13-أبريل-2020

بدأ التململ في صفوف التونسيين حول جدوى الحجر وآجاله (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

مع بداية الأسبوع الرابع من الحجر الصحي العام الذي فرضته الحكومة في تونس بعد مطلب شعبي عام، بدأ التململ هنا وهناك في صفوف التونسيين حول مدى جدوى هذا الحجر وآجاله، والأسباب متعددة بين من ضاق ضرعًا بحريته المسلوبة، ولو طوعيًا، ومن شكك في قدرة السلطات على احتواء فيروس كورونا في ظل الأخبار الواردة حول تواصل موجة الفيروس حتى الخريف القادم.

اقرأ/ي أيضًا: "ذكورية الكورونا".. أو حين تحمل الأنثى وزر الأوبئة

من جهة أخرى وفي النطاق الدولي الأوسع، أبدى الكثير من المفكرين والأكادميين حول العالم استياءهم من التعامل الفاشل إلى حد الآن مع الجائحة، والحال أن تضارب الدارسات وتباينها مع ازدياد الإصابات والموتى لا يبشر بأي تطورات إيجابية على المدى القريب. فكيف سيؤثر هذا الذهول في التعامل مع الفيروس على نظرة الإنسان للعلم، والعلماء أيضًا، بعد العجز عن حل المعضلة؟ وكيف أدى تسييس الجائحة والصخب الإعلامي المحتدم إلى تعقيد الوضع؟ ثم ماهي الملامح المتوقعة لعالم ما بعد الكورونا؟

رضينا بالحجر... لكن إلى متى؟

"تشاؤم العقل لا يقاومه إلا تفاؤل الإرادة "، بمثل قول غرامشي هذا أنهى الإعلامي خالد كرونة مقاله، أين أعلن هذا الأخير تبرمه من الإجراءات الحكومية المتخذة، والتي لا أفق لها في القريب العاجل حسب رأيه، ولا بوادر فعلية لحل الأزمة. في الواقع، هذا الكلام، رغم الرعب الذي يثيره، فهو يحمل كثيرًا من الحقيقة. فرغم تراجع الإصابات، فإن أغلب الحالات المسجلة على الصعيد الوطني في الأسبوع الفارط هي من حالات سابقة عادتها الإصابة، ناهيك عن حالات العدوى الأفقية مجهولة المصدر.

آن الأوان لتحويل الاعتمادات المرصودة في التوقي من هذا المرض لإجراء اختبارات بالجملة على المنوال الألماني والسويدي بدل سجن الناس في منازلهم

الحل؟ أضم صوتي إلى خالد والكثيري، كبروفيسور الإحصاء بكلية العلوم بصفاقس عبد الحميد الحصايري، ممن يرون أنه آن الأوان لتحويل الاعتمادات المرصودة في التوقي من هذا المرض لإجراء اختبارات بالجملة على المنوال الألماني والسويدي بدل سجن الناس في منازلهم، والتي صارت كأقفاص الخوف نتيجة القصف المعلوماتي المتواصل.

 فبعد مرور أكثر من شهر على تسجيل أول إصابة بالمرض، أرى أنه قد وجب إنهاء فترة الترقب والمرور إلى الحركة بعد أن أنهي جل الوافدين من خارج البلاد حجرهم الصحي، فالأرجح الآن هو الشروع في إصدار "شهادة سلامة وطنية" عبر إجراء أكبر عدد ممكن من التحاليل، واتخاذ إجراءات فعلية واضحة كالمضي في الاختبارات الوطنية والأنشطة الفلاحية الموسمية بالمحافظة على الإجراءات الوقائية اللازمة  بدل تنويم المواطنين بأنها "أيام معدودات"، وخاصة بعد تصريحات من قادة العالم كرئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو أن الأزمة، في ظل المعطيات الحالية، ستستمر لمدة أشهر قادمة.

 لكن ماذا عن العدوى؟ أظن أن الوقت حان أيضًا لمواجهة الحقيقة، فنحن نجهل تمامًا ماهية هذا الفيروس حتى الآن، فضلًا عن طريقة انتقاله. إن الدراسات، صينية المصدر، التي تفيد أن الفيروس يمكن أن يبقى حيًا على الأسطح كمقابض الأبواب والهواتف أثارت سخرية المكلف بتقصي أمر الفيروس، البروفيسور هندريك شتريك، في مقاطعة هايزنبرغ شمال ألمانيا والتي تصنف "ووهان" الألمانية. كما أوضح عالم الفيروسات في دراسة نشرها أن العدوى ليست سهلة كما هو سائد ولا حتى بالمصافحة. فماذا بعد هذا؟

