة أزواجهنّ. كنت أعرف أنّ عشرات الفرنسيين قدموا إلى هذه المدينة الساحرة الواقعة على البحر المتوسّط واستقرّوا بها لقضاء تقاعدهم بين أحضان الطبيعة وسكونها. طرقت أبوابًا كثيرة رفقة زميلة تعمل في إذاعة محليّة هناك، حتّى فتحت لنا زوجة جيرارد الباب.

آثرت هذه الأخيرة عدم مشاركة زوجها التصوير لأنّها "لا تحبّ الكاميرا". أمّا جيرارد فقد ارتدى سترته الشتوية وتوشّح شاله الصوفي ليرافقنا إلى مكانه المفضّل في المدينة. "أنا حقًا أعشق هذا الخليج"، لا يخفي جيرارد بورشوري سعادته بالعيش على ضفاف كورنيش المهدية فهنا تحديدًا وقع أسير تونس وقرّر الاستقرار بها.

الفرنسي جيرارد بورشوري يقطن مدينة المهدية الساحلية منذ ما يزيد عن 12 سنة

"لون البحر يتغيّر دائمًا... هناك شيء يشبه السّحر في المهدية". هكذا يقول جيرارد، واصفًا سرّ تعلّقه بالمكان. فمنذ 12 عامًا، حلّ الفرنسي وزوجته بهذه المدينة واقتنيا بيتهما العتيق. مضت 9 سنوات بأكملها على آخر زيارة لهما إلى الوطن فرنسا. يتذكّر جيرارد أنّه قد تعرّض في بداية عيشه في تونس إلى بعض المضايقات من أهل المدينة وحتى رئيس البلدية الذين لم يتقبّلوا فكرة أن ينازعهم فرنسي الأرض والبحر. غير أنّه بمضيّ الوقت، تعوّد الأهالي وجود الزوجين وتقبّلاه وتوقّفت المضايقات.

اقرأ/ي أيضًا: متاحف الجيش التونسي: صون للذاكرة والتاريخ وذود آخر عن الوطن

بدأت قصّة عشق بورشوري لتونس منذ أكثر من 40 عامًا كان خلالها يتردّد على البلد من حين إلى آخر لقضاء العطل في "مرسى القنطاوي" بمدينة سوسة. وهو يتساءل عمّا يحول دون قدوم عدد أكبر من الفرنسيين لقضاء تقاعدهم في تونس "إذ أنّ الشتاء هنا دافئ" والتونسيين يستقبلون ضيوفهم "بحفاوة"، زد على ذلك فـ"المعيشة في تونس أرخص".

وكانت إحصائيات رسمية فرنسية قد أظهرت وجود تونس ضمن العشرين بلدًا الأكثر تواجدا للمغتربين الفرنسيين بـ22،238 مغتربًا يعيشون في مدن تونسية مختلفة.

يخرج جيرارد بورشوري كلّ صباح لممارسة رياضة المشي على ضفاف الكورنيش وحده أو برفقة زوجته. لا يفكّر الرّجل في ماضي العلاقات بين تونس وفرنسا قدر تفكيره في "حاضره السّعيد" في ربوع شبه الجزيرة، مؤكّدًا أنّه "فرنسي منحته تونس الشعور بالرّضا والسعادة". وإن كان أجداد جيرارد قد غادروا تونس مدحورين فإنّه قد عاد إليها بمحض إرادته عاشقًا.

"الفرنسية إرث جميل رغم مساوئ الاستعمار"

مقهى "جران كافي دي لا بي" (Grand Café de la Paix) وسط مدينة صفاقس مركز محافظة صفاقس التي تبعد 270 كلم عن العاصمة تونس. هنا يشرب توفيق قلمون كلّ يوم قهوة الصّباح مطالعًا في الآن ذاته أخبار الوطن والعالم في جريدته الناطقة باللغة الفرنسية. لا يفارق يالبيريه، قبّعة الرّأس الفرنسية بامتياز، أستاذ اللغة الفرنسية المتقاعد في تناغم مع أناقته الغربية الملفتة. لكنّ لسانه، وهو يتحسّر على ما لمسه من تقهقر للغة الفرنسية والثقافة الفرنكفونية في تونس، لسان عربيّ بلهجة تونسية- صفاقسية أصيلة لا تشوبها كلمات فرنسية كثيرة. 

