10-مارس-2022

رحلة البحث عن "السميد" تتواصل يوميًا لساعات وقد تنتهي غالبًا بلا نتيجة (Simona Granati / Corbis)

مقال رأي

 

تصدير:

"أثبتت الأيام أنّ الحرية دون خبز، تجعلنا مستعمرة عراة، وأنّ الخبز دون الحرية، يحولنا إلى قفص عصافير". (جلال عامر)

"وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى، وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة، من ثلاثة أحرف، لكل هذه المحتويات وتضيق بنا؟". (محمود درويش)


أصبح البحث عن "كيلو سميد" مهمة يومية تقوم بها "سماح" قبل فتح محل "الملاوي" الذي تعمل به وتقتات منه منذ ما يناهز الأربعة أشهر.. رحلة بحث تتواصل يوميًا لساعات، وقد تنتهي غالبًا بعودتها بخفي حنين فتضطر للإبقاء على محلّها الصغير مغلقًا…

أصبح البحث عن "كيلو سميد" مهمة يومية تقوم بها "سماح" قبل فتح محل "الملاوي" الذي تعمل به وتقتات منه منذ ما يناهز الأربعة أشهر.. رحلة بحث تتواصل لساعات، وقد تنتهي غالبًا بعودتها بخفي حنين

"سماح"، لِمن لا يتذكرها، هي الصحفية التي كنا أثرنا قصتها في مقال سابق عن خريجي تعليم عالٍ اضطرتهم الظروف إلى امتهان أشغال هشّة لا علاقة لها بتخصصهم الأكاديمي، والتي وجدت نفسها بسبب "الأوضاع السياسية" في تونس بلا عمل إثر تعليق أعمال البرلمان، باعتبارها كانت تعمل كمساعدة برلمانية"، فاضطرت لفتح محل صغير في الحيّ الذي تقطن فيه لبيع أكلات خفيفة كسندويتشات "الملاوي" و"الشباتي" (أصناف من الخبز المنزلي)...

اقرأ/ي أيضًا: لجؤوا لبيع "الملاوي" و"الفريب" ومهن أخرى..قصص عن خريجي تعليم عالٍ غيروا طريقهم

المهم ليس ذا موضوعنا اليوم.. فمحور حديثنا هنا "السميد"، وما أدراك ما "السميد"، الذي باتت تنطبق عليه مقولة "إن الإنسان لا يعرف قيمة الشيء إلا إذا فقده".. فمن كان يتصوّر أن ما يحدث في أصقاع الأرض بين روسيا وأوكرانيا سيؤثر على "سماح"، التي وقفت تُحصي ما تبقى لها من رقائق "الملاوي" بينما يتردد في خلدها سؤال "من أين سآتي بالمزيد من السميد؟"، في حيّ ناءٍ بـ"المرناقية" إحدى المناطق الشعبية بولاية منوبة من الدولة التونسية في القارة الإفريقية...

عندما رَسَت سماح على فكرة فتح محلٍّ لبيع الملاوي وجدت صعوبة في الحصول على الزيت النباتي باعتباره مفقودًا في تونس ومن النادر الحصول عليه بسهولة.. لكنها لم تتوقّع بالمرّة أن يتطوّر الوضع ويصبح حتى "السميد" عملة نادرة

عندما رَسَت سماح على فكرة فتح محلٍّ لبيع الملاوي -على صعوبتها فقد عوّضت ارتداءَ البدلاتِ الأنيقة الرسمية بلِبسِ مئزر مطبخٍ، وحضورَ اجتماعات اللجان البرلمانية والجلسات العامة بدعكِ العجين في محلّ للمأكولات السريعة- وجدت صعوبة في الحصول على الزيت النباتي باعتباره مفقودًا منذ سنوات في تونس ومن النادر الحصول عليه بسهولة.. لكنها لم تتوقّع بالمرّة أن يتطوّر الوضع ويصبح حتى "السميد" عملة نادرة في ظرف أسابيع قليلة من مباشرة مهنتها الجديدة، هي التي بالكاد تماسكت وحاولت الوقوف من جديد، بعد الصفعة التي تلقتها بفقدانها عملها بسبب "أوضاع" لا ناقة لها فيها ولا جمل.

اقرأ/ي أيضًا: اجتياح أوكرانيا يرفع أسعار القمح والنفط ومواد أخرى.. أي تداعيات على تونس؟

أزمة السميد في تونس، لم تنطلق مع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بل حدث أن سبقتها بحواليْ شهرين، فقد حدث، في ديسمبر/كانون الأول المنقضي، أن تعطل دخول بواخر أجنبية محمّلة بالقمح والشعير والفرينة المستوردة إلى ميناء صفاقس التجاري وتفريغ شحناتها بسبب عدم قدرة ديوان الحبوب على خلاصها.. ومنذ ذلك الحين، بدأت تروج أخبار عن نقص في مادة السميد في بعض المناطق من تونس.

