08-فبراير-2020

تكرونة بناها الأجداد منذ قرون فوق جرف صخري يقدّر عمره بـ 22 مليون سنة (DeAgostini/Getty Images)

 

هناك قرى تونسية لا تستطيع أن تفاضل بينها وبين قصيدة الشعر في عفويتها ومعمارها وأسلوبها في التجمّل وغواياتها وانكسارات الضوء على جدرانها. لقد كان الأجداد لا يقولون الشعر ولا ينظمونه لكنهم يودعونه في هندسة قراهم وبيوتهم والكوّات الصغيرة على الحيطان وانحناءات القباب والطلاءات الجيريّة الخجلى أمام سطوة قرمز المغيب وتشبّثه الطفولي بالأزقة والمنحدرات، فتسيل حمرته على خدود النساء وبساتين التفّاح ودوالي العنب وتعاريج المحاريث في السفوح وبين الزياتين.

تكرونة قرية أمازيغية تأسر العين فترتّب عنها الأثر ليضيع القلب ويهيم متيّمًا

على امتداد الجغرافيا التونسية من الشمال إلى الجنوب، تنام مئات قرى الأمازيغ والبربر بوداعة الحالمين على ذرى الجبال والهضاب والمرتفعات، فهذه الزريبة بجبال زغوان وعقلة الجدرة وتيمالة والمش (المكناسي) بسيدي بوزيد، وتلك كسرى بسليانة وتبرسق بباجة وجبل وسلات بالقيروان، وتابديت (الرديف) بقفصة ومطماطة بقابس، تبدو كلآلئ منثورة تقاوم النسيان وعبث التاريخ بحجارة راسخة في الذاكرة، تأبى الاندثار والزوال.

اقرأ/ي أيضًا: تونس العاصمة.. تراث معماري فريد على قارعة الإهمال

تبقى "تكرونة" القرية الأجمل على الإطلاق في الموروث الأمازيغي التونسي

لكن تبقى "تكرونة" القرية الأجمل على الإطلاق في الموروث الأمازيغي التونسي، فهي تتوسّد الصّخر في تواضع عظيم يشبه تواضع الرّعاة في حضرة الجبال وشموخ الجميلات في حضرة بعضهن البعض. هي قرية أمازيغية تأسر العين فترتّب عنها الأثر ليضيع القلب ويهيم متيّمًا فتصنع لها فتنتها بأدب وخفور ولا تبالي بحركة الزمان حولها. تكرونة بناها الأجداد منذ قرون فوق جرف صخري يقدّر عمره بـ 22 مليون سنة ويرتفع حوالي 200 متر على مستوى سطح البحر، هي على مرمى عين من مدينة النفيضة من ولاية سوسة بالساحل التونسي.

تكرونة المعلّقة كحدائق بابل مرّ بها شيخ الصوفيّة وقطب الأقطاب سيدي عبد القادر الجيلاني في رحلته من بغداد إلى المغرب

وإذا نظرت لتكرونة من عل لا تخال أن أيادي الأجداد هي من قدّت ذاك الجمال الباذخ المسكوب على صخرة عالية، بل يأتيك ما يشبه اليقين أن رسّامًا أسطوريًّا مرّ من هنا وأسال ألوانه في المكان فتحوّلت الى رسمة خالدة أبد الدهر، أو شاعر مجيد جلس إلى الصخرة العالية وعجن كلمات ليست كالكلمات ونظم قصائد فالقة تحوّلت روحها فيما بعد إلى قرية تكرونة الآسرة.

هذه القرية المعلّقة كحدائق بابل مرّ بها شيخ الصوفيّة وقطب الأقطاب سيدي عبد القادر الجيلاني في رحلته من بغداد الى المغرب، ومازال الناس إلى اليوم يعتزّون بمكوثه المقدّس بقريتهم ونشره لطريقته الصوفية في التقرّب إلى الله. وإثر رحيله بنوا مقامًا باسمه (سيدي عبد القادر) مازال موجودًا إلى اليوم. "القادرية" في تكرونة جغرافيا أخرى لا مرئيّة للأرواح المتعبة، وقد كان يمكن أن تكون محجّة كونيّة لأهل هذه الطريقة لولا الإهمال المقصود.

تكرونة استوطنها أيضًا المورسكيّون المهجّرون قسرًا

تكرونة استوطنها أيضًا المورسكيّون المهجّرون قسرًا من أرضهم ببلاد الأندلس وقد حلّوا بها منذ سنة 1609 ولم يمنعهم ألمهم الدفين من التماهي مع المكان ومقاسمة السكان الأصليين تلك الجغرافيا الصغيرة بخفة كائن حزين أضاع دروب العودة الى الديار. المورسكيون جلبوا معهم إلى تكرونة حب الحياة وعادات وتقاليد غير مألوفة في الأكل والملبس والاحتفالات والأعراس، وأساليب في الزراعة والغراسة والريّ غير معهودة ومازالت سارية إلى اليوم، ولعلّ زياتينهم وكرومهم مازالت تحكي تغريبتهم إلى اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: جزيرة جربة.. هل يشفع لها "أوليس" حتى تصنفها اليونسكو تراثًا إنسانيًا؟

درّة القرى الأمازيغية التونسية أنجبت كاتبًا فذًا ومثقفًا استثنائيًا تفخر به تونس على مرّ الازمان وهو الراحل الكاتب الروائي الطاهر قيقة

تكرونة لا يمكن الوصول إلى أسرارها والتواءات أزقتها وبيوتها وجامعها والتمتّع بنسائمها المعلقة وأعشاش الكواسر بين صخورها، إلا عبر مدرجها الشهير المرصّف بالصّخر الأسيل، إنّه بوّابتها السحرية التي بناها الأجداد بكل حبّ وبكل عفويّة. درب عجائبي يعجز أعتى المخرجين السينمائيين على تصويره، ويروى أن الجنود الفرنسيين الذين تمترسوا بتكرونة إبّان الحرب العالمية الثانية دهشوا لهندسة القرية التي بدت حصينة وخاصة مدرجها الصخري الذي بقي ثابتًا رغم قصف مدفعية جيوش المحور التي حاصرت القرية سنة 1943.