يترأس توفيق قلمون فرع صفاقس في الجمعية التونسية لبيداغوجية اللّغة الفرنسية

"رغم مساوئ الاستعمار، تركت لنا فرنسا إرثًا جميلًا"، يبيّن توفيق قلمون معدّدًا مزايا اللغة الفرنسية التي "تربّى عليها" والتي فتحت عينيه وأعين أبناء جيله على الأدب الفرنسي والفنون وحقوق الإنسان. لكنّه يلاحظ بكلّ أسى وفق تعبيره عزوف الأجيال الشابّة عن النهل من منابع الثقافة الفرنسية مقابل تنامي اهتمامها بالثقافة الأنجلو-ساكسونية. ويأمل في هذا الصّدد أن تساهم استضافة تونس لقمّة الفرنكفونية عام 2020 في إعادة إحياء هذه الثقافة داخل قلوب التونسيين.

وكان الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون قد أعلن بمناسبة زيارته إلى تونس في فيفري/شباط الماضي عن رغبته في "إعطاء دفعة للفرنكفونية في تونس" عبر "مضاعفة عدد متعلّمي الفرنسية خلال سنتين" أي حتى انعقاد قمّة الفرنكفونية في 2020.

قضّى قلمون جانبًا كبيرًا من صباه وشبابه في نادي السينما الطاهر شريعة بصفاقس مع أصدقاء فرنكفونيين، ويقضّي اليوم معظم أوقاته بين مقرّ الجمعية التي ينشط فيها ومكتبة "المعهد الفرنسي"، أو كما يحلو لأهل المدينة تسميتها "دار فرنسا". كنت قد اتّصلت بإدارة المعهد الفرنسي في صفاقس لطلب الإذن بالتصوير في المكتبة مع الأستاذ توفيق قلمون، غير أنّني تلقّيت منهم مكالمة هاتفية عشيّة الموعد المفترض يعتذرون فيها لـ"حاجتهم إلى مزيد من الوقت للنظر في الطّلب". اكتفيت لاحقًا بتصوير "دار فرنسا" عن بعد لوجود عوني أمن واقفين أمامها.

المعهد الفرنسي أو "دار فرنسا" في مدينة صفاقس

في هذه المدينة، كعدد من المدن التونسية، يحضر المعمار الفرنسي بقوّة. ولئن تعدّدت المباني التي شيّدت في الفترة الاستعمارية على النمط المعماري الفرنسي الخالص، فإنّ مباني أخرى، على غرار مقرّ البلديّة، تتميّز بجمعها بين المعمار الإسلامي الأندلسي والمعمار الغربي الفرنسي.

يعتبر توفيق قلمون، الذي يكتب القصص والشعر والمقالات بلغة "موليير"، أنّه عربي مسلم من حيث الانتماء، أمّا الفرنكفونية فهي نافذة على عالم الأدب والفنون والعلم. غير أنّه يقرّ بحجم تأثير هذه الثقافة عليه وعلى عائلته. فقد شيّد بيته على نمط "الفيلا" الفرنسية، وأخذ عن الفرنسيين "طريقة الأكل وأدوات الطعام والملبس والأناقة".

ينشط توفيق قلمون صلب الجمعية التونسية لبيداغوجية اللّغة الفرنسية التي يترأّس فرعها في صفاقس. وكثيرًا ما يلتقي أصدقاءه أو زملاءه القدامى في المقهى للعمل على إعداد نشاط جديد أو تبادل الأفكار والآراء حول المستجدّات الثقافية والسياسية محلّيًا وعالميًا. في ذلك الإطار، يطلق توفيق العنان للسانه الفرنسي. "لا علاقة لي بالسياسة الفرنسية تجاه تونس فأنا معنيّ فقط بكلّ ما هو ثقافي إنساني"، يؤكّد أستاذ الفرنسية سابقًا.

