23-نوفمبر-2023
القضية الفلسطينية شعر غيتي

شعراء الجنوب التونسي يحاربون بالكلمة وقصائد الشعر الشعبي نصرة لفلسطين (Stephanie Keith/Getty)

 

فلسطين عند التونسيين ليست فكرة وليست إيديولوجيا وليست أيضًا مجرد بلد عربي مسلم.. فلسطين تسكن الوجدان التونسي بكل أطيافه وطبقاته الاجتماعية والفكرية والثقافية والشعبية.. فلسطين نتربى على الإيمان بقضيتها وحبّها منذ السنوات الأولى في الأناشيد المدرسية.

فقد صرّح التونسيون بمواقفهم المعارضة للمخططات الصهيونية المدعومة من الغرب منذ عشرينات القرن الماضي، وشاركوا في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس سنة 1931 بدعوة من مفتي فلسطين آنذاك الشيخ أمين الحسيني وحضر وقتها الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي.

صرّح التونسيون بمواقفهم المعارضة للمخططات الصهيونية المدعومة من الغرب منذ عشرينات القرن الماضي، وهبّ الآلاف منهم سيرًا على الأقدام في اتجاه فلسطين عقب إعلان قرار التقسيم بعد نكبة 1948

وتصدّى التونسيون للدعاية الصهيونية الموجهة ليهود تونس في الثلاثينات والأربعينات وناصروا الثورة الفلسطينية (1936-1939).

وعقب إعلان قرار التقسيم بعد نكبة 1948، هبّ آلاف التونسيين سيرًا على الأقدام في اتجاه فلسطين يحملون ما تيسر لديهم من بنادق وبعض دوابهم وعبروا تونس باتجاه ليبيا فمصر ففلسطين.

 استشهد منهم كثيرون، ومن بين الأسماء المثبتة رسميًا: علي بن صالح التونسي وعبد الحميد الحاج سعيد وبلقاسم عبد القادر وأحمد إدريس ومحمد التونسي.

من عجزوا عن التوجه إلى الأراضي المحتلة من التونسيين، قرروا أن يحاربوا بالكلمة فنظموا القصائد الشعرية الشعبية ورددوها في أفراحهم وأتراحهم وجلساتهم

أما الذين لم يستطيعوا التوجه إلى الأراضي المحتلة فقرروا أن يحاربوا بالكلمة فنظموا القصائد الشعرية الشعبية وكانت فلسطين في صدرها وعجزها، ورددوها في أفراحهم وأتراحهم وجلساتهم وتنافسوا على القول فيها في عكاظياتهم.

"القضية الفلسطينية متجذرة في الشعر الشعبي التونسي لسببيْن" يقول أستاذ اللغة والآداب العربية عمر بن صالح لـ"الترا تونس".

فالسبب الأول، وفقه، هو أنّ فلسطين حاضرة منذ عام 1948 إلى اليوم في الجانب الوجداني لأنها قضية مسّت الديني فيهم والقيمي والأخلاقي، ففلسطين هي الأرض المقدسة والأقصى أولى القبلتين، وما حدث مثّل مأساة في وجدانهم.

عمر بن صالح (أستاذ اللغة والآداب العربية) لـ"الترا تونس": القضية الفلسطينية متجذرة في الشعر الشعبي التونسي لسببيْن اثنيْن

 أما الجانب الثاني فهو المخيالي "وهو ما اشتغل عليه الشعراء، فهم يشتغلون على ما يجب أن يكون وعلى الحلم بالانتصار واستعادة المجد والنصر، دون أن ننسى أن القضية الفلسطينية حاضرة في التونسيين بالفطرة وليست اشتغالًا على الفكر والعقل، وكلما ابتعدنا في الزمن اكتشفنا أنها متجذرة أكثر، فمن له القدرة على أن يحمل السلاح هبّ منذ 1948 ومن له القدرة على الكلام ساند القضية بلسانه، ونحن نعلم أن الشعر خاصة في تلك الفترة هو الذي يحمل الهم وهو سيف قاطع" على حد تعبيره.

 نخلص إلى أن القضية الفلسطينية متجذرة في وجدان التونسيين وخاصة لدى شعراء الجنوب التونسي، فقد ساهمت النزعة الفطرية بصفاء الناس في الصحراء ومحافظتهم على سجيتهم ونقاء سريرتهم، في تمكّنهم من استبطان القضية وتأسيس مدونة شعرية شعبية تعبّر عن وجدانهم الذي يحمل المأساة وعن مخيالهم الذي يتوق إلى تحويل الهزيمة إلى نصر وتحويل هذه الأمة من أمة مهزومة راكنة ساكنة إلى أمة يمكن أن تصنع الانتصار.

أستاذ اللغة والآداب العربية لـ"الترا تونس": حضرت فلسطين ببعدها الديني والثقافي والحضاري والقيمي والأخلاقي وتجسدت كل هذه الأبعاد في قصيدة

ويضيف أستاذ اللغة والآداب العربية عمر بن صالح: "أن كل هذا يتجسد ضمن صراع حضاري كامل بين الحضارة الاستعمارية الغربية عمومًا وبين طبيعة هذا المستعمر غير الطبيعي (الكيان الصهيوني) فقد أراد أن ينزع شعبًا من أرض لشعب بلا أرض، فالمأساة كانت أعمق من مجرد استعمار عادي كلياني كما عاشه العرب سابقًا" وفقه.

يضيف أنّ فلسطين حضرت ببعدها الديني والثقافي والحضاري والقيمي والأخلاقي وتجسدت كل هذه الأبعاد في قصيدة، فحتى التسميات كانت وجدانية وليست علمية: فالنكبة والنكسة هي رفض لمقولة الهزيمة وهي كلمات نابعة من سجيتنا، والتونسيون كما العرب في عمقهم يرفضون تمامًا أن تكون فلسطين أرض الإسراء والمعراج مهزومة وفي يد الصهاينة وهو ما ركّب مخيالًا شعبيًا شعريًا كاملًا.

الجليدي العويني (شاعر) لـ"الترا تونس": التونسيون يتحمسون لكل ما يحدث لأمتهم منذ زمن، فقد انتفضوا احتجاجًا على الغزو الإيطالي لليبيا وتقاسموا مع الجزائريين أعباء ثورة التحرير واندفعوا نحن فلسطين منذ سنة 1947

الأمر نفسه أكده أيضًا الشاعر التونسي الجليدي العويني في تصريحه لـ"الترا تونس"، إذ يرى أن التونسيين يتحمسون لكل ما يحدث لأمتهم منذ زمن، فقد انتفضوا في واقعة الجلاز سنة 1911 احتجاجًا على الغزو الإيطالي لليبيا وتقاسموا مع الجزائريين أعباء ثورة التحرير واندفعوا نحن فلسطين منذ بداية قضيتها سنة 1947.

وقد عبّر شعراء اللهجة عن هذا الإحساس الجمعي والتعاطف الجماعي مع هذه القضية وظهرت الأشعار منذ الأيام الأولى حتى راجت أبيات مثل:

فزعة لفلسطين زرموا تراسه ماشيين لثعبان تيقصوا راسه

عنديش رجال تركب عالخيل  تفزع لفلسطين غادي مالنيل

"وكانت مثل هذه القصائد تردد في المناسبات لتبليغ خبر العدوان إلى جموع إذ لم تكن لها آنذاك راديوهات ولا تليفزيونات ولا تصلهم صحف في دشرها وبواديها البعيدة حتى أنه يمكن القول إن كثيرًا من الناس اكتشفوا المسألة الفلسطينية في بداياتها من الأشعار والأغاني.

 

 

وظل الشعراء يتابعون ما يحدث في فلسطين على مدى العقود الماضية ويعبرون عن الوجدان الشعبي ويمكن أن نذكر هذه النماذج وهي لشعراء من جهات تونسية مختلفة بحسب الشاعر الجليدي العويني:

قصائد العروسي الهنودي ومنها:

نبكي ودمع العين يسيل

نهار مْعَ ليلْ  كالقدس ادّتها إسرائيلْ

نبْكي والدَّمْعه مصْبوبَه

وْكَبْدي مَعْطُوبَه على بلادي منّي مغصوبَه

منِ دْوِلْ أُرُوبَا

حَطُّوا في بَدْنِي مِكْروبَه  تْبَقِّتْ مسْبُوبَه بْلاَ سِبَّه

جابوهم لبلادي ذيوبه

شدّوا الرَّاقوبَه جارُوا كِالْكَلْبَه المَكْلُوبَه

حِسْبَه مَحْسُوبَه

قالُوا في كْتبْنا مكْتُوبَه لِعْبُوها أُلْعوبه مكشوفه لا ما تتخَبَّى

تْرهْ وينْ رْجالْ العُرُوبَه

ال يِفدُوا المَكْبُوبَه وين الشَّهَامَه المَجْبوبَه

اللِّي يزُوزْ النُّوبَه

وِنْهم قَطَّاعين الجُّوبَه أرْوَحْهُمْ موْهُوبَه بالْعَبَّه

ومحمد بالغضبان ومن بينها:

فْلَسْطينْ تِشْكي كَادْرَه مُضامَه جاها اليهودي دار فيها شَامَه

كبْرتْ مْعاها العِلَّه وجِي المَرْض ماثَمِّشْ طْبيبْ يدلَّه

الرَّاياتْ كِثْرُوا والْعْمال عْلى اللَّه لا فادْها تخْطيط لا عزامَه

وْ هِ عايْشَه بينْ الدْرَكْ والذِّلَه وجيرانها ما نَجْمُوا تُخْمامَه

***

قدّاشْ توَّه لاها وهِ هامْلَه بِصْغارْها ونْسَاها

فْلَسْطينْ من وَسْط البْلادْ جْلاَها ودَخِّلْ حْلاَلْ أرْزاقْها لِحْرامَه

ما لْقِتْ كان الكِذْب دايرْ بَاها في الحلم ماهوشي صْحيحْ مْنامَه

والهاشمي المدني:

هدرة فلسطين هدره كبيره

تكيد العشيره

ونحنا عرب فاقدين الذخيره

إسرائيل ومعاه دوله كبيره

وأخرى نصيره

وفرانسا تجي من غير شيره

شفت الهجوم الثلاثي وغيره

هنا في البحيره

داخل على مصر من كل شيره

الحرب ماهيش حاجه صغيره

ولا حقيره

العاقل يفكر وعنده ضميره

يوزن جنوده مع جنود غيره

وعقله خبيره

ويبني على ساس غارق حفيره

على فرض قمنا بحربه شهيره

وخضنا زفيره

ثم مجلس الأمن يكثر هديره

إسرا ئيل ما هيش دوله خطيره

تحمل كريره

نهارين في الحرب تنشف غديره

موش خير ترجع رجال العشيره

نردّو الشّيره

ونطالبو بحكم الصدر بالقميره

ومن بعد ما تجي أهل الحضيره

وينذر نذيره

عصابات في كل بقعه نشيره

ينذل صهيون هو وغيره

نحوزو المناعه

ويسهال دم العدو في بزاعه

وبقدر ما كان للشعراء الشعبيين دور في التعريف بالقضية عند بداياتها، فإنهم حافظوا عليها بتواصل القول فيها في مختلف أحداثها ومراحلها، وفق تعبير الجليدي العويني.

ولعل من أبرز القصائد التي ترددها الذاكرة الشعبية التونسية وخاصة في الجنوب التونسي ما نظمه المرحوم الشاعر علي لسود المرزوقي عن فلسطين وخاصة قصيدته "مخيم داوود".

 

 

وما قاله الشاعر بشير عبد العظيم:

 

 

والشاعر بلقاسم عبد اللطيف:

 

 

"الترا تونس" تحدث أيضًا مع الشاعر الشعبي الطاهر انبيخة صاحب قصيدة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي وضجت بها في وقت سابق وهي التي "مازلت لتو مش فاهم قصتنا عرب حق وإلا مدلسة عروبتنا".

 

 

الشاعر الشعبي الطاهر انبيخة أنشد قصيدة سنة 2006، تسبّبت له في المراقبة الإدارية ومنعه من السفر، بعد أن اعتبرها نظام بن علي مصدرًا للتجييش ودعوة للعصيان

ويقول الطاهر انبيخة: "كتبت عن كل المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية لأنها قضيتنا فهي نكبتنا ونكستنا ووجعنا وهي الحاضرة في حاضرنا وهي التي نحلم بتحريرها وهي التي ندعو لأجلها العرب للتحرك نصرة لها".

أنشدها سنة 2006، تسبّبت له في المراقبة الإدارية ومنعه من السفر، فقد اعتبرها نظام زين العابدين بن علي مصدرًا للتجييش ودعوة للعصيان

يضيف: "نحن كشعراء تحركنا الصور والمشاهد ويخرج الشعر من أفواهنا معبرًا عما يختلج في صدورنا فإن كنا لا نستطيع عبور الحدود لنقاتل إلى جانب إخواننا الفلسطينيين فإننا ننشد القصائد شحنًا للهمم حينًا وتعبيرًا عن الحزن حينًا آخر وانتقادًا للخذلان العربي في أحيان كثيرة.."، متحدثًا عن آخر ما كتبه وهي قصيدة عن طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سعى إلى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي، وفيما يلي رابطها.

وتظل فلسطين ساكنة في الوجدان التونسي الشعبي وتبقى قصائد الشعر الشعبي تعبيرًا عاطفيًا مشحونًا بالعشق فزعة ونصرة لأهلنا في أراضيهم المحتلة.