14-مايو-2023
صكوك مؤسسات صغرى سجون

سبب إفلاس عديد المؤسسات الصغرى والمتوسطة هو تتبع أصحابها عدليًا في قضايا "شيكات" دون رصيد (getty)

 

كعادته، يتوجه "حسام" بصفة دورية إلى "القباضة" لسداد معلوم المعرف الجبائي "الباتيندة" لمشروعه المتمثل في كراء لوازم الأفراح، وهو مشروع موسمي لا ينشط إلا في فصل الصيف. لكنه تفاجأ هذه المرة بارتفاع معاليم السداد إلى الضعف أي من 200 إلى 400 دينار سنويًا. 

يقول حسام إنه منذ أن بعث مشروعه سنة 2020 والأداءات الضريبية في ارتفاع مستمر دون الأخذ بعين الاعتبار لطبيعة نشاطه الموسمي ومدى تأثره بجائحة فيروس كورونا التي منعت فيها التجمعات، وبالتالي انقطع فيها عن العمل في حين أنه مضطر لدفع معاليم كراء المحل التجاري والمستودع الذي يضع فيه لوازم المشروع خلافًا لفواتير الكهرباء والماء. 

تسبب إفلاس العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تتبع أصحابها عدليًا في قضايا إصدار شيكات دون رصيد في تونس، وهو ما دفع بالبعض منهم إلى التحصن بالفرار فيما حوكم البعض الآخر بالسجن

وقد بيّن حسام في حديثه لـ"الترا تونس" أنه فكّر في بعث مشروعه بعد سنوات من البطالة وبتشجيع من أقاربه على أهمية التعويل على نفسه وعدم انتظار فرصة تشغيل في القطاع العمومي أو الخاص في ظل ارتفاع نسب البطالة في صفوف الشباب، لكنه صدم بواقع المؤسسات الصغرى التي يلاحقها شبح الإفلاس وتتخبط في الديون ويتم إثقال كاهلها بالضرائب دون إيلاء اهتمام لخصائص نشاطها وطبيعته وضعف مردودها.

بدوره، عبّر يوسف وهو صاحب تاكسي فردي عن استيائه من الترفيع في معلوم المعرف الجبائي الذي وصفه بغير المعقول والذي من شأنه أن يعمق في إشكاليات مهنيي القطاع، مبينًا في حديثه لـ"لترا تونس" أنه يتكبد سداد معاليم تأمين السيارة وضريبة السيارة علاوة على أن أسعار قطع الغيار ارتفعت وسعر تغيير الزيت وغيره من المصاريف الأخرى التي يستوجب على صاحب سيارة الأجرة سدادها، وبالتالي فإنّ أي ترفيع في الأداءات من شأنه أن ينعكس سلبًا على مردوده اليومي في ظل الارتفاع المشط في الأسعار، وفقه.

 

 

وتكابد العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة من أجل البقاء واستمرار نشاطها في حين أن البعض الآخر أغلق أبوابه تأثرًا بجائحة كورونا، وأيضًا بالتعقيدات الإدارية وكثرة الجباية. وقد أكد محمد العثماني رئيس المنظمة التونسية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة أن وضعية هذه المؤسسات بدأت تتأزم شيئًا فشيئًا منذ سنة 2011 إلى أن اجتاحت البلاد موجة كورونا وزادت في تأزيم الوضع علمًا وأنها تمثل 86.4% من الاقتصاد التونسي ويبلغ عددها حاليًا حوالي 750 ألف مؤسسة معلن عنها وتشمل كل حاملي المعرف الجبائي.

ولفت العثماني في حديثه لـ"لترا تونس" أن قطاع المؤسسات الصغرى والمتوسطة قد ضُرب وقُضي عليه، وأنّ أربابه غير قادرين على تحصيل لقمة العيش فما بالك بمصاريف المشروع، مبينًا أن قرابة 400 ألف مؤسسة أعلنت إفلاسها ولم تعد قادرة على سداد أداءاتها ولا دفع معاليم الصناديق الاجتماعية وهو ما من شأنه أن يضر بمصالح الدولة في علاقة بالوضع الجبائي، مشيرًا إلى أنه عاين العديد من الحالات المؤسفة التي يهدد فيها صاحب المشروع بالسجن ويتم فيها العقل على معدات المشروع وتسريح العمال.

