على غير العادة عرفت مساء أمس هضبة بيرصا بالضاحية الشمالية للعاصمة تونس حيث يوجد المسرح الروماني بقرطاج زحمة مرورية وطوابير طويلة من جماهير حلت قبل الغروب من أجل حضور حفل افتتاح الدورة 57 لمهرجان قرطاج الدولي، الذي انطلق في حدود العاشرة والربع ليلًا.
السهرة الافتتاحية منحها مهرجان قرطاج لفنان تونسي عتيق ومثير للجدل أينما حل، الفاضل الجزيري الذي قدّم عرضه الجديد "محفل" وهو عمل موسيقي فرجوي منجز بشراكة عمومية وخاصة بمبلغ مالي ضخم لم يتم الإفصاح عنه بكل دقة
السهرة الافتتاحية منحها المهرجان الصيفي العريق لفنان تونسي عتيق، متعدد الدروب الإبداعية ومثير للجدل أينما حل وكلما همّ بعمل فني جديد وهو المسرحي والسينمائي الفاضل الجزيري الذي قدّم عرضه الجديد "محفل" وهو عمل موسيقي فرجوي منجز بالشراكة بين مركز الفنون بجربة ( قطاع خاص ) ومسرح الأوبرا بمدينة الثقافة (قطاع عمومي) بمبلغ مالي ضخم لم يتم الإفصاح عنه بكل دقة.
و"محفل" هي كلمة تونسية صميمة جامعة وموحدة للتدليل على الأيام الأساسية للعرس التقليدي المليء بالتفاصيل والتقاليد المتوارثة والذي تتواصل فعالياته إلى أيام عديدة تفوق أحيانًا الأسبوع، والكلمة نجدها متداولة من الشمال إلى الجنوب رغم اختلاف اللهجات وتباين عادات الأفراح في تونس.
"محفل" هي كلمة تونسية صميمة جامعة وموحدة للتدليل على الأيام الأساسية للعرس التقليدي المليء بالتفاصيل والتقاليد المتوارثة والذي تتواصل فعالياته إلى أيام عديدة تفوق أحيانًا الأسبوع
ويبدو أن الفاضل الجزيري قد توخى الدقة اللغوية في تخيّره لعنوان عمله الفني الجديد "محفل " لأن هذه الكلمة تقبع في وجدان كل التونسيين وتنبت على أديم الموروث الثقافي للقرون الطويلة على جغرافيا تونس.
ولكي نفهم أكثر فأكثر عمل افتتاح الدورة 57 لمهرجان قرطاج الدولي "محفل" لا بد من التذكير بسياقين أساسيين وهما تلك الموجة التي ركبها الفنانون التونسيون في الستينيات والسبعينيات والتي جاءت تحت عنوان "تهذيب التراث" حيث تم الاشتغال على العديد من الأغاني القديمة وتقديمها بحلل أكثر عصرية تتماشى مع رؤية بناة دولة الاستقلال للثقافة والفنون والآداب.
وقد خلفت تلك الموجة إلى حد اليوم نقاشًا حادًا في الوسط الثقافي لم يحسم بعد بين مؤيد ورافض للمس بالموروث.. أما السياق الثاني فيتمثل في دءب الفاضل الجزيري منذ تسعينيات القرن العشرين على تقديم أعمال فنية تعود حثيثاً للتراث اللا مادي أو الموروث الموسيقى الشفوي الغزير الذي ورثته تونس عن القبائل القديمة التي لا تزال بقاياها ماثلة إلى اليوم ويتجلى في الأنتروبولوجيات المتناثرة كالذهب. فالجزيري يقدّم أعمالاً غير قابلة للتصنيف والتحديد المفهومي لأنها تنهل من كل الفنون: مسرح، رقص، رسم، غناء، سينما... فسميت اصطلاحًا "أعمالًا فرجوية".
لكي نفهم أكثر فأكثر عمل افتتاح الدورة 57 لمهرجان قرطاج "محفل" لا بد من التذكير بالموجة التي ركبها الفنانون التونسيون في الستينيات والسبعينيات والتي جاءت تحت عنوان "تهذيب التراث" حيث تم الاشتغال على العديد من الأغاني القديمة وتقديمها بشكل عصري وهو ما لقي مواقف متباينة
عندما أنجز الفاضل الجزيري عمل "النوبة" سنة 1991 كان هاجسه الفني جمع كل الهامش الغنائي والموسيقى الحضري المعروف "بالمزود" و"الزندالي" في عمل فرجوي.. لم تكن مهمته بالهينة في زمن سياسي وثقافي يترفع عن المزود ويرى أن لا أهمية له، لكن الجزيري استطاع بشكل من الأشكال أن يخيط عملًا خالدًا كرم من خلاله المزاودية بكل أسمائهم وأقطابهم: صالح الفرزيط، الفيتوري ، بادوس، فاطمة بوساحة، اسماعيل الحطاب، ليليا الدهماني وغيرهم.
وفي سنة 2001، تحوّل الفاضل الجزيري إلى هامش آخر وهو الصوفية التونسية وحلقات الذكر المنسية فأنجز " الحضرة " التي جمعت شتاتًا ثقافيًا آخر لم تستطع المؤسسات بكل ثقلها المادي المحافظة عليه وإعادة تقديمه بالشكل المطلوب.
ها هو الجزيري وهو الشيخ السبعيني تسكنه نفس تلك الهواجس الفنية مرة أخرى فيعود بنفس تلك الشجاعة المعهودة على المنسي والمتروك والمهمل في التراث الشفوي التونسي وهو أغاني الأعراس البدوية التي نستمع إليها في الشمال الغربي والوسط والساحل التونسي وفي جزيرة جربة وفي الصحراء الفسيحة... فأنجز "محفل ".
فاضل الجزيري وهو الشيخ السبعيني تسكنه نفس تلك الهواجس الفنية مرة أخرى فيعود بنفس تلك الشجاعة المعهودة على المنسي والمتروك والمهمل في التراث الشفوي التونسي وهي أغاني الأعراس البدوية من خلال عرض "محفل"
السهرة واكبها أكثر من 10 آلاف متفرج تونسي جاؤوا بحثًا عن جزء من ملمحهم الثقافي الدفين والمتلاشي عبر التاريخ وهي تفصيلة أساسية يتوخاها الجزيري عادة في ترتيب مشاريعه الفنية وأعماله الفرجوية، حيث قدم "محفل" مادة إيقاعية ألفناها جميعًا في محافل الأعراس التونسية وهي تجمع بين الفزاني والعلاجي والغيطة والسعداوي والمربع وبونوارة والدرازي والجربي.
ولم يكتف الجزيري بتقديمها خامًا بل أعاد ترتيبها وتوليفها على نحو جديد بمعية الفريق الموسيقى الذي اشتغل معه فتمت إضافة بعض البهارات من موسيقات أخرى كالجاز والروك والبلوز... دون المساس بجوهر وروح الموسيقى الأصلية.
قدم فاضل الجزيري في "محفل" مادة إيقاعية ألفناها جميعًا في محافل الأعراس التونسية وهي تجمع بين الفزاني والعلاجي والغيطة والسعداوي والمربع وبونوارة والدرازي والجربي
لم يتخل الجزيري عن روح المسرح التي تسكنه منذ البداية وهو الممثل والمخرج فقد كانت له أعمال مسرحية على شاكلة ما يقدم اليوم من فرجة ونذكر منها العوادة وزعندة وعزوز... والتي منها انطلق في مغامرة العروض الضخمة، وقد أحسن الجزيري السيطرة على الركح الفسيح للمسرح الروماني بقرطاج برسم سينوغرافيا ذات نجاعة بصرية، خاصة وأن المحفل في حياة التونسيين تشبه الفعل المسرحي من حيث اللباس فنجد الماشطات والحفّالات والرقص العفوي المغوي و "التبزنيس" ولغة العيون.
كان "محفل" الجزيري وفيًا لركن أساسي في الأعراس البدوية التونسية وهو حضور الفرسان أو "الفراسني" أو "المداوري" حيث حل أسفل ركح المسرح في مفتتح الحفل ونهايته فارس من أولاد عيار يمتطي صهوة جواد أنيق.. كان المشهد أسطوريًا
كما كان "محفل" الجزيري وفيًا لركن أساسي في الأعراس البدوية التونسية وهو حضور الفرسان أو "الفراسني" أو "المداوري" حيث حل أسفل ركح المسرح الأثري بقرطاج في مفتتح الحفل ونهايته فارس من أولاد عيار يمتطي صهوة جواد مطهم أنيق بسرجه الجلدي المزوق و "خزّاراته" المطرّزة... لقد كان المشهد مسرحياً أسطوريًا.
كان "محفل" الجزيري وفيًا لركن أساسي في الأعراس البدوية التونسية وهو حضور الفرسان أو "الفراسني" أو "المداوري" (صورة مهرجان قرطاج الدولي)
أكثر من 120 عنصر بين عازفين ومنشدين وراقصين ومغنين ساهموا في صناعة عمل "محفل" ونذكر من الأصوات كل من محمد علي شبيل ونضال يحياوي وأنيس علوي وزبيدة بن محمود ويحى الجزيري وأسامة النابلي وآمنة الجزيري ونور شيبة. وهي أسماء شابة ودرست الموسيقى بالمعاهد العليا عكس الأعمال السابقة للجزيري التي كان فيها التعويل على النجوم من ذوي الخبرة فحسب.
"محفل" أعادنا إلى مناخات النوبة من خلال استعادة بعض الأغاني التي كان قد أداها الراحل "إسماعيل الحطاب" والذي يعتبره الجزيري أيقونة الفن الشعبي التونسي عبر التاريخ في شقه البدوي والصوت الفخم الهادر الذي لم تنجب تونس مثله..
"محفل" أعادنا إلى مناخات النوبة من خلال استعادة بعض الأغاني التي كان قد أداها الراحل "إسماعيل الحطاب" والذي يعتبره الجزيري أيقونة الفن الشعبي التونسي عبر التاريخ
فاستمعنا إلى "بين الوديان" و "دزيتيني هاني جيتك" بتوزيع جديد وتناوب الكورال على الجمل الموسيقية للأغنيتين بطريقة جديدة ، إنها تحية إلى روح الحطاب الذي غنى فوق نفس الركح منذ ما يناهز عن الأربعة عقود.
"محفل" ورغم الهنات الفنية ضمنه، يمكن القول إنه مشروع فني تضمن اختيارات إبداعية ثابتة مع مدارات أخرى قابلة للتطوير والتجدد.. ومن أراد لنفسه الإبداع لا بد أن يتخلى عن شيء ما ليتبنى آخر غيره، لكن هذا التخلي لا يعني الرفض المطلق للقديم بقدر ما يعني البحث عن قبول الجديد وذلك هو جوهر ما أقدم عليه الجزيري في هذا العمل .