الارتجال والاعتباطية عنوانا المرحلة

هل أصبح تزييف الحقائق سنة سياسية؟  فلننظر إلى ماذا أدت الدعاية الإعلامية العالمية من انتشار لموجات الهلع و الفزع سريعًا بادئ الأمر خدمة لمصالح كارتيلات صناعة الأدوية، والتي تسابقت للظفر ببراءة اختراع دواء لهذا المرض قصد ربح الآلاف من المليارات، و لكن تشاء الأقدار، أو الكورونا، إلا أن تلقننا الدرس تلو الدرس، فكما قال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في حواره مع جريدة " سي أن أر أس"، "آمل أن نكف بعد هذا الوباء العالمي عن التعامل مع العلم على أساس أنه مجرد فهرس لدغمائيات جامدة"، بمعنى أن الكثير من العلماء باتوا يتعاملون مع العلم كأنه مجموعات من "الكودات" الدغمائية والتي تؤدي صرفًا إلى نتيجة مهما استعصى الإشكال المطروح أمامها.

 تأخرت الحكومة في اعتماد حجر صحي أولي إجباري لكل وافد من الخارج والأخذ بتحذيرات منظمة الصحة العالمية

من جهتي، ساءني ما عمدت إليه حكومة إلياس الفخفاخ من اعتباطية وارتجال في اتخاذ القرارات وهي قرارات شعبوية متأخرة حينًا ومتسرعة حينًا آخر. فلقد تأخرت الحكومة في اعتماد حجر صحي أولي إجباري لكل وافد من الخارج والأخذ بتحذيرات منظمة الصحة العالمية حينها أم أنه كما نقول بالعامية "المتفرج فارس" و "اللوم بعد القضاء بدعة". حسنًا، ماذا عن القرارات الشعبوية المتسرعة في تبشير الناس بتوزيع إعانات اجتماعية ومساعدات مالية دون الإعداد لذلك، فرأينا طوابير وتجمعات أقل ما يمكن وصفها بأنها مرعبة، والتي ساءت من جهة كثيرًا من المهتمين بالشأن العام، كما أهانت مهمشين قادتهم غريزة البقاء نحو نيل ما يسد رمقهم بعد أن صرح العديد منهم مرارًا بأنه لا فرق عندهم بين الموت جوعًا والموت بالكورونا، هذا إن اعتبروا أنفسهم أحياء وهذا موضوع آخر.

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد الكورونا؟ توقعات متضادة

ربما هذا الارتجال وهذه المغالطات تنضوي تحت البروتوكلات السياسية والنواميس الدولية؟ فعلًا، يبدو ذلك وارد باعتبار المثال الفرنسي، حيث عمد السياسيون الفرنسيون من خلال ترسانتهم الإعلامية، بادئ الأمر إلى نشر أنه لا جدوى من ارتداء الأقنعة، ولكن الحقيقة حينها أنها لم تكن متوفرة، ثم التشكيك في جدوى التحاليل قبل أن يتضح أنها لا تكفي للجميع.

إن هذا الخداع الجماعي الموجه هو ما دفع المفكر ميشال أونفراي للتضامن مع صديقه، حسب وصفه فيما كتبه على موقعه الخاص، البروفيسور يساري الهوى ديديه راؤول "الطبيب المتمرد على الحوض الباريسي" حسب تعبير المؤرخ إيمانويل ترود، والذي يوصف أيضًا بطبيب "السترات الصفراء" في إشارة لتضامنه مع الغلابة والمسحوقين اجتماعيًا. إذ قام الرئيس الفرنسي بزيارة مركز الأبحاث الطبية بمرسيليا أين يزاول البروفيسور راوول عمله رفقة أحبابه من عرب وأفارقة، تحت ضغط عريضة إلكترونية أطلقها آلاف الأطباء بعنوان "كفى إضاعة للوقت" إذ نادوا باستعمال "الكلوركين" وبعض العقاقير الأخرى، لمجابهة شبح الموت الذي ألقى بضلاله على بلد الأنوار، بعد أن هاجم أمراء المخابر والأبحاث الباريسيون في البداية ما نادي إليه البروفيسور خوفًا من أن يسرق منهم الأضواء استرضاءً لتضخم ذواتهم المستعلية واستجابة لإيعاز من بارونات الصناعات الصيدلية، وربما الأمر ينسحب أيضًا على المثال التونسي في هذا الشأن، و لكن القطاع الصيدلي الخاص في بلدنا العزيز ليس إلا مجموعة من تجار وقطاع الطرق وسماسرة مع الأسف وبالتالي لا أستطيع أن ألومهم ولا أن أطالبهم بأكثر مما جبلوا عليه من انتهازية.