الترفيع في أداءات المؤسسات الصغرى والمتوسطة الناشطة، من شأنه أن يثقل كاهلها ويؤدي بها إلى الإفلاس

كما أوضح أن الترفيع في الأداءات إلى الضِعف تقريبًا، يعزى بالأساس إلى إفلاس العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة وإغلاقها، وبالتالي حدث عجز في خزينة الدولة بسبب تراجع المداخيل الجبائية فتم الترفيع في الأداءات للمؤسسات التي مازالت تنشط، لكن هذا الحل من شأنه أن يثقل كاهل المؤسسات المتبقية ويؤدي بها أيضًا إلى الإفلاس.

  • 8700 سجين في قضايا شيكات دون رصيد

تسبب إفلاس العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة في تتبع أصحابها عدليًا في قضايا إصدار شيكات دون رصيد، وهو ما دفع بالبعض منهم إلى التحصن بالفرار فيما حوكم البعض الآخر بالسجن وبالتالي تعالت الأصوات المنادية بإلغاء العقوبة السجنية التي تزيد في تعميق مشاكل أصحاب المؤسسات وتمنعهم من استكمال نشاطهم ليتمكنوا من سداد ديونهم. 

 

 

وقد أفاد محمد العثماني بأن المؤسسات الصغرى والمتوسطة أغلقت أبوابها طيلة شهرين متتالين خلال جائحة كورونا، وبسبب تخوّف بعض المزودين الذين يتعاملون بالشيكات (الصكوك) من عدم قدرة أصحاب المؤسسات على السداد قاموا بإيداع هذه الصكوك في البنوك وعادت بدون رصيد فوقع أصحاب المؤسسات في إشكاليات مع البنوك والمحاكم ولم يتمكنوا من العودة للدورة الاقتصادية. 

كما أشار إلى أن الإحصاءات الأخيرة للبنك المركزي تفيد بوجود 2 مليون إشعار لصكّ بدون رصيد وأن القضايا المعروضة على المحاكم كانت سنة 2019 في حدود الـ 268 ألف ليبلغ اليوم عددها حوالي 640 ألف قضية شيك دون رصيد، في حين بلغ عدد المساجين حوالي 8700 سجين وعدد المفتش عنهم 80 ألف شخص خلافًا للذين خيروا الفرار خارج أرض الوطن والذين يتراوح عددهم في حدود الـ 10 آلاف مواطن.

رئيس منظمة المؤسسات الصغرى والمتوسطة لـ"الترا تونس": قرابة 400 ألف مؤسسة أعلنت إفلاسها ولم تعد قادرة على سداد أداءاتها ولا دفع معاليم الصناديق الاجتماعية

وأوضح المتحدث أن الصكّ في الأصل هو وسيلة دفع حينية ويمنع بالقانون على أي شخص قبول شيك مؤجل الدفع، ويعاقب بنفس مدة إصدار صكّ دون رصيد أي 5 سنوات سجنًا، لكن الوضع الاقتصادي الصعب دفع بالمؤسسات إلى التعامل بالصكوك دون رصيد كضمان، والمستفيد يقبل بالصكّ مؤجل الدفع لأنه على دراية بأن عدم السداد يساوي السجن وبالتالي فإنّ إلغاء العقوبة السجنية من شأنه أن يوقف نزيف قبول الشيكات دون رصيد، وفق تقديره.

