11-يناير-2022

الريّس محمد على رصيف الميناء (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

تتلاطم الأمواج على رصيف الميناء، برد شديد وزخات من المطر تتساقط على أكوام من الشباك وتتزاحم القوارب الراسية متمايلة جنبًا إلى جنب وكأنها ترقص للشتاء القارص وقد أمنت رحلة الموت واستراحت من هزات القدر في عباب البحر.

في ركن من بيت صغير على رصيف الميناء جلس الريّس محمد (49 سنة)، صاحب مركب "القدس"، يرتق الشباك فيمسك طرفها بأصابع ساقيه الممتدتين وطرفها الآخر بفمه فيخيط ما انفلت منها وما تقطّع من أعين.

الريّس محمد يرتق شباكه (ماهر جعيدان/الترا تونس) 

اقرأ/ي أيضًا: تربية الأسماك في تونس: قطاع واعد ومخاوف صحية وبيئية

يجلس بين أكوام الشباك المختلفة فتلك مصدر قوته وقد أوقد وسط البيت سطلًا يشتعل جمرًا، فهو قد استسلم لدفئ المكان وترك عنان البحر للأمواج الغاضبة وأرسى قاربه في مأمن من غضب الطبيعة.

ثلاثة أيام والريّس محمد يجلس هنا في هذا المحل الصغير على رصيف الميناء يعمل على صيانة معداته من شباك وشصّ وخفاف ورصاص وحبال الصيد بأنواعها، وكان يتمتع ببعض الهدوء والدفئ والسكينة بعيدًا عن أهوال الموج وغدر البحر.

الريّس محمد: "26 سنة وأنا أحاكي البحر في سكونه وهيجانه، وأجمع من خيراته ما يكفيني من رزق، انقطعت عن الدراسة في سن 23، أنا جامعي ولكن البحر قد منحني فخر التجربة والخبرة"

جلست إلى "محمد الكحلوني" وكان كالمحارب ينتظر سكون الريح وذهاب الغيم وتراجع الأمواج ليعلن غزوة جديدة من أجل قوت يومه، ولكن كان لابدّ أن يتسلّح بشباك قوية وحبال متينة وقارب لا يشقّ له موج.

"ستة وعشرون سنة وأنا أحاكي البحر في سكونه وهيجانه، وأجمع من خيراته ما يكفيني من رزق، انقطعت عن الدراسة في سن الثالثة والعشرين، أنا جامعيّ ولكن البحر قد منحني فخر التجربة والخبرة"، هكذا تحدث محمد عن بداياته لـ"الترا تونس".

"اقتنيت في أول عهدي بالصيد البحري قارباً صغيرًا بالمجداف ثم امتلكت قاربًا ذي 10 أمتار واليوم أمتلك قاربًا يبلغ طوله 12 مترًا ويرافقني في رحلات الصيد 4 رجال نطلق عليهم البحريّة".

صورة مركب "القدس" للريّس محمد (ماهر جعيدان/الترا تونس) 

 

ما يجمع الريّس محمد برفاقه من البحريّة روح الفريق المتضامن الذي "يسرح" في البحر ليوم أو يومين وربما أكثر من أجل صيد قد يطعمهم وعائلاتهم ويكفيهم تعب الحياة وقسوتها.

ولم يخف عنا الريّس طريقة اقتسامهم ذلك الرزق الذي سيق إليهم فيقول "كلما رجعنا بصيد من كنوز البحر طرحنا الأعباء من مصاريف مختلفة واقتسمنا الأرباح كما هو متداول في السوق فيكون النصف لصاحب المركب والنصف الآخر للبحريّة فبقدر الاجتهاد تكون الغنيمة".

الريّس محمد لـ"الترا تونس": "أقتسم الأرباح مع البحريّة كما هو متداول في السوق فيكون النصف لصاحب المركب والنصف الآخر للبحريّة فبقدر الاجتهاد تكون الغنيمة"

ويضيف، خلال حديثه لـ"الترا تونس": "هذه القسمة تختلف من مركب إلى آخر حسب الحجم فالمراكب الكبيرة من نوع "بالانصي" تختلف قسمة مرابيحها عن القوارب المتوسطة أو الصغرى، فالمراكب المحدودة العدد من البحريّة لا تنازعهم أهواء الربح ولا تثنيهم عن السعي الخسارة".

ويقول الريّس محمّد "الأخطبوط أو ما نطلق عليه "القرنيط"، الشوبيا، المجّل، الشّلبة، المسلّة، السردينة.. هي أكثر أنواع خيرات البحر التي تعلق بشباكنا.. ونحن لا نبقى عند حدود الشواطئ بل نبحر في الأعماق حتى المياه الإقليمية لدول مجاورة بحثًا عن مكامن الأسماك وأسرابها المتنقلة و البحر كما البرّ سفاح وتلال ومساقي وأراضين حذقنا عمقها وألفنا أماكنها".

كان محمّد كلما تحدّث عن غنائمه من خيرات البحر تأخذه نخوة الانتصار ونشوة القوة فالأسماك العالقة في الشباك تعزّز الثقة في رجاله المحاربين وتدفعهم إلى خوض معارك جديدة في سبيل رزق حلال.

وحول كمية الثروة السمكية في مياهنا الإقليمية التونسية، لم يخف محمد تخوفاته من تراجع كبير قد أصابها في العقود الأخيرة وذلك بسبب الاستغلال المفرط وانتشار الصيد العشوائي وعدم احترام مواقيت الصيد وآجاله والاعتداء على مبايض الأسماك بسبب استعمال الشباك في غير ما تم تخصيصه لها.

