25-يناير-2022

مصففو الشعر "هم المعالج الأول لعدد لا يحصى من الرجال والنساء، حيث يقدمون خدمتين، قصة شعر وعلاج" (Getty)

 

"زوجي ابن أمه، يمر إليها يوميًّا لقضاء حاجاتها، حماتي ليست سيئة، لكنه ينصت إليها أكثر مني، بل أحيانًا يتجاهلني"، تقول إحدى الحريفات داخل صالون تجميل نسائي بتذمر، وهي منحنية على كرسي ورأسها مغروس بين كتفيها، يكاد يشق صدرها، بينما تحاول العاملة تصفيف شعرها المجعد بصعوبة.

تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تجذب الخصلة بقوة، تمسكها وتعيد الجذب حتى تستوي منسدلة، ترفع الحريفة رأسها من الألم، لتتذكر ما عليها القيام به بعد الخروج من الصالون، ابنها الذي ستمر لتأخذه من الروضة، شراء الخبز ولوازم العشاء، والسهرة الرومانسية التي وعدت بها زوجها، بعد عودته من عند أمّه.. مع شدة ثقيلة على الميم.

تضحك مصففة الشعر وتخبرها أنّ كل النساء يعانين الأمرين داخل البيت وخارجه، وأنّ النساء "ولدن للشقاء" بينما للرجال حظوة منذ الولادة حتى الزواج، تتنهد ثم تقول بلهجة المتحسرة "صحة لأمّه" أي الرجل.


ليست المرة الأولى التي أدخل فيها محل تجميل، دون أن أسمع تذمر النساء من أزواجهن، أو شركائهن، وحتى مديرهن في العمل، واللافت أنه كلما شاركت صاحبة المحل في النقاش (أخص بالذكر النساء لأنّ أغلب الصالونات التي أذهب إليها نسائية في مناطق شعبية) كلما زاد حماس الحريفة في الحديث عن نفسها وما تعانيه، وكأنها وجدت الحاضنة القادرة على استيعابها رغم ما يحيط بها من أشخاص في حياتها.

ثقافة الاستماع داخل صالونات التجميل في تونس، التي تتحول أحيانًا إلى نميمة وحديث عن فلان أو علان، صارت من العناصر المهمة في حياة العديد من السيدات

ثقافة الاستماع داخل صالونات التجميل في تونس، التي تتحول أحيانًا إلى نميمة وحديث عن فلان أو علان، أو ما يسمى في لهجتنا المحلية "تقطيع وترييش"، صارت من العناصر المهمة في حياة السيدات، خاصة العاملات اللاتي لا يملكن وقتًا للجلوس والحديث بأريحية في أماكن العمل. وعادة ما تكون الضحية حماة إذا كانت الحريفة متزوجة، أو زوجًا بخيلًا أو بارد المشاعر، أو صديق مصلحة وفق تقديرها طبعًا.

وأحيانًا تكون للقصص أبعاد اجتماعية أو اقتصادية وحتى نفسية، ربما في الحديث عنها لشخص غريب قدرة على التخفيف من وطأتها، وتكسر المرأة بذلك صمتها أمام مرآة تعرف أنّها لن تنعكس أمام معارفها أو أقربائها أو من هم قادرون على فضح سرها.

إذ لا تتواجه الحريفة والعاملة مع بعضهما البعض خلال عملية التصفيف، ولعله السبب الذي يُشعر الأولى بالراحة عند مشاركة التفاصيل الشخصية للغاية مع الأخيرة، باعتبار أن المرآة التي تبدو في الواجهة، تخلق وهم المسافة.

أحيانًا تكون للقصص أبعاد اجتماعية أو اقتصادية وحتى نفسية، ربما في الحديث عنها لشخص غريب قدرة على التخفيف من وطأتها

اليوم ومع زخم المواد المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، صار الحديث مختلفًا شكلًا لكن في الجوهر يصب في نفس خانة النميمة أو المظلومية أو السخرية أو مشاركة الألم. كنت ذات يوم بين يدي عاملة في إحدى الصالونات في العاصمة، وجاءتها سيدة متحمسة بعد أن أنهت تصفيف شعرها ووضع مكياجها، لتسألها "هل صحيح أنّ ريبيكا رجل متحول جنسيًا؟"، وأنا لا أخفيكم القول إني لا أعرف الاسم حتى سمعته منها.

فأجابتها العاملة، نعم، هي متحولة وسردت عليها قصة حياتها وزيجاتها ومصادر تمويلها من الخليج إلى المغرب، وسط ضحكات شقت الجدران، ثم استطردت "القصة قديمة لا تقولي إنك علمت بها مؤخرًا؟"، فأجابت أنّ ابنتها أخبرتها قبل يوم فقط".

وواصلتا الحديث عنها، وعلمتُ من كلامهما حينها أن ريبيكا هذه، صانعة محتوى جزائرية، قدمت إلى تونس من أجل عملية تجميل وأنّ الكل يعلم سيرتها ما عداي، وعندما عدت إلى منزلي رحت أبحث عنها لأجد المسكينة تنفي أنّها متحولة جنسيًّا وتسب، بكل العبارات المتعارف على قبحها في مجتمعنا المغاربي، من خرج بهذه الإشاعة. وحين دخلت تطبيق تيك توك لأتابع حكايتها بعيدًا عن القيل والقال، اعترضني مقطع لسيدة تونسية تخنق زوجها فوق فراش نومهما وتغني له "مسيطرة"، وتلك حكاية أخرى، جعلتني أخرج من التطبيق غير متأسفة.

اقرأ/ي أيضًا: عائشة.. تونسيّة تقاوم مرارة الواقع بـ"حلاوة" إزالة الشعر

في بعض محلات التجميل، حين تجلس أمام العاملة، تسألك "أين قصصت شعرك؟ ثم تعبس وجهها لتقول يستغرق وقتًا ليعود كما كان، لقد خربته بنت الـ...". هنا تتحول العاملة إلى بركان هائج يريد أن ينفجر أمام أي كان، وفي هذه الحالات أُفضل أن أسايرها حتى تهدأ، أبتسم ابتسامة خفيفة، وأُنعم لها. العاملات أيضًا يحتجن إلى الكلام والتخلص من طاقة سلبية بعد ساعات طوال من الوقوف والتعب والإرهاق، تحتاج أن تكسر صمتها.

وفق تقرير في موقع psychologytoday، مصففو الشعر "هم المعالج الأول لعدد لا يحصى من الرجال والنساء، حيث يقدمون خدمتين، قصة شعر وعلاج"

وفق تقرير في موقع psychologytoday، مصففو الشعر "هم المعالج الأول لعدد لا يحصى من الرجال والنساء، حيث يقدمون خدمتين، قصة شعر وعلاج".

ووفق المصدر ذاته، "يحتاج معظم الناس إلى التحدث إلى أحد ما عن النزاعات التي يواجهونها في حياتهم، لكنهم لا يريدون بالضرورة التعمق في الأمر". وفي الصالون، يمكن للعميل مشاركة التفاصيل المبتذلة دون أنّ يقلق من إمكانية محاسبة العامل له أو محاولة تغيير سلوكه السلبي. على عكس العلاج التقليدي الذي يشعر فيه بالضغط لإزالة هذا السلوك، يقول التقرير.

كما يُشير إلى أنّ الحرفاء "يتشاركون نقاشات مع المحترفين في صالون التجميل لأنهم ممتعون، ولديهم روح الدعابة عادة، بعد قضاء آلاف الساعات في إتقان فن المحادثة أثناء جلوس العملاء على مقاعدهم".

وهو ما يعكس أهمية التجارب التي راكمها العاملون في صالون التجميل، إذ فتحت لهم باب مشاركة الأفكار والقدرة على الإنصات وتقديم النصائح القيمة حتى، بعد خبرة كبيرة، دون تدريب حقيقي.

اقرأ/ي أيضًا: هؤلاء خلّصوا اللحية من الشبهة الإيديولوجية..

لعل هذه الفكرة دفعت جهات في دول متقدمة إلى إصدار قانون يقر بضرورة تدريب العاملين في مجال الحلاقة والتجميل، باعتبار أنّ العلاقة بين الحريف والعامل أعمق من خدمة قص الشعر وتصفيفه، وفي ولاية تينيسي الأميركية صار لزامًا على أخصائيّي التجميل، بموجب القانون تم تفعيله يوم 1 يناير/كانون الثاني 2022، التدريب على تحديد علامات العنف المنزلي والاستجابة لها.

ووصف أحد رعاة المشروع، محترفي التجميل، بأنهم "مجموعة أخرى من العيون التي يمكن أن تنقذ حياة".

في صالون التجميل، يمكن للعميل مشاركة التفاصيل المبتذلة دون أنّ يقلق من إمكانية محاسبة العامل له أو محاولة تغيير سلوكه السلبي

وفي دول مثل أمريكا تقدم صالونات التجميل والتصفيف نفسها كبديل معالج، يستمع العاملون فيها إلى قصص الحرفاء ويتعاطفون مع مشاعرهم، ويقدمون المشورة أيضًا، تحت مسمى سيكولوجية مصففي الشعر.

وربّما تُفعل تونس مثل هذه الأطر القانونية، التي تحمل في طياتها اعترافًا بأهمية مصففي الشعر في علاج الحرفاء وخلق بديل قادر على تفهم أخطائهم واستيعاب مشاكلهم والإنصات إليهم، دون ضغط أو خوف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"موهّر فرار".. ما معنى أن تكون "فرار" في تونس؟

عالم طب التجميل في تونس.. طب السعادة!