درّة القرى الأمازيغية التونسية أنجبت كاتبًا فذًا ومثقفًا استثنائيًا تفخر به تونس على مرّ الازمان وهو الراحل الكاتب الروائي الطاهر قيقة ( 1922 ــ 1993 )، والذي خلّدها في كتاباته السردية والتاريخية العديدة وخاصة في المجموعتين القصصيّتين "نسور وضفادع" و"الصخرة العالية".

الطاهر قيقة دائم القول إنه استلهم سردياته وأغلب كتاباته من المناخات التاريخيّة والاجتماعية والجماليّة لقريته تكرونة. ويقول عنها في إحدى حواراته الصحفيّة "تكرونة هي الجبل، هي الريف، هي الجامع والزاوية والمقبرة، والصخور المتناثرة بين المنازل، تذكّر أهل القرية بالشدّة والصلابة التي جبلوا عليها مع الأنفة وعزّة النّفس والشموخ.. تكرونة هي المنبت، هي الذكرى... لقد علّمتني الحياة".

تكرونة لا يمكن الوصول إلى أسرارها إلا عبر مدرجها الشهير المرصّف بالصّخر الأسيل

تكرونة زارها الكاتب والقاص والرّحالة الفرنسي الشهير "قي دي موباسان" (1850 ــ 1883 ) خلال ترحّله بين تونس والجزائر وذلك أواسط سنة 1880. وقد وصفها مفتتنًا في كتابه "من تونس إلى القيروان" قائلًا إن "صخورها معجونة بالصبّار". فقد كان "موباسان" في كتاباته دقيقًا وثابتًا كفوتوغرافيا وهو يصف من أعالي تكرونة "هنشير النفيضة" الذي باعه خير الدين باشا لفرنسا سنة 1872 قبل عودته لإسطنبول، وتلك قصّة أخرى من القصص التونسية التي يتّصل فيها الخيال بالواقع.

نسيج القرى الأمازيغية والبربرية التونسية والأندلسية تعرض إلى الإهمال بل إلى الاعتداء والتشويه الممنهج

إنّ رصيد قرى الأمازيغ والبربر والمورسكيين في تونس وكغيرها من الأرصدة الحضارية والثقافية الأخرى تعرّضت على مرّ تاريخها الطويل إلى إهمال مقصود ضمن سياقين متعارضين، الأوّل يهمّ بناء الهويّة العربيّة الإسلامية والذي حاول احتواء وتدجين كلّ شيء سابق للإسلام، فتم هتك كل الأرصدة الثقافية والحضارية السابقة بأساليب مختلفة منها ما حصل في مناهج التدريس ومنها ما حصل في السياسة الثقافية والسياحية، والثاني يهمّ هواجس دولة الاستقلال التي كانت تتوجّس خيفة من الأقليّات والخصوصيات الثقافيّة المحلية، فكانت تعتقد أنها تهدد بشكل من الأشكال تماسك الدولة في لحظات انبعاثها.

هذه القرية المعلّقة كحدائق بابل مرّ بها شيخ الصوفيّة وقطب الأقطاب سيدي عبد القادر الجيلاني

وتحت عنوان التوجّس، خسرت تونس العديد من أوجهها الحضارية الضاربة في القدم. ورغم النداءات المتكررّة من المثقفين والمختصّين في التاريخ والتراث والمجتمع المدني المهتم بالذاكرة والشأن الثقافي والأقلّي، فإنّ نسيج القرى الأمازيغية والبربرية التونسية والأندلسية تعرض إلى الإهمال بل إلى الاعتداء والتشويه الممنهج.

ولعلّ أبرز ما اقترفته دولة الاستقلال هو إنشاء قرى جديدة بجوار القرى الأصلية التي تسكن القمم والجبال . وكانت التعلاّت عديدة ومن أبرزها وعورة الأمكنة وضرورة تقريب المدنية إلى المواطنين. وأمّا الذين تشبثوا بقراهم فقد تمّت محاصرتهم بإبعاد المرافق وإغلاقها وخاصة المدارس ومراكز الصحة والأمن، وهو ما حدث تقريبًا لمدن مثل الزّريبة وكسرى وتكرونة. لقد حاولوا قتلها رمزيًا، لكن هناك من صمد وامتدّ صموده بين الأجيال.

وإلى اليوم، لا تزال الدّولة التونسية تواصل نفس التمشّي القديم تجاه ذاكرتها وتراثها الثقافي المادي واللاّمادي الخاص بالقرى الأمازيغية والبربريّة والأندلسيّة، فلم نر بعد مخططات واستراتيجيات واضحة وجليّة للإنقاذ والمرافقة والعودة بنا إلى الجذور وخاصة ذاكرة الأمازيغ والبربر، وذلك حتى يرى الشعب التونسي صورته بأكثر وضوح في مرآة التاريخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

منير البوغانمي.. قصّة "مهرّج" بوصلته الإنسانية

شباب يبدع.. تحويل النفايات إلى قطع فنية