عندما هزمت روما مملكة قرطاج في تلك المعارك التاريخية الأخيرة وحرقتها بالكامل ودمّرت كل منشآتها وكسرت هيبتها وشرّدت أهلها وحملت قادتها العسكريين للرعي وغراسة الزيتون في الجوار، اعتقد الرومان المنتصرون حينها أنهم جبابرة وقد ملكوا الأرض إلى الأبد. فبسطوا أمام نصرهم فسيفساء الخلود القاسي وهيّؤوا لأنفسهم الأبدية من بعدهم. لكن للتاريخ مكره ورأيه المختلف ومكائده التي لا تعلو فوقها مكائد، فها هي مدينة رومانية متكاملة من مدنهم المخلّدة بنيت في القرن الثاني ميلادي اسمها "دقة" تستعيد نفسها وتعود من تلك الغياهب فتينع من جديد لذاتها وجمالها ولأهلها النوميديين من بعد نسيان، فتصبح واحدة من المعالم التاريخية التي صنفتها منظمة اليونسكو تراثًا إنسانيًا منذ سنة 1997.
"دقة" -الموقع- التي تمسح قرابة 100 هكتار والقابعة في وكر النسر هناك في أعالي جبال تبرسق من ولاية باجة، عاد إليها صوتها، بل عاد إليها ألقها الغابر عبر مهرجانها الموسيقي الصيفي ذي الصبغة الدولية.
مهرجان دقة الدولي يتميز بمسرحه الروماني المتكامل الشامخ بأعمدته الكلسية ذات التيجان وهو معلم فريد من نوعه وحسب خبراء التراث الروماني في تونس وخارجها فإنه يتفوق جماليًا على باقي المسارح الرومانية في تونس
هذا المهرجان الذي انطلقت أولى دوراته سنة 1920 إبان الاستعمار الفرنسي لتونس عبر عروض كوميدية فرنسية، لكنّ بدايته الحقيقية كانت بعد الاستقلال ليصبح علامة فارقة في المشهد الثقافي الترفيهي ويقدم صورة نموذجية عن اللامركزية الثقافية أو ما يمكن تسميته بالتمييز الثقافي بين الجهات التونسية حتى أضحى مهرجان دقة الدولي منافسًا لأكبر المهرجانات التونسية على غرار مهرجاني قرطاج الدولي والحمامات الدولي اللذين ترعاهما وزارة الشؤون الثقافية رأسًا.
مهرجان دقة الدولي يتميز بمسرحه الروماني المتكامل، الشامخ بأعمدته الكلسية ذات التيجان وهو معلم فريد من نوعه. وحسب خبراء التراث الروماني في تونس وخارجها فإنه يتفوق جماليًا على باقي المسارح الرومانية التونسية مثل قرطاج وأوذنة وأوتيك، وغيرها.
وقد اعتلاه فنانون كبار نذكر منهم المسرحي علي بن عياد والمطربين التونسيين الهادي الجويني ونعمة وعلية... ومن الفنانين العرب نذكر ماجدة الرومي وعبد الحليم كركلا ودريد لحام وأمينة رزق وعبد الله غيث وصباح الجزائري وصباح فخري، وأقطاب المسرح الكلاسيكي الفرنسي.
هذا الرصيد التاريخي المادي واللامادي لمهرجان دقة تعرض للطمس في وقت من الأوقات ضمن سياسة الإهمال التي تعرضت لها مناطق الشمال الغربي التونسي.
هذا المهرجان العريق انطلقت الخميس 27 جويلية/يوليو 2023 دورته 47 التي تتواصل إلى السابع من أوت/أغسطس القادم بسهرة تونسية المحتوى أثثها أحد رموز الأغنية الأندلسية في تونس (المالوف) وهو المطرب زياد غرسة.
في السهرة الافتتاحية لمهرجان دقة كان زياد غرسة تونسيًا بكل معاني الكلمة من حيث حضوره على الركح بالجبة التونسية والنغمة الوفية لثوابتها الأندلسية والتونسية وأمتع الجمهور بباقات موسيقية "فوندو" لأقطاب الأغنية التونسية
قبل دخول الجمهور إلى المسرح التاريخي الذي يسع مدرّجه لأكثر من ثلاثة آلاف متفرج، كان القمر يتدلى قريبًا فيربت على أكتافنا ويسكب فضته أمامنا ونحن صعود في حضرة التاريخ إلى قمة الفن وقمة الجبل. وكانت الحفاوة بلا ضفاف من أهل المنطقة وخصوصًا الشباب المتطوع الذي كان متفانيًا في إنجاح الحدث.
وكان التنظيم محكمًا إلى أبعد الحدود وهي أمارات وإشارات واضحة بأن "دقة" تنهض ثقافيًا وتجمّل نفسها وتبعث رسائل الحياة إلى كل الغافلين من مسؤولين سياسيين وثقافيين، وتقول لهم تعالوا إلى هنا حيث الأمجاد الخالدة وحيث التاريخ، كفى التفاتًا إلى المدن الكبرى.
كان المسرح في أبهى حلله الضوئية وهي واحدة من مفردات العرض الموسيقي لزياد غرسة، تحوّم فوق تيجانه وأعمدته أرواح البناة وأرواح الفنانين الذين مروا من هناك مخلفين أصداء تلتقطها مجسات الروح. هنا في دقة تقف لتقطف الجمال الأبدي الذي أراده الرومان لأنفسهم ومن بعدهم أجدادنا النوميديون.
زياد غرسة خلال هذه السهرة الافتتاح كان تونسيًا بكل معاني الكلمة: من حيث حضوره على الركح بلباسه التقليدي (الجبة التونسية) والنغمة الوفية لثوابتها الأندلسية والتونسية وهو الذي نشأ منذ حداثة سنه في وسط موسيقيّ كلاسيكي، فوالده هو الموسيقار الطاهر غرسة الذي يعد أحد اقطاب الموشحات والمالوف التونسي والذي بدوره تتلمذ على يد الشيخ خميس الترنان. وأيضًا قيادته للراشيدية وفرقتها الموسيقية (أهم مؤسسة تونسية ترعى المالوف) لمدة خمس سنوات منذ سنة 2006 خلفًا للموسيقار الراحل عبد الحميد بنعلجية. لذلك يعد المالوف التونسي جزءًا لا يتجزأ من برامج عروضه داخل تونس وخارجها.
السهرة كانت ناجحة رغم جنوح زياد غرسة للأغاني التي يحفظها الجمهور ويرددها ولم يسعَ جاهدًا إلى أن يقدم من رصيده الطويل وألحانه رغم أنّ مثل هذه المناسبات تعدّ فرصة سانحة بالنسبة للفنان لاختبار إنتاجه الخاص
وقدّم زياد غرسة في افتتاح مهرجان دقة الدولي لصائفة 2023 مجموعة من أغانيه الخاصة مثل "علاش تحيّر فيّ" و"عزيّز قلبك" و"المقياس" و"حليمة"، لكنه في نفس الوقت قدم قطوفًا مترابطة من الكلاسيكيات الشهيرة على غرار "يا مرحبا بأولاد سيدي" و"كحلة الأهذاب"، وغيرها.
حاول زياد غرسة إمتاع جمهور دقة الذي خصت به كامل المدرجات تحت ضوء القمر بباقات موسيقية "فوندو" لأقطاب الأغنية التونسية مثل صليحة والهادي الجويني والهادي القلال ونعمة.
السهرة كانت ناجحة بالرغم من جنوح زياد غرسة ضمن برنامجه بمهرجان دقة الدولي للأغاني التي يحفظها الجمهور ويرددها ويتمايل معها، ولم يسعَ جاهدًا إلى أن يقدم من رصيده الطويل وألحانه هو فمثل هذه المناسبات والتظاهرات -في اعتقادي الشخصي- تعد فرصة سانحة بالنسبة للفنان لاختبار إنتاجه الخاص على المباشر وأمام الجمهور.
"جبل دقة"، تلك البوابة العالية للشمال الغربي التونسي حيث يقام المهرجان الموسيقي الدولي في خاصرته الكلسية، أرادها تحية رمزية لجبال الظهرية التونسية حيث اشتعلت حرائق كبيرة منذ أيام خلت، فخلفت دمارات في الغابات وانكسارات عاتية في نفوس أهالينا بطبرقة وملولة وعين دراهم من ولاية جندوبة واهتزت لها شبكات التواصل الاجتماعي وهبّت لها الرجال من كل فج عميق. إن عقيدة هذه التظاهرة العريقة هي الانتصار على الألم في مناطق التهميش والنسيان بالثقافة والفكر والفنّ.