وبيّن رئيس المنظمة التونسية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة أن المنظمة تقدمت بجملة من المقترحات عندما أثارت الموضوع في مجلس النواب وقامت بمناقشتها في لجنة التشريع العام من بينها إلغاء العقوبة السجنية لأنها مخالفة للمادة 11 من المعاهدات الدولية وكل الدول قامت بإلغائها ما عدا تونس، كما اقترحت المنظمة إلغاء عملية إشعار البنك بدخول صكّ دون رصيد لأن البنك يقدم للحريف دفتر شيكات أبيض يخول له كتابة أي مبلغ، وعندما يقع صاحب الدفتر في أخطاء لا تمكّنه من قرض لسداد ديونه وتبلغ المحكمة ويتم الحكم عليه في جلسة دون إشعاره، فيجد نفسه مفتشًا عنه ويتم إيقافه وبذلك يسجن المدان، ولا يتحصل المدين على أمواله.

محمد العثماني: الترفيع في الأداءات إلى الضِعف تقريبًا، يرجع أساسًا إلى إفلاس العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وبالتالي حدوث عجز في خزينة الدولة بسبب تراجع المداخيل الجبائية

كما اقترح العثماني أن تصبح قضايا الصكّ دون رصيد بين صاحب "الشيك" والمستفيد، لأن المعاملة التجارية كانت بينهما ويفترض على المستفيد تقديم قضية في حال الإخلال بالاتفاق وعدم سداد الدين، وبالإمكان حينها الذهاب إلى مرحلة تقسيط الدين وفي صورة التأخر على خلاص تأتي مرحلة العقوبات السجنية أو غيرها.

وتحدث رئيس المنظمة عن ضرورة تعديل الفصل 396 من المجلة التجارية الذي يعرّف الصكّ، ليصبح بذلك دفتر "الشيكات" مرقّمًا حسب ميزانية الحريف كما هو معمول به في فرنسا، وعند سداد تلك الوصولات يتم تمكين الحريف من دفتر آخر وذلك بهدف حماية الحريف.

وبالنسبة للمقترحات المنادية بتفعيل "الشيك" الرقمي، بيّن محمد العثماني أنّ ذلك يحتاج إلى منصة وعمل كبير والوضعية الحالية لا تسمح بذلك في حين أن مسألة "الشيكات" في حاجة إلى حلول عاجلة لضمان حق المستفيد وحماية المدان من العقوبات السجنية التي تؤثر سلبًا على نشاطه الاقتصادي وتسلبه حريته.

رئيس منظمة المؤسسات الصغرى والمتوسطة: حوالي 640 ألف قضية "شيك" دون رصيد في تونس، وبلغ عدد المساجين حوالي 8700 سجين وعدد المفتش عنهم قرابة 80 ألف شخص

كما ثمّن مبادرة رئيس الجمهورية التي دعا فيها وزيرة العدل لإعداد دراسة يتم على إثرها تقديم مشروع قانون يتعلق بالصكوك دون رصيد يتيح للمتضرر تسوية وضعيته وضمن حق المستفيد معتبرا أن الفصل 411 من المجلة التجارية يمثل 70% من الأضرار التي طالت المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

  • الجباية.. ملاذ الحكومات على مر التاريخ

"1864 هو العام الذي فزع (استنفر) فيه أهالي المملكة التونسية قاطبة بسبب ما سلطه عليهم الباي وحكومته من تعسف جبائي ثقيل أنهكهم وأتى على كل مكاسبهم، فقد أفلست الدولة ولم يعد في خزائنها ما يواجه به الباي ووزيره الأكبر نفقات التسيير والعسكر وما إلى ذلك من وجوه الإنفاق الحكومي، لذا قررت الحكومة في الصائفة الفارطة تعميم الأداء الموظف على الرؤوس والمعروف بالمجبى وسحبه على كافة الرعايا التونسيين على اختلاف معتقداتهم الدينية وطبقاتهم الاجتماعية وقد كان معفى منها سكان العاصمة والمدن الكبرى وهي القيروان وسوسة والمنستير وصفاقس وكذلك الموظفون والعساكر والطلبة والعلماء ويهود الحاضرة.

