لا تستقيم التجارة الإلكترونية ولا تكون دورتها مكتملة ولا تتضح معالمها إلا بوجود ركن أساسي ألا وهو توصيل السلع للزبون، وهو يعتبر الجزء الأخير والنهائي من عملية البيع. وهذه المهمة يقوم بها البائع ذاته كأن يحدث قسمًا خاصًا بالتوصيل أو تنهض به شركات مختصة في نقل السلع وتكون في ارتباط قانوني مع المنتج أو البائع، ويمكن أيضًا أن يقوم بالمهمة ذاتها أفراد عاديون تربطهم علاقة شغلية بالبائع ويتلقون مقابل ذلك نسبة من المرابيح تتحول إلى أجرة تكون يومية أو أسبوعية أو شهرية.
وتختلف تسمية الأفراد الذين يقومون بهذه المهمة كأن نجد "موزع السلع" أو "موصّلاتي" في الشرق العربي وفي تونس يسمى "ليفرور" (عامل توصيل) وهي كلمة فرنسية الأصل تم تحويلها إلى معجم المقول اليومي التونسي (الدارجة أو العامية)، وحتى الفعل الفرنسي تم التصرف فيه وتحويره من لغته الأم، فتسمع مثلًا عبارات من قبيل "فلان يليفري في مغازة لبيع مواد التجميل" أو "فلان ليفراني ليلة البارحة".
مهنة توصيل السلع المبيعة إلكترونيًا في تونس يحيط بها الكثير من الغموض القانوني والفوضى والعديد من القصص الطريفة والغريبة. وهي بذلك لا تعدو أن تكون سوى مغامرة فيها الكثير من "الريسك" بالمفهوم السوسيولوجي للكلمة، ولا يمتهنها سوى الشباب المغامر ممن نالت منهم البطالة أو الطلبة الذين لا يزالون يزاولون الدراسة ويبحثون عن مورد رزق يوفّر لهم مصاريف الجامعة.
مهنة توصيل السلع المَبِيعة إلكترونيًا في تونس يحيط بها الكثير من الغموض القانوني والفوضى والعديد من القصص الطريفة والغريبة، وهي بذلك لا تعدو أن تكون سوى مغامرة فيها الكثير من "الريسك" بالمفهوم السوسيولوجي للكلمة
الشركات أو المصانع أو محلات البيع بالتفصيل أو المطاعم أو المغازات التي تبيع سلعها ومنتجاتها إلكترونيًا، عبر مواقع مختصة أو صفحات إشهارية منتشرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لها شروطها المجحفة لقبول القائم بمهمة التوصيل فترفض مثلًا المطالب التي لا يتحوّز أصحابها رخص السياقة التونسية أو أولئك الذين لا يستطيعون تقديم "صك بنكي" قيمته 10 آلاف دينار تونسي كضمانة (ضمد) للسلع التي يحملها من أجل توزيعها على الزبائن.
"الترا تونس" التقى بعض الشباب التونسيين ممن خاضوا هذه التجربة فكانت هذه قصصهم:
أسامة، شاب عشريني متخرج من الجامعة التونسية في اختصاص الطاقات المتجددة وهو الآن بصدد إعداد ماجستير بحث في التصرف ويقطن بحي الزهور، أحد الأحياء الشعبية بالضاحية الغربية للعاصمة، تحدث بلا حواجز عن تجربته في التوصيل.
وقال لـ"الترا تونس" إنه بعد تخرجه وهربًا من بطالة محتومة أقنع والده بأن يبيع سيارة العائلة واستبدالها بسيارة تجارية صغيرة ودخول المغامرة مع شركات التوصيل، فكان له ما أراد.
ويضيف أسامة أنه اتصل بشركة معروفة وعرض عليها خدماته في التوصيل بواسطة سيارته الشخصية، فتمت الموافقة بسرعة مع اشتراط ضمان صك بنكي بقيمة 10 آلاف دينار، وذلك حتى تحمي الشركة نفسها من التحيل.
