31-أكتوبر-2022
الكذب والحقيقة في خطاب الحكام والسياسيين

إن ما تعيشه تونس يتطلّب خطابًا شفافًا واضحًا صريحًا يخفّف من وطأة الأزمة​ (صورة توضيحية)​

 

يرافقنا الخطاب السياسي في كل محطة انتخابيّة وترافقنا معه حزمة قيميّة أخلاقية في الأقوال والأفعال فيخرج بين جنبينا أناس يصدقون وآخرون يكذبون، بعضهم يعتلي المصادح ويغرّد بصوت قويّ عالٍ يعد بالمدينة الفاضلة، ويخرج علينا مواطن صادق صفر اليدين لا يعد بشيء وكأنّ الفضل في وجوده، التاريخ السياسي للآخر الكاذب.

رافق الكذب الخطاب السياسي في كل مدخلات الحكم، حتى التبست الحقيقة بالوهم فكانت النتيجة انهيارًا اقتصاديًا واضطرابًا اجتماعيًا وعدم استقرار سياسي

خلتُ أن أمر السياسة أو "فن الممكن" كما يُطلق عليه، هو أمر الفعل والتنفيذ والحكم الذي يشوّه نصاعته "الكذب"، حتى علمتُ أن الكذب قد يكون مقترنًا بالوجود فشوهته السياسة باعتبار أن الكذب لا ينبع عن العقل، لأن العقل له ضوابط ولا ينبع عن الحواس، لأن الحواس لا تحكم ولكن الكذب ينبع من الإرادة الإنسانية.. فمن يكذب يدرك بكل حرية أنه كذلك.

إن مجرّد تلفظ السياسي بالكلام، هو منجز للأفعال التي يعتزم القيام بها، هكذا يضبط الخطاب السياسي في مضمار الصدق والكذب بمنطوق الكلام وبلاغة البيان ومنهما يصنع الواقع أو تستهويه الخديعة.

حقبات سياسية مختلفة مرّت بها تونس الحديثة وكانت ثورة 2011 فاصلًا بينها، حتى فصلنا ما قبل ذاك التاريخ وما بعده باعتباره القيمي وهي قيمة الحرية التي ترتدّ من حين لآخر وتصارع البقاء، ومررنا بعد 14 جانفي/ يناير 2011 بمراحل انتخابية متنوعة ابتداءً بانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011 مرورًا بانتخابات 2014 و2019 وصولًا إلى استفتاء 2022 لنصل إلى الانتخابات التشريعية في ديسمبر/ كانون الأول القادم.. محطات صاغت خطابًا سياسيًا مليئًا بالمتناقضات حتى انطفأت شعلة الثورة جراء خطاب السفسطة والشعبوية.

 

 

لقد رافق الكذب الخطاب السياسي في كل مدخلات الحكم حتى التبست الحقيقة بالوهم فكانت النتيجة انهيارًا اقتصاديًا وعجزًا ماليًا واضطرابًا اجتماعيًا وعدم استقرار سياسي مما دفع الشباب إلى البحث عن مدخلات "الصدق" وراء البحار تاركين مدخلات "الكذب" داخل الديار. فعلى امتداد السنوات الأخيرة استعمل الساسة خطابًا اختلط فيه العاطفي بالسياسي والسياسي بالديني حتى استحال الوضع إلى واقع مهزوز.

أستاذ الحضارة عبد العزيز شبيل يقول لـ"الترا تونس": "وجوه الكذب متعددة، ولا وجود للصدق إلا بوجود الكذب، فالكذب ظاهرة مرتبطة بالإنسان فهناك من يقول إنّ الإنسان حيوان ناطق بل هو بهذا المعنى حيوان كاذب، فاللغة نفسها تكذب لأنها لا تهب المعنى الكامل لما يقوله الإنسان، وبما أن اللغة تكذب فلا يمكن للإنسان أن يكون صادقًا بالتمام والكمال صدقًا مطلقًا".

عبد العزيز شبيل (أستاذ حضارة) لـ"الترا تونس": اللغة نفسها تكذب لأنها لا تهب المعنى الكامل لما يقوله الإنسان، وبما أنها تكذب فلا يمكن للإنسان أن يكون صادقًا بالتمام والكمال

ويتطرق الباحث في الحضارة مبارك حمدي أستاذ بجامعة قفصة في مقابلة له مع "الترا تونس" على هامش ندوة "خطاب الكذب" التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، إلى نموذج من أكاذيب السياسيين والأغراض والآليات التي استعملها السياسيون والعوامل التي جعلت الكذب يتحول إلى ظاهرة لافتة بعد الثورة، وذكر أن زوال الضغط والأساليب القديمة التي مورست في العهدين الدكتاتوريين السابقين (يقصد فترة الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي) لم يترك للسياسيين الجدد إلا بلاغة الكذب والوفرة في الأكاذيب، وتنوعت من أكاذيب تتعلق بالماضي، أي بتفسير الماضي أو تفسير أفعال أو تبريرها وأكاذيب أخرى تتعلق بالمستقبل أي بالوعود الانتخابية".

ويضيف الباحث مبارك حمدي: "نماذج الكذب في الخطاب السياسي في تونس تغطي مختلف التيارات السياسية على نحو يدل على أن الكذب ظاهرة شاملة لجميع السياسيين في تونس، ورمت إلى ضرورة التحري فيها لأنها تربك المشهد وتربك المصداقية وآثارها على المدى القريب والمتوسط، ما من شأنه إفساد السياسة لأنها تضرب الثقة بين المواطن والمسؤول، فالأكاذيب في السياسة معروفة، والفلاسفة تحدثوا في هذا الأمر، بل الغريب فيما أشرت إليه التحول إلى ظاهرة طاغية عند السياسيين أي ساسة بعد 2011".

مبارك حمدي (باحث في الحضارة) لـ"الترا تونس": تكثّفت القناعة لدى التونسيين أن السياسة تساوي الكذب، فلا يمكن أن يكون السياسي ناجحًا إلا إذا كذب وفق البعض

ويضيف حمدي: "لم تسلم من هذا الكذب الذاتي الجبهة الشعبية التي أظهرت أنها قوة كبرى في المشهد السياسي ثم تبينت أنها ضعيفة، كما أن الكذب الذاتي موجود لأن الذات تنشطر إلى كاذب ومكذوب عليه، ولنا نماذج عن حركة النهضة وهم أنفسهم لا ينكرونها".

ويذهب مبارك حمدي إلى القول "بضرورة التفكير معًا في حلول ناجعة للتقليص من هذه الظاهرة التي لا نستطيع أن ننفيها تمامًا من الممارسة السياسية وإنما نستطيع أن نقلص منها لتحقق الحد الأدنى من المصداقية والثقة بين السياسية والمواطن".

"البوليتيك" في اللهجة الدارجة التونسية هو الكذب عندنا، بعبارة تكثّف القناعة لدى التونسيين أن السياسة تساوي الكذب، فلا يمكن أن يكون سياسيًا ناجحًا إلا إذا كذب، وهناك مدح للسياسي الذي يحسن الكذب ومن لا يتقنه ولا يحسنه إذ نحكم عليه بالفشل، وفق حمدي.

ياسين عاشور (جامعي): "ليس بإمكاننا اليوم أن ننكر قدرة أفراد النوع الإنساني على الكذب من مغالطة وإبهار وتلاعب وتضليل، فالإنسان حسب محاولات تعريفه إنما هو حيوان كاذب"

 الجامعي ياسين عاشور يقول في مداخلة له: "ليس بإمكاننا اليوم أن ننكر قدرة أفراد النوع الإنساني على الكذب من مغالطة وإبهار وتلاعب وتضليل، فالإنسان حسب محاولات تعريفه إنما هو حيوان كاذب، والكذب من أبسط تعريفاته هو أن يصرح امرئ بقول لا يصدّقه بقصد دفع امرئ آخر إلى تصديقه".

ويضيف عاشور: "يفترض هذا التعريف أن كذبة ما تتكون من ثلاثة أركان رئيسية: تصريح بأمر ما – عدم تصديق المخاطب لمضمون تصريحه – وجود نية للخداع الطرف المقابل وليس أعسر من تجنب خداع الذات".

الأستاذ سالم بوخداجة يقول في تعقيب له على إحدى المداخلات، إن السياسة استباحت الكذب وشارل باسكوا يقول: "ليس المشكلة أني كذبت ولكن المشكل في المواطن الذي صدقني"، فالمشكل يتمثل في المتقبل الذي يصدق الكذب ولا بدّ من دراسة قدرة المتقبل على كشف الأكاذيب والألاعيب، ونحن نعيش أكاذيب كبيرة وهناك أكاذيب مقدسة،كنت أنتظر الجرأة على هذا ففي السياسة نحن نعيش في كذب يومي" وفقه.

سالم بوخداجة (أستاذ): المشكل يتمثل في المتقبل الذي يصدق الكذب ولا بدّ من دراسة قدرة المتقبل على كشف الأكاذيب والألاعيب

أما الدكتور حمادي جاب الله فيقول لـ"الترا تونس": "قدمت محاولة في تفسير الكذب أو الصدق أو تفسير الظواهر الطبيعية انطلاقًا من "ديكارت" أو "إيمانويل كانط"، إذ تخضع دائمًا لنفس المبادئ وهي القدرة العقلية القبلية باعتبار أن الحواس لا تكذب، لكنها لا تحكم، وأن العقل لا يكذب لأنه لا يملك أن يخرج عن القواعد التي وضعها، وبالتالي فإن الكذب لا يكون ممكنًا إلا لكائنات عاقلة مريدة وتتمتع بالإرادة المطلقة، وهي كائنات حرّة، ودليل على أننا نكذب أو نصدق بملئ إرادتنا وحريتنا ولذلك نتحمل مسؤوليتنا في الكذب كما في الصدق".

ويذهب حمادي جاب الله إلى أننا نعيش في وضع "اليتم السياسي"، ولا توجد سياسة في هذه البلاد وإنما هناك تسيير للبلاد بطريقة تؤخذ منها وتردّ، وبعد 2011 أصبحت السياسة تحطيمًا غبيًا لمكاسب الوطن، ويمكن أن تجدّد في السياسة دون أن تجعل الأصل ينهار، ولكن وصلنا إلى مرحلة أن الساسة اليوم يتنفسون كذبًا، وفي ذلك أمثلة كثيرة.. وكأنما السياسة اجترار البديهيات لإفساد معانيها، ورهان الكذب هو رهان سياسي يصدر عن تموقع سياسي".

ويضيف جاب الله "الكذب والسياسة كلاهما وليد الاجتماع الإنساني. والتلازم بينهما أزلي، والصراع بين الحقيقة والسياسة قصة قديمة ومعقدة، وإرادة الكذب بإطلاق موقف وصفي برغماتي يبيح الكذب، ونجد ذلك فيما يذهب إليه أفلاطون بالقول "قد يضطر الحكام إلى الكذب من أجل دفع المحكومين للدفاع عن أرضهم أو للمحافظة على السلم الاجتماعي عبر تقسيم الشعب إلى طبقات نهائية ليرضى كلّ منها بمنزلته المتفاوتة في المعادن من حيث نفاستها".

حمادي جاب الله (دكتور جامعي) لـ"الترا تونس": السلطة بعد 2011 كانت تحت مراقبة شعبية دقيقة، وفي ظلّ غياب استقرار سياسي، ونقص واضح في الخبرة في الحكم، كانت أسهل الطرق هي الكذب والخداع

ويخلص حمادي جاب الله إلى أن "السلطة بعد 2011 كانت تحت مراقبة شعبية دقيقة، وفي ظلّ غياب استقرار سياسي، ونقص واضح في الخبرة في الحكم، كانت أسهل الطرق هي الكذب والخداع، فالسياسة مضمار التنافس، والكذب أحد الأسلحة المستعملة فيها. وشهدت هذه الفترة خلطًا للسياسي بالعاطفي وخلطًا للسياسي بالديني، انزلق الخطاب بعدها إلى دسّ خديعة وتمريرها".

إن استمرار خطاب الخديعة في الفعل السياسي أفقد ثقة المحكوم في الحاكم، فأضاع الحرية والكرامة معًا، ورغم أن مضمار السياسة والكذب متوازيان، فإن ما تعيشه تونس يتطلّب خطابًا شفافًا واضحًا صريحًا يخفّف من وطأة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وتعميق الحوار بين كافة المكونات المؤثثة للمشهد على اعتبار أن التشاركية ورقابة المجتمع المدني على الدولة في مناخ من الحرية قد يخفف من وطأة الخدع الانتخابية ويكشف الوجه السيء لمترشحين يستعملون ذات الأسلحة المخادعة في التنافس السياسي.