03-ديسمبر-2019

يجب أن تتحوّل "فاجعة عمدون" إلى درس ملحمي لحماية شباب المستقبل (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

مقال رأي

 

عاش الشعب الياباني في 11 مارس/آذار 2011 كارثة انفجار المفاعل النووي "فوكوشيما" جرّاء تسونامي رهيب هز شمال شرق أرخبيل اليابان راح ضحيّته 20 ألف قتيل ومفقود وخسائر ماديّة قدّرت بـ170 مليار دولار، ولكن عرف أيضًا قرارًا شجاعًا ومفعمًا بالوطنية والشاعريّة من قبل علماء وخبراء الطاقة النووية المتقدمين في السّن الذين قرّروا الدخول للمنطقة المشعّة والمحظورة بفوكوشيما للقيام بعمليات تبريد المفاعل المهدد بمزيد الانفجارات.

إذ تقدم العلماء المتقدمين في السن بدل العلماء الشباب إيمانًا منهم بأن الأمة اليابانية هي في حاجة إليهم وإلى خدماتهم في الأيّام القادمة، ويقينًا منهم أنّ الشباب هم المستقبل العلمي لوطنهم حتى تبقى اليابان دولة مهابة ضمن النادي النووي الدولي. وكان إقدام وشجاعة شيوخ النووي الياباني درسًا ملحميًا مفعمًا بالإنسانية وملهمًا لباقي الشعوب حتى تفهم معاني فلسفة المستقبل.

 كيف تقبل الدولة التونسية برحيل شبابها بهذه السهولة؟ كيف تقبل التفريط في مستقبلها، وفي ذهبها البشري وفي بنّائي السنوات القادمة ؟

وقد حضرني هذا الدرس بشدة وأنا أتابع حادثة انقلاب الحافلة السياحية في طريقها من العاصمة الى مدينة عين دراهم الجبلية وسقوطها أسفل وادى السّنوسي من معتمدية عمدون بولاية باجة، بوابة الشمال الغربي التونسي، وذلك بعد أن فقد السائق سيطرته على ميكانيك الحافلة وهو في أوج منعرج خطير. وقد أودت هذه الفاجعة بحياة 27 قتيلًا من الجنسين وتتراوح أعمارهم بين 19 و30 سنة.

حضرني الدرس الياباني ما جعلني أطرح سؤالًا بسيطًا وهو كيف تقبل الدولة التونسية برحيل شبابها بهذه السهولة؟ كيف تقبل التفريط في مستقبلها، وفي ذهبها البشري وفي بنّائي السنوات القادمة بدون حرقة؟ لماذا لم يجلس الوطن لتدبّر الأمر ورسم الحلول الممكنة حتى يتفادى الفواجع التي نرى أنها تتتالى يومًا بعد يوم جرّاء السياحة الداخلية لشباب يبحث عن بعض الأمل بعد أن انسدّت الآفاق أمامه في وطن لا يزال يثبّت ديمقراطيته الناشئة حيث الشباب فيها ليس من أوكد الأولويّات ولا يمثل روح مستقبل؟

قد يكون المستقبل كلمة هلامية وتحمل غموضها داخلها ويمكن تأويلها على أوجه عديدة لكنها واضحة وممشوقة فيما يتعلق بالشباب ولعل الدرس الياباني خير مثال على ذلك.

إن فاجعة عمدون التي أودت بحياة شباب المستقبل وقصفت من رصيدنا الديمغرافي تطرح من جملة ما تطرح موضوع السياحة الداخلية في تونس التي تبدو سياحة من درجة ثانية

اقرأ/ي أيضًا: "رحلات الموت" في تونس.. التونسيون يبحثون عن سكة النجاة

إن فاجعة عمدون التي أودت بحياة شباب المستقبل وقصفت من رصيدنا الديمغرافي، تطرح من جملة ما تطرح موضوعًا من المواضيع المسكوت عنها وهي السياحة الداخلية في تونس التي تبدو سياحة من درجة ثانية تكثر فيها الأنشطة الموازية والخروقات القانونية والتجاوزات بكل أنواعها.

وحسب معطيات وزارة السياحة، يوجد في تونس حوالي 5 ألاف شركة خدمات تنشط في مجالات السياحة الداخلية نشأت أغلبها بعد الثورة وهي بلا مقرات وتتواصل أساسًا عبر المنصات الافتراضية وشبكات التواصل الاجتماعي حيث تعرض خدماتها السياحية وتروج لمنتوجها