فيديو: الفرنكفونية.. واقع معيش في تونس؟

ثلاث سيّدات تونسيات تسكن فرنسا بيوتهنّ

في فيلا فخمة مطلّة على كورنيش بنزرت، شمال العاصمة تونس، التقيت سميرة وأحلام وجليلة. ثلاث سيدات تونسيات فرنكفونيات وفخورات بذلك. تنشط سميرة، فنّيّة أسنان متقاعدة، في عدد من الجمعيات إضافة إلى أحد الأحزاب السياسية الحاكمة. تقول "كنت وسأشعر دائمًا أنّني فرنكفونية أكثر حتّى من الفرنسيين". وتضيف "لا أخشى اتّهامي بخدمة المعسكر الفرنسي".

اقرأ/ي أيضًا: الأخوان حفوز.. قصة مناضلين تونسيين اغتالتهما اليد الحمراء

سميرة الأخت الكبرى لأحلام، وإذا اختارت الأولى الدفاع عن قيم الفرنكفونية في المجال العامّ، فإنّ الثانية، ربّة بيت، تفعل ذلك في إطار ما يسمح به الفضاء الخاصّ داخل بيتها. وربّما تذهب أحلام أبعد من سميرة في دفاعها عمّا تمثّله الفرنكفونية بالنسبة إليها. "إذا كان كوني عربية مسلمة يعني أن أتحوّل إلى إرهابية فأنا أفضّل أن أكون فرنكفونية، بل وأن أغيّر جنسيّتي حتّى. لا مشكلة لديّ في ذلك".

تشاهد السيدات الثلاث في بيوتهنّ القنوات الفرنسية بكثرة، حتّى أنّ جليلة، موظّفة متقاعدة، تجزم أنّ "فرنسا موجودة في بيوتنا بالفعل من خلال التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي". تعشق هذه الأخيرة الفرنكفونية لما تحمله من "انفتاح على آفاق جديدة" وتعتبرها ضرورية "لنا، لتقدّمنا ولأطفالنا" مؤكّدة أنّ وصف "أيتام فرنسا" لا يعني شيئًا لها ولا يزعجها مطلقًا.

ثلاث سيدات تونسيات يفتخرن بالفرنكفونية ويدافعن عنها باستماتة

كلّ صباح، تخرج السيدات الثلاث لممارسة رياضة المشي على الكورنيش. تثير سميرة وأحلام وجليلة انتباه المارّة دائمًا وخاصّة السيدات الملتزمات اللواتي "يحسدنهنّ على نمط حياتهنّ العصريّ" كما تقلن. "الفرنكفونية طقوس وأسلوب حياة وقيم تقدّمية وليست فقط إتقانًا للغة"، هكذا تقول جليلة.

"قبل الثورة، إذا صحّ تسميتها كذلك، كنت أثق كثيرًا في وعي الشعب التونسي"، تضيف أحلام متحسّرة "لكن تبيّن أنّ 70 في المائة من التونسيين بما فيهم السياسيين معقّدون". تستنكر الأخت الصغرى قيام الإعلاميين والمتدخّلين في الإذاعات والقنوات التلفزية بالترجمة الفورية للعبارات التي يستخدمونها من الفرنسية إلى العربية. "لم هذه العقد؟ ولم نحرم الفرنكفونيين، كزوجي، من فهم ما يقال في الإعلام؟" تتساءل أحلام قبل أن تضيف "المفروض أن يكون هناك قنوات تونسية ناطقة بالفرنسية وأخرى بالعربية ليجد كلّ تونسي ضالّته وفق خلفيّته الثقافية".

 أحلام تونسية مدافعة عن الفرنكفونية تقول: إذا كان كوني عربية مسلمة يعني أن أتحوّل إلى إرهابية فأنا أفضّل أن أكون فرنكفونية بل وحتّى أن أغيّر جنسيّتي 

في حين تعتبر جليلة نفسها ضمن أقليّة فرنكفونية، ترفض أحلام وصف الفرنكفونيين التونسيّين بـ"الأقليّة"، موضّحة أنّه حتى وإن كان الحال كذلك فإنّ دولة نامية مثل تونس تطمح إلى ترسيخ الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان ملزمة باحترام هذه الأقليّة. في المقابل، يثير وضع تعليم اللغة الفرنسية أسف هذه السيدة لما آل إليه من تقهقر خاصّة لدى الشباب. فهي ترى أنّه يتوجّب إمّا إعادة مجد اللغة الفرنسية وتعليمها بشكل ناجع في المدارس والمعاهد أو التخلّي عنها نهائيًا كي لا تتواصل "مجزرة اللغة الفرنسية" وفق تعبيرها.