وسواءً صحّ ما تم تداوله أم كان من باب الإشاعات فإن مجرد الحديث عن نقص أو مشكلة في التزود بمادة من المواد الأساسية، بشكل عام، يدفع المحتكرين إلى مزيد الاحتكار من أجل المضاربة في الأسعار فيما بعد، بغضّ النظر عن "عقلية" التونسي الذي بمجرّد أن يستشعر أن هناك مؤشرات لنقص في بعض المواد، يسارع إلى المتاجر والمغازات والمساحات الكبرى ويقتني كلّ ما يعترضه من مواد، حتى منها التي لا نقص فيها، تحسبًا لأيّ طارئ سواءً أكان متوقعًا أو غير متوقع..

مجرد الحديث عن مشكلة في التزود بإحدى المواد الأساسية يدفع المحتكرين إلى مزيد الاحتكار من أجل المضاربة في الأسعار، بغضّ النظر عن "عقلية" التونسي الذي بمجرّد أن يستشعر أن هناك مؤشرات نقص في بعض المواد، يسارع لاقتناء كلّ ما يعترضه

يشار إلى أنه، مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، بلغ متوسط مؤشر لأسعار الحبوب 144.8 نقاط في فيفري/شباط 2022، بزيادة 4.2 نقاط (أي 3%) عن مستواه في جانفي/يناير 2022،  وبـ18.7 نقاط (أي 14.8%) عن مستواه قبل عام واحد، وفق بيانات نشرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" في 4 مارس/آذار 2022. وفي فيفري/شباط، ارتفعت أسعار جميع الحبوب الرئيسية عن المستوى الذي سجله كل منها الشهر الماضي. وارتفعت الأسعار العالمية للقمح بنسبة 2.1%، كما ارتفعت أسعار تصدير الحبوب الخشنة بنسبة 4.7 في المائة، وفق المنظمة التي اعتبرت أن ذلك "عكس إلى حد كبير انعدام اليقين المستجدّ بشأن الإمدادات العالمية وسط تعطّل الأنشطة في منطقة البحر الأسود، ما قد يعرقل حركة التصدير من أوكرانيا والاتحاد الروسي، وهما مصدّران رئيسيان للقمح".

اقرأ/ي أيضًا: من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس

أما بخصوص الزيوت النباتية، فقد بلغ متوسط مؤشر أسعارها 201.7 نقاط في فيفري/شباط، بزيادة شهرية قدرها 15.8 نقاط (أي 8.5%) محققًا ارتفاعًا قياسيًا جديدًا، وفق منظمة الأغذية والزراعة "الفاو". ولفتت المنظمة إلى أن الأسعار الدولية لزيت دوار الشمس ارتفعت بشكل ملحوظ، جراء المخاوف التي سببها تعطّل الأنشطة في منطقة البحر الأسود ما قد يؤدي إلى خفض الصادرات…

لو نزل المسؤولون إلى الشارع وساروا بضع خطوات على أقدامهم، لرأوا طوابير الناس المصطفين أمام المخابز أو الباحثين عن قارورة زيت أو "كيلو" سميد أو سكر، وأدركوا أن  تصريحاتهم لا تعدو أن تكون إلا هلاميات لا تسمن ولا تغني من جوع

ولئن تؤشّر الأرقام الدولية إلى جدية وفداحة الوضع على مستوى توفير المواد الغذائية الأساسية، فإن خطاب مسؤولي وزارة التجارة التونسية لم يخلُ منذ بداية الأزمة من العبارات التطمينية من قبيل "الوضع على ما يرام"، "كل شيء تحت السيطرة"، "المخزون كافٍ ولا خوف من الغد".. وما إلى ذلك من الكلمات المنمقة التي لا تعدو أن تكون ضحكًا على الذقون، وكأن من أدلوا بها يعيشون في برج عاجيّ ناءٍ لا صلة له بعالم الواقع الذي يعايشه التونسيون يوميًا.

فلو نزل المسؤولون إلى الشارع وساروا بضع خطوات على أقدامهم، لرأوا طوابير الناس المصطفين أمام المخابز أو الباحثين عن قارورة زيت أو "كيلو" سميد أو سكر، وأدركوا أن  تصريحاتهم لا تعدو أن تكون إلا هلاميات لا تسمن ولا تغني من جوع..

الزيت والسميد هما المادتان الأساسيتان اللتان يُصنع منهما خبز "الملاوي"، فإذا فُقدت كلتاهما، ماذا يمكن لـ"سماح" أن تصنع؟.. وما "سماح" إلا واحدة من كثيرين يخوضون يوميًا رحلة البحث عن قوتهم، محاولين قدر الإمكان التماسك والبقاء صامدين في خضمّ ظروف ما تنفك تدفعهم إلى الخلف… ولا يسعنا ههنا إلا أن نسأل محمود درويش "هل على هذه الأرض حقًّا ما يستحق الحياة؟". 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. عندما تتوفّر المواد الأساسية في وثائق السلطات وتغيب عن قفة المواطن!

قانون مالية 2022: الميزانية بعقلية "العطريّة" والمستهلك دومًا ضحية