كما اشتكى الريّس محمد من اختلال العرض والطلب في السوق بسبب ضعف المقدرة الشرائية للمواطن ومحدوديّة البيع مما أشعل لهيب الأسعار في "ولد البحر" (ويعني باللفظ المتداول تونسياً السمك).

لم يخف الريّس محمّد تخوفاته من تراجع كبير قد أصاب الثروة السمكية في العقود الأخيرة وذلك بسبب الاستغلال المفرط وانتشار الصيد العشوائي وعدم احترام مواقيت الصيد وآجاله وغير ذلك

سفن على رصيف ميناء سوسة (ماهر جعيدان/الترا تونس) 

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الموانئ البحرية في سوسة: أسرار وأسوار

حكايا البحر عند الريّس محمد لا تقف عند حدود السمك والصيد بل البحر إن طفت أمواجه عاليًا يضجّ بالإنسانية ويتصارع عنده الحياة والموت، فروى لنا قصته مع إعصار بحري كاد يفتك به وبرفاقه عند يوم ماطر عصفت الرياح بمركبه فلطمه الموج الهائج وكاد يستقر به في الأعماق لولا رحمة من الله وبعضًا من الخبرة في توجيه القارب نحو النجاة.

كان "الريّس والبحريّة" يقفون عند الموت فيدفعونه بصلابة. يروي الريّس، في هذا السياق، قائلاً " لما كنا نرمي الشباك في البحر وقد تجاهلنا الإنذار بسوء الأحوال الجوية، هبت العاصفة فنفخت ريحًا وسقت مطرًا شديدًا وحجبت الرؤية على مدى بعض الأمتار.. وقعنا في كفّ الموج حتى كدنا نهلك فلم نهتم باتجاه البوصلة بقدر اهتمامنا بتفادي حركة الموج الهائج وما إن بلغنا الميناء حتى علمنا أننا قد ولدنا من جديد".

الريّس محمد لـ"الترا تونس": "جوهر الإنسانية أن تصارع من أجل البقاء، وفي البحر قد يعترضنا الموت كما يعترض المئات من "الحرّاقة" شبابًا وشيبًا ونساء وأطفالًا.."

ويضيف لـ"الترا تونس": "جوهر الإنسانية أن تصارع من أجل البقاء، وفي البحر قد يعترضنا الموت كما يعترض المئات من "الحرّاقة" شبابًا وشيبًا ونساء وأطفالًا.. وقد يصادف أن نرى قواربهم في الأعماق.. ويصدف أن نلقاهم يصرخون عطشى.. وقد نحاول أن نمدهم بالماء والمأكل و لكن لا نتجرّأ على تمكينهم من امتطاء قواربنا أو الاقتراب منا فالقانون لا يحمينا ولا يمكن التكهن بنواياهم فالكثير منا من استأسد لإنقاذهم فاختطفوا المراكب نحو الشواطئ الإيطالية.. وكان لي مرّة أن التقيت قاربًا عليه 4 أشخاص وقد حلّ به عطب فأمددتهم بالماء والسجائر وبقيت على مسافة منهم حتى حلت الوحدات العائمة للحرس الوطني وأقلّتهم على متن الخافرة..".

حدثنا عن الدلفين الذي يمزّق الشباك وعن "سمكة القمر" وعن الحوت الضخم في عرض البحر وعن صيد "حصان البحر" و"الاسبادون".. (ماهر جعيدان/الترا تونس) 

 

تواصلت الدردشة مع الريّس محمد في ركن الحجرة الدافئة وقد هزّه البرد القارس والموج الهائج خارجًا إلى حكايا وذكريات تتزاحم في ذهنه فحدثنا عن الدلفين الذي يمزّق الشباك وعن "سمكة القمر" وعن الحوت الضخم في عرض البحر وعن صيد "حصان البحر" و"الاسبادون".. كان يحدثنا عن رمي الشباك أو كما يسميه البحارة "الغزل" على مسافة أميال وعن فقه الصبر والانتظار بين زرقة الماء والسماء  وكان يسهب الحديث في طرق الصيد الممنوعة وكان حريصًا على أن يعامل الصيادون أمام القانون سواسيّة.

والريّس محمد، صاحب مركب "القدس"، ليس وحده من يعاني من مشاكل قطاع الصيد البحري بل هو واحد من المئات الذين يمارسون هذه المهنة في الشواطئ التونسية، قطاع يعاني من صعوبات جمّة على غرار تقلص الثروة السمكية وضعف كفاءة ومردود الصيادين واهتراء البنية التحتية من موانئ ومعدات صيانة.

الصيد البحري يعاني من ترسانة من القوانين البالية وتغّول أصناف على حساب أخرى وصراع دائم بين أصحاب القوارب من جهة والقوارب الترفيهية من جهة أخرى ومربّي الأحياء البحرية

كما أن الصيد البحري يعاني من ترسانة من القوانين البالية وتغّول أصناف على حساب أخرى وصراع دائم بين أصحاب القوارب من جهة والقوارب الترفيهية من جهة أخرى ومربّي الأحياء البحرية في الأقفاص العائمة.

وترفع تقارير عديدة من منظمات دولية سنويًا عن خرق قوانين صيد سمك التونة وكذلك استعمال طرق صيد محجرة وتجاوز المياه الإقليمية ومشاكل التهريب وغيرها.

صورة الريّس محمد مع مراسل "ألترا تونس"

 

اقرأ/ي أيضًا:

تلوث خليج المنستير: عوائق التمويل تعطّل الاستصلاح والاستثمار

أطنان من النفايات الخطرة في مياه تونس.. ما قبل الكارثة!