في منطقة زمانية وجغرافية أخرى، بالتحديد الولايات المتحدة، ذهب الناقد والمفكر نعوم تشومسكي، في حوار أجراه مؤخرًا، إلى تسليط الضوء على تقاعس النظام العالمي، والولايات المتحدة خاصة، في اتخاذ إجراءات استباقية للتعامل مع الوباء باعتبار حالتي عدوى فيروسية مشابهتين سنتي 2003 و2012. أود هنا أن أذكر أن الفيروس الحالي هو من نفس العائلة الفيروسية للحالتين المذكورتين، مما يدعو إلى التساؤل حقًا عن أسباب عدم اتخاذ إجراءات استباقية وتحضير خطط استراتيجية في إطار الدور الاستشرافي للقيادة العالمية. في نفس الحوار، أوعز المفكر هذا التخاذل المشين إلى أن مبادئ الرأسمالية النيوليبرالية الربحية صرفًا والتي، حسب تعبيره، لا ترى أي منافع في الاستثمار في التحضير لتفادي كوارث مستقبلية توقعوا باستهتار أنها لن تقع، أو فضلوا أن يصدقوا ذلك.

العالم بين اللايقين والاستشراف

 أود أن أوضح هنا أني لست أنكر أني أتبنى فلسفة(5) ادغار موران في عدم اليقين المطلق، وأني أفضل أن أعيش بعدم اليقين في بحر المتغيرات الذي يحيط بنا، موران الذي ظل وفيًا لفلسفته "انتظر ما لا تنتظره"، والتي يعتبرها خلاصة تجربته الحياتية. كما ذهب الفيلسوف إلى تبرير تشتت الناس من تباين الدراسات واختلاف العلماء، إلى أن هذه التباينات هي التي تدفع بالعلم إلى التقدم، كما تعزز المناظرات الفكرية أسس الديموقراطية، مذكرًا بالحيرة التي ضربت العلماء حين اكتشاف مرض الإيدز في الثمانينيات.

اقرأ/ي أيضًا: حوارات | كيف يفهم كبار أساتذة الفلسفة في تونس أزمة كورونا؟

من جهة أخرى، لا يخفى على أحد أن السعي المحموم نحو العولمة وما يرافقه من تنافس اقتصادي قد أنهك الكوكب والعالم، وما الكورونا إلا ناقوس لبداية عصر جديد حيث سينحسر الدور القيادي للولايات المتحدة وسيلمع دور المارد الصيني أكثر، حسب ما أجمع عليه خبراء مجلة "فوراين بوليسي"، كما ذهب أغلبهم إلى التنبؤ بحذر بأن العولمة ستتخذ شكلًا آخر، حيث ستعود القوميات للواجهة، مع انفتاح محتشم وحرية أقل ورجوع مفهوم الدولة الوطنية بعد الفشل المروع للعولمة في مواجهة الكورونا. في حين ذهب جانب آخر من الخبراء أكثر تفاؤل إلى أنه إن نجى النظام العالمي الحالي فسيتعزز التعاون الفعال بين قادة العالم في المحاور الدولية المشتركة مستقبلًا.

 لا يخفى على أحد أن السعي المحموم نحو العولمة وما يرافقه من تنافس اقتصادي قد أنهك الكوكب والعالم، وما الكورونا إلا ناقوس لبداية عصر جديد

على الصعيد الاقتصادي، يكاد يجمع الخبراء في نفس المجلة على تراجع الإنتاج الصناعي، أو على الأقل تغير النمط الصناعي العالمي الحالي، وحذروا أيضًا من تداعيات ذلك اجتماعيًا خصوصًا في البلدان النامية بسبب البطالة المرتقبة التي يمكن استشرافها من التهاوي المدوي لعديد البورصات العالمية، ضف إلى ذلك اندثار التجارة الداخلية والسياحة والفلاحة التصديرية أيضًا.

بنهاية هذا الأسبوع الثالث من الحجر الصحي العام، وفيما يخص الاختبارات، يمكن القول إن الأرقام الحكومية تدفع نحو الإيجابية والتفاؤل، أو هكذا نريد أن نعتقد على أمل انتهاء هذا الحجر والمرور، كما أشرت سابقًا، إلى المباشرة في إعادة النسق العادي للحياة في تونس، ولكن لا يخفى على أحد أن هاجس قلة الاختبارات المجراة يبقى جاثمًا على النفوس فلا يمكن الجزم لا بفشل الخطة الحكومية ولا بنجاحها.

 أخيرًا، إن الآمال والقراءات لما بعد الكورونا ترتبط بالخلفيات الفكرية لأصحابها، فبين يساريين مهللين وبين ليبراليين متشائمين ويمينيين مترقبين، تبقى الجموع الغفيرة والأغلبية الساحقة من البسطاء والمهمشين خارج حسابات الكثيرين، لكن على رأي الكاتبة الأميركية ريبيكا سبانج والتي وصفت في مقالها الأجواء الحالية في بلادها بالثورية، حيث تمر التغيرات الحقيقية والملموسة من خلال أصابع هذه الجماهير أثناء صراعها الأزلي والفطري للبقاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكورونا.. الصحة مقابل الحرية

الإنسان والمجال المكورن