أدّى تراجع الثقافة الفرنكفونية إلى تنامي الفكر المتشدّد لدى الشباب التونسيين، وفق أحلام. فهي تعتبر أنّ الفرنفكفونية تعلّم التسامح بالأساس، قيمة لم تكن موجودة في تونس قبل حلول فرنسا الاستعمارية بها في اعتقادها. وتضيف متسائلة "هل كانت لدينا حقوق إنسان في عهد البايات مثلًا؟ لم نخجل من تعلّم أشياء إيجابية ممّن يفوقوننا درجة في العلم والقيم؟".

"أيتام فرنسا"؟ عودة السّجال...

أثناء اشتغالنا على القصّة، عاد السّجال حول الفرنكفونية والفرنكفونيين بقوّة. حيث أدّى نشر هيئة الحقيقة والكرامة لوثائق أرشيفية تظهر مواصلة فرنسا استغلال ثروات تونس بعد الاستقلال، إلى انقسام جديد في صفوف التونسيين بين من يتبنّى ما جاءت به الهيئة ويشكّك بالتالي في حصول تونس على استقلالها التامّ ومن يندّد بتوقيت عرض هذه الوثائق ويرفض القول بمواصلة المستعمر السابق استغلال ثروات البلاد خاصّة الباطنية منها. فتح هذا السّجال الباب مجدّدًا أمام تقاذف التّهم ووصف الرافضون للقول باستغلال فرنسا ثورات البلاد بـ"حثالة الفرنكفونية" و"أيتام فرنسا".

قبل ذلك بفترة وأثناء لقائي به، كنت قد وجّهت بالفعل سؤالًا إلى فريد ممّيش ممثّل رئيس الجمهورية لدى المنظمة الدولية للفرنكفونية عن حقيقة الاستغلال المجحف للثروات الباطنية التونسية من قبل الشركات الفرنسية. قال ممّيش وقتها إنّ "ذلك كلّه كذب وبهتان"، متسائلًا "لم لم يكن هذا الموضوع يطرح من قبل؟" وشدّد على أنّ "تونس تواجه مشكلة ترويج بالأساس ثمّ سوء تصرّف وحوكمة ولا دخل لفرنسا في ذلك".

عاد السّجال حول الفرنكفونية والفرنكفونيين بقوّة بمناسبة نشر هيئة الحقيقة والكرامة لوثائق أرشيفية تظهر مواصلة فرنسا استغلال ثروات تونس بعد الاستقلال

وتوجّه فريد ممّيش إلى المناوئين لفرنسا والفرنكفونية والذين يعتقدون أنّ ثروات البلاد لا تزال بأيدي المستعمر السابق بالقول "تخلّصوا من عقدكم. وإذا رأيتم يومًا فرنسا تطغى أو تهمين أو تحاول الاستيلاء على ثرواتنا فلديكم حرية التعبير. ندّدوا بذلك...عبّروا". أمّا عن تدخّل فرنسا في الشأن التونسي، فرفض ممّيش القول بذلك ذلك تمامًا، مبيّنًا أنه "لو كانت فرنسا تتدخّل فعلًا لما كان حالنا هكذا"، قبل أن يستدرك "لكن على أيّ حال أنا كتونسي لن أقبل بتدخّلها".

ممّيش، وبلخوجة، وقلمون وسيّدات بنزرت الثلاث جميعهم فرنكفونيون ولكلّ منهم قصّته المختلفة. هم "أيتام فرنسا" في أعين غيرهم و"تونسيون فرنكفونيون" في أعين أنفسهم. هل تسنّى لي الإجابة عن العنوان/السؤال؟ أعتقد أنّ السؤال سيبقى ما بقي الإنسان على أرض تونس، لكنّ أجوبة كثيرة تكمن في تفاصيل القصّة نفسها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

علي الزليطني.. قصة أحد مناضلي الاستقلال المنسيين

جولة في "الجلاز".. ذاكرة الوطن للنسيان