رئيس منظمة المؤسسات الصغرى والمتوسطة: نقترح إلغاء عملية إشعار البنك بدخول صكّ دون رصيد مع ضرورة تعديل بعض فصول من المجلة التجارية

أمام تدهور الوضع المالي للدولة وتفاقم الأزمة لم يستمع الباي لا لنصائح المقربين منه من رجال الإصلاح ولا للقنصل الفرنسي بعدم اللجوء إلى الزيادة والمجبى فبعد مضي ثلاثة أشهر من قرار التعميم صدر في ديسمبر/ كانون الأول 1863 الإذن بمضاعفة مقدار المجبى إلى اثنين وسبعين ريالًا عوضًا عن ست وثلاثين ريالًا على الفرد. لم ينزل الغيث النافع على البلاد بل نزلت عوضًا عنه سيول غضب عارم أفاضت جنبات المملكة القاطبة وهبت رياح ثورة عاتية في ربيع العام الموالي بعثرت وفرقت وشتت".

في روايته "عام الفزوع 1864" لخص الكاتب التونسي حسنين بن عمو انتفاضة الشعب في الإيالة التونسية جرّاء إثقال كاهلهم بالضرائب والترفيع في قيمتها من ستة وثلاثين ريالًا إلى اثنين وسبعين وتعميمها على كافة الشعب على أن تدفع "بالعصا والنار" بهدف سداد القروض التي اضطرت الدولة لتلقيها لمجابهة عجز الخزينة والتي تم صرفها على ملذات محمد الصادق باي وحاشية القصر والمماليك. الكاتب سلط الضوء على تفشي الظلم وتفاقم معاناة التونسيين من خلال قصة "هنية والعاتي"، بطلا الرواية اللذين شُردا وسُلبت جميع ممتلكات والديهما قبل أن يُقتلا بدعوى استخلاص ما عليهما من مجبى.

رئيس منظمة المؤسسات الصغرى والمتوسطة: يجب إلغاء العقوبة السجنية في قضايا "الشيكات" بدون رصيد لأنها مخالفة للمعاهدات الدولية وكل الدول قامت بإلغائها ما عدا تونس

محمد الصادق باي لم يأبه لنصيحة الجنرال حسين بعدم الترفيع في الجباية والتي قال فيها "يا سيدي إن هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد وهي من الموجود في خطر، فحالها كحال البقرة إذا حلب ضرعها حتى خرج الدم فهي الآن ينزو ضرعها بالدم وولديها بمضيعة والعطب أقرب إليها من السلامة" فحدث أن اندلعت شرارة الانتفاضة في الإيالة.

وقد تحدث بن عمو عن بداية تململ القبائل وتمرد الشعب على الحاكم وظهور "باي الأمة" علي بن غذاهم زعيم ثورة 1864 الذي تمكن في فترة وجيزة من كسب ثقة "العربان" ودعاهم إلى العصيان الجبائي والامتناع عن سداد المجبى خاصة وأنه في عهد الوزير مصطفى خزندار كان كل شيء يخضع لنظام المجبى الجائر، لكن سرعان ما تمكن الباي من إخماد نيران الثورة بتدخل سلطان الإمبراطورية العثمانية وفشلت الثورة وانتهى بزعيم العربان في سجن الكراكة بمدينة حلق الوادي ليفارق الحياة سنة 1867 متأثرًا بويلات السجن التي عانى منها طويلًا.

 

 

لتونس تاريخ مظلم مع الضريبة، فبموجب معاهدات أبرمت سنوات 1863 و1875 و1868 تتمتع الدول الأوروبية خاصة فرنسا بامتيازات جبائية وهو ما ساهم في غياب المنافسة العادلة بين التجارة والصناعة المحلية، ومكنت الشركات المستفيدة من تحقيق استثمارات وأرباح هائلة تمكنت عبرها من احتكار العديد من القطاعات كما أعفيت البضاعة الأوروبية من الرسوم الجمركية والمكوس. وقد اعتبر الوزير المصلح خير الدين باشا أن هذه الامتيازات لا يصح دوامها وأعاد الضرائب على الاستيراد والتصدير كما قام بجملة من الإصلاحات للنظام الجبائي فألغى جميع الضرائب السابقة التي تراكمت على المواطنين وألغى الضرائب على الأراضي الفلاحية لمدة 20 عامًا بهدف تشجيع الناس على الزراعة.