أسامة (طالب وعامل توصيل): المعدل الشهري لأجرة عامل التوصيل الذي يشتغل بسيارة الشركة يتراوح بين 800 و1100 دينار أما عامل التوصيل الذي يشتغل بسيارته الخاصة فتكون الأجرة مضاعفة 3 مرات دون احتساب كلفة البنزين وقطع غيار السيارة
وفيما يخص الجانب المالي، أوضح أسامة أن عامل التوصيل إذا اشتغل بسيارة الشركة فإنه يحصل على ما قيمته دينارًا واحدًا مقابل وصول طرد واحد لصاحبه، أما في وضعيته هو، أي الاشتغال بسيارته الشخصية، فإنه يحصل على ما قيمة 3 دنانير على وصول طرد واحد للزبون وهي نسبة بسيطة مقتطعة من جملة 7 دنانير موظفة على الزبون كثمن للتوصيل، أما البقية فتعود كاملة إلى الشركة.
وبخصوص عدد الطرود التي يقوم بتوصيلها، أفاد أسامة بأنّ الشركة لا تسلم عامل التوصيل سوى 70 طردًا في اليوم الواحد كحدّ أقصى، معقّبًا أن "عدد الطرود قد يبدو مغريُا لكن من المستحيل أن تُوزّع جميعها والإشكال هنا مرتبط بالزبون ذاته الذي لا يرفع سماعة هاتفه عند الاتصال به من عون التوصيل، وذلك لأسباب عديدة منها تراجعه عن عملية الشراء أو عدم جدّيته أو انشغاله أو تنقله إلى مكان آخر، وبالتالي تتراجع نسبة التوصيل في اليوم الواحد لتصل إلى ما بين 30 و50%، ليكون بذلك المعدل الشهري لأجرة عامل التوصيل الذي يشتغل بسيارة الشركة بين 800 و1100 دينار وفي حاله هو يكون الأجر ضارب ثلاثة.
ويؤكد أسامة أن أجرته قد تبدو مرتفعة لكن إذا تم تفصيلها فهي تتضمن ثمن البنزين وثمن قطاع غيار السيارة وكلاهما يحوز ما يقارب ثلثي الدخل الشهري. وأشار إلى أن الشركات التي تستغل بطالة الشباب تدفع بعمّال التوصيل إلى خرق العقد الأخلاقي والتحالف مع الزبون ضد الذي يريد عادة فتح الطرد قبل دفع ثمنه والتأكد ممّا بداخله فيحصل الاتفاق بأن يقوم العامل بعملية الفتح أمامه وإعادة غلقه بطريقة محترفة لا تتفطن إليها الشركة في حال لم تعجبه البضاعة وذلك بمقابل نصف قيمة الشحن المتفق عليها، على حد قوله.
وعن مشاكل هذه المهنة الجديدة في تونس، حدثنا أسامة، الذي قضى فيها أكثر من سنتين، بأنها متنوعة وأهمها يتأتى من صميم العلاقة مع الزبون الذي يعتقد في أغلب الأحيان أن عامل التوصيل ينتمي للمصنع أو المحل الذي اقتنى منه السلعة، فيدخل في نقاش معه بخصوص الجودة أو النوع أو المقاس، ليتطور النقاش في بعض الأحيان إلى نزاع ومحاولة اعتداء بالعنف، في حين أن لا علاقة له بذلك.
أسامة (طالب وعامل توصيل): مهنة التوصيل أو التوزيع في تونس آخذة في التشكل وربما يكون مستقبلها أفضل من حاضرها وتكون ملاذًا حقيقيًا لطالبي العمل إذا ما تمت إحاطتها بالقوانين المنظمة والحامية لجميع المتدخلين فيها
ومن المشاكل أيضًا تلك التي تحصل مع الحرس الديواني الذي يريد التأكد من محتوى الأكياس والطرود، وأيضًا المخالفات المرورية التي يتعرض لها جراء الضغط المروري.
أما الطرائف التي يمكن أن يتعرض لها عامل التوصيل، فذكر أسامة أنها تتمثل في النقاشات العائلية التي قد تندلع أمامه بخصوص الأثمان أو الماركات، أو أن يصف له الزبون مكان تواجده بالخطأ، أو أن يعود في بعض الأحيان بكل الطرود لعطب ما حدث بالهاتف.
وختم أسامة تدخله بالقول إن مهنة التوصيل أو التوزيع في تونس آخذة في التشكل وربما يكون مستقبلها أفضل من حاضرها وتكون ملاذًا حقيقيًا لطالبي العمل إذا ما تمت إحاطتها بالقوانين المنظمة والحامية لجميع المتدخلين فيها.
واتصل "الترا تونس" بموزع طعام يشتغل مع أكثر من محل رفض الإفصاح عن اسمه الحقيقي فمنحناه اسمًا مستعارًا "أحمد". وهو شاب رياضي أنيق ولم يتجاوز العشرين من عمره. يقطن بولاية منوبة وغادر المدرسة من تلقاء نفسه دون أن يتم المرحلة الإعدادية من تعليمه. واشتغل بعدة مهن صغيرة منها بيع "مشاميم" الياسمين، لكنه اختار منذ سنة أن يجرب مهنة التوصيل.
يقول أحمد إن هذه المهنة أغرته بعد أن شاهد حولها عدة فيديوهات على شبكة يوتيوب، وأيضًا بعد أن تحدث إلى أحد أصدقائه ممن سبقوه إليها. وهو يعتبر أنها حل لبطالته ومصدر رزق لتخفيف عبء مصاريف العائلة.
وأكد أنه انخرط في هذه المهنة بكل همة ومحبة فاقتنى دراجة نارية جديدة يسدد ثمنها بالتقسيط وهاتفًا ذكيًا، وقام ببعض الحصص التدريبية مع صديقه ومن ثمة انخرط في العمل.
أحمد (عامل توصيل) لـ"الترا تونس": مهنة التوصيل مثّلت حلًّا للبطالة بالنسبة لي ومصدر رزق يخفف عبء مصاريف العائلة.. وهي مهنة تتطلب جانبًا كبيرًا من الثقة مع المشغل والزبون على حدّ سواء
وأشار محدثنا إلى أن هذه المهنة تتطلب جانبًا كبيرًا من الثقة مع المشغل والزبون على حدّ سواء، وأيضًا فيها جانب إنساني خصوصًا مع الزبائن من كبار السن أو ذوي الهمة أو الطالبات، موضحًا أنه يوصل الطعام إلى شقق العمارات بالطوابق العليا وهو ما يكون فرصة للحصول على إكراميات.
أما بخصوص الأجرة، فأشار إلى أنه يشتغل بدائرة جغرافية ليست واسعة وأنّ المقابل المالي للتوصيلة الواحدة لثلاثة أو أربعة زبائن لا يتجاوز الخمسة دنانير، وهو في اليوم الواحد لا يتجاوز 10 توصيلات.
ويرى أحمد أنّ مستقبله المهني يتمثل في الانشغال بهذه المهنة وهو في نفس الوقت يحلم باقتناء سيارة وربما بعث شركة خاصة به في قادم السنوات، لكنه في نفس الوقت يعتبر نفسه شخصًا واقعيًا فمهنة التوصيل مرتبطة بمنظومة القوانين التي تنظمها وهذا دور الدولة، حسب قوله.
إن مهنة توصيل أو توزيع السلع المقتناة إلكترونيًا، يمكن اعتبارها في صميم المهن الخدماتية التي تتطلب مقاييس وقوانين واضحة. كما يمكن أن تكون مجالًا مغريًا لمن طالت بطالتهم من الشباب وغيرهم، شريطة انتباه الدولة لذلك والذهاب لتنظيمها والاهتمام بها حتى لا تكون عرضة للفوضى والقوانين العرفية.