24-أغسطس-2020

الدورة 44 من مهرجان دقة الدولي

 

كان أيقونة المسرح التونسي "علي بن عيّاد" كلّما حلّ بالمسرح الأثري بدقّة إلا وانخطف قلبه، وقد حدثنا المقربون منه أنه عند استعداده لعرض مسرحية "كليغولا" سنة 1963، كان يصعد  مدرجات هذا المسرح إلى نهايتها  فيتيه بصره في الأفق اللاّمحدود بين الأعمدة التّيجانية الشاهقة والسّواري الباذخة التي تحيط بالرّكح ويبقى مندهشًا لما فعل الأجداد من النّوميديين والرّومان في جوف هذا الجبل الصخري. وكان يقول أنّ هذا المسرح يبعث داخله طاقات ونداءات عجيبة تجعله على خفّة فيطير ليعود من جديد مع نهاية العرض.

لقد حاولت تمثّل أحاسيس "علي بن عيّاد" وأنا أرتقي نفس درجات مسرح دقة في إطار حضور فعاليات افتتاح الدورة 44 لمهرجان دقّة الدولي، مساء السبت 22 أوت/أغسطس 2020، والتي كانت مسبوقة بزيارة منظمة للأجزاء البارزة من الموقع الأثري الفسيح بإشراف دليل سياحي ثقافي محترف أفادنا بأنّ هذا المسرح الأثري النصف دائري الفريد من نوعه ضمن خارطة المسارح الرومانية في تونس لمحافظته على جميع مكوناته.

تصوير: رمزي العياري / ألترا تونس

هو جزء لا يتجزأ من موقع دقة الأثري أو المدينة الرومانية المتكاملة التي تمسح ما يقارب المائة هكتا، هي ليست بعيدة عن الطريق القديمة النافذة للشمال الغربي التونسي الرحب والخيّر والشقيّ، حيث يشرئبّ عنق مدينة "دقة" الأثرية التي تنام في بساتين من كروم وزياتين لتقول للعابرين وقاصدي المدن الغربية ها أنا ذا أراكم و لا ترونني، ألوّح لكم بمناديلي الرومانية والنوميدية الزّاهية وأدعوكم للتّمتع  بجمالي وما خلّفت الحضارات المتعاقبة من صروح وشموخ.

قد تبدو "دقة" بقايا ذاكرة لكن متأمّلها والمتجول في رحابها يجد أنها مدينة ممتلئة بالقصص ومزدحمة بالأحداث والأبطال والتاريخ

 قد تبدو "دقة" بقايا ذاكرة على أديم الشمال الغربي وتحديدًا على تخوم مدينة "تبرسق" من ولاية باجة، لكن متأمّلها والمتجول في رحابها يجد أنها مدينة ممتلئة بالقصص ومزدحمة بالأحداث والأبطال والتاريخ، هي مدينة  مخلصة لذاتها كقصيدة شعر أو كوشم لامع على خدّ جدّة تكره كلّ أشكال الوداعات.

 

"دقّة" النوميدية ظلّت عصيّة عن الفتح اللغوي

إذ يذكر دليلنا الثقافي أنّ "دقّة" أو "توغّا" اسم أمازيغي قديم يدلّ على علوّ الموقع وصلابة صخوره، وأنّ هذا الاسم حافظ على وجوده في العهد الروماني وهو ما يدلّ على أن المدينة كانت عصية عن الفتح اللغوي الروماني، فقد ظلّت "دقّة" هي "دقة" مذ ذاك الوقت إلى اليوم.

ويشير إلى أنّ "دقّة" في الزمن النوميدي كانت سيدة مدن الشمال ولعل ضريح الأمير "آتيبان بن أبتيتاج" الموجود بالموقع إلى اليوم والذي يبلغ طوله واحدًا وعشرين مترًا، والمعبد المخصص للقائد "ماسينيسا" يعكس المكانة التي كانت عليها المدينة في تلك العهود البعيدة ما قبل القرن السادس ميلادي.

تصوير: رمزي العياري / ألترا تونس

ويمكن للمتجول في الموقع أن يلمس ذاك الحب المدوي من أهل البربر لمدينتهم الفاتنة بقلبه قبل عينه. لقد كان الأجداد يتقنون التحيّل على الزمن الواهي ويعرفون جيدًا معاني المضيّ بوثوقية على دروب الخلود. نعم، قد تنتابك هذه المشاعر وأنت تتفيأ ظلّ ضريح الأمير أسفل سهل "وادي خلاّد" خجول المياه.

نوميديا زرعت زيتونًا معمّرًا مازلنا نقطفه إلى اليوم. حتى أن الرومان ما إن استوطنوا دقة حتى شرعوا في قطف الثمار وعصر الزيتون وترحيله في دنان من خشب لمطامير القيصر بروما.        

ويؤكّد دليلنا أنّ "دقّة" عرفت  في العهد الروماني ازدهارًا لا مثيل له، ولعل الدليل على ذلك هو تلك المنشآت المدنية والحضارية التي مازالت شاهدًا على تلك الأمجاد التليدة حيث ينتصب مبنى "الكابتول" قرب المسرح في هيبة وشموخ، وهو معبد بني لغرض عبادة الثالوث الإلهي لروما لكنه أحيانًا يتحول إلى سكن للقيصر. ويحتل المساحة الأكبر بين مباني الموقع بأسواره وسواريه العالية ونقوشه ونسره المنقوش على البوابة تمجيدًا لأحد الأباطرة الخيّرين.

ركح المسرح الأثري بـ"دقة" بدا كابتسامة نبي في سماء تلك السهرة الافتتاحية التي انطلقت بدقيقة صمت تضامنًا مع أهالي الحامة

"الكابتول" الذي شيّد خلال القرن الثّاني ميلادي تحمل حجارته قصص "الدقّيين" على مرّ القرون، من هذا المكان أتّخذت القرارات السياسية والاقتصادية والثقافية الخاصة بالجهة، حتّى باتت "دقّة" مقاطعة في منافسة شديدة مع مقاطعات شهيرة مثل "أوتيك" و"أوذنة" و"قرطاج" و"الجم" و"موستي ".

إن الموقع الأثري بدقة الذي صنفته اليونسكو سنة 1997  تراثًا إنسانيًا يبدو نسيًا منسيًّا فوق رباه، لا هو مدرج بالشكل المطلوب ضمن الأنشطة السياحية والثقافية ولا أشغال الحفريات الأثرية متواصلة فيه من أجل اكتشاف بقية كنوزه المطمورة تحت التراب ولا الصيانة ولا الإضاءة والعلامات الإرشادية داخله كافية لإنارة سبيل كل من مرّ صدفة بالمكان.

محمد علي كمّون صانع عطور من نغمات وموسيقى

أما سهرة افتتاح  الدورة 44 من مهرجان دقّة الدولي التي تلت الزيارة المنظمة لأبرز أجنحة الموقع فكانت بإمضاء الفنان الموسيقي محمد علي كمّون بعرضه المتجدد "24 عطر" وهو عمل موسيقي  مفتوح وغير محسوم، بدأ الاشتغال عليه منذ ستّ سنوات خلت أمّا تقديمه فكان مع بدايات 2018. كمون كان يقدّم عطوره في كل مرّة بشكل مغاير إمّا بالزيادة أو النقصان مع المحافظة على الجوهر العليّ للفكرة الأم والتي يمكن فهمها على أساس تلك المزاوجة التي أنشأها بين مناخات الموسيقى السمفونية والأوبيرالية وأنين الجاز والبلوز وبكائيات الساول التي تشبّع بها أيام الدّراسة بفرنسا مع فسيفساء الموسيقى التونسية الضاربة في القدم والتنوع بين الأنغام الصوفية والبدوية والأندلسية والصحراوية والزنجية.

تصوير: رمزي العياري / ألترا تونس

لم تكن تسمية "24 عطر" جزافية بل هي ارتحال في الجغرافيا التونسية بعدد ولاياتها والتي تمنحنا عطورًا من موسيقى آسرة حاول كمّون سكبها على أديم خشبات المسارح التونسية.

ركح المسرح الأثري بـ"دقة" بدا كابتسامة  نبي في سماء تلك السهرة الافتتاحية التي انطلقت بدقيقة صمت تضامنًا مع أهالي الحامة الذين يعانون جائحة كورونا.  ولأكثر من ساعتين قسّم كمون عرضه إلى ستة فصول، كل فصل يجعل له مقدمة موسيقية يبرز خلالها براعته في إعادة التوزيع و المزاوجة بين الموسيقى، ثم يبدأ في سكب العطور التونسية من الشمال إلى أقصى الجنوب، فنجد المالوف وهي تلك البصمات الاندلسية التي نجدها بالطريق الموريسكي من العاصمة تونس إلى قلعة الأندلس والعالية مرورًا بالسلوقية وتستور وزغوان والزريبة.

كما نجد الموسيقى البدوية بجميع أشكالها وخصوصياتها، المنتشرة على سفوح جبال خمير خاتمة الأطلس الكبير حيث لا حدود لأنين القصبة والزكرة والطبلة.

 ونجد أيضًا موسيقى المرابطين أو أهل الصوفية بالقيروان و الساحل التونسي. أما الموسيقى الجزرية في هذا العرض فقد مثلتها جزيرة قرقنة بتلك النغمات الغزلية التي تشبه استمرار الموج  بلا كلل في الليالى المقمرة.

الجمهور القليل الذي حضر سهرة افتتاح مهرجان "دقة" الدولي كان أمام عمل فني مميز هو نتيجة بحث وتدريب وتوليفات ومجازفات فنية تهم موروث الموسيقى التونسي

الجمهور القليل الذي حضر سهرة افتتاح مهرجان "دقة" الدولي كان أمام عمل فني مميز هو نتيجة بحث وتدريب وتوليفات ومجازفات فنية تهم موروث الموسيقى التونسي قام بها محمد علي كمون وفريق عمل وفير العدد موزع بين موسيقيين ومغنين وتقنيين.

 جدير بالإشارة إلى أن مهرجان "دقة" الدولي قد عرف فترته الثقافية الذهبية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين تحت إشراف الأستاذ المنصف الشنوفي حيث شهد المسرح الأثري عروضًا خالدة لمسرحيين ومطربين كبار نذكر منهم: دريد لحّام وعبد الله غيث وأمينة رزق وماجدة الرومي وصباح الجزائرية وباليه عبد الحليم كاركلاّ وناس الغيوان والعديد من المطربين التونسيين. ويبقى عرض مسرحية "كاليغولا" للراحل علي بن عياد من أجمل ما قدم هذا الركح العريق.

تصوير: رمزي العياري / ألترا تونس

لماذا أفل نجم المهرجان رغم الضوء المنهمر منه؟

 لكن، في لحظة تاريخية ما، عندما كبر المهرجان وحاز مكانة في الساحة الثقافية التونسة والعربية والدولية وشرع في منافسة مهرجانات كبرى وخاصة مهرجان قرطاج الدولي، بدأت عمليات طمس لامرئية للمهرجان وأخفتت صوته وبريقه حتى غاب تمامًا بالرغم من تواتر دوراته وغزارة سجلّه بالأسماء والنجوم التي مرت من ركحه الخالد.

لقد تغيرت السياسة الثقافية مع بداية التسعينات  لتقضي مباشرة على  تظاهرات ثقافية ومهرجانات كبرى من بينها مهرجان "دقة" الدولي ومهرجان الفيلم الأسطوري بجربة، وتم الاكتفاء بما يسمّى بالمهرجانات الواجهة التي حازت المال والدعاية.

مهرجان "دقّة" الدولي، الآن، هو بصدد تلمس طريقه من جديد، يمسك بيد مسرحه العريق وتاريخه المجيد، وباليد الأخرى إرادة باسلة ومستميتة للأجيال الجديدة من أبناء دقّة الذين رأيتهم ليلة افتتاح الدورة 44 يتقدون أملًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخط العربي في تونس.. البحث عن مجد ضائع

نسرين بن عربية: راقصة باليه خارج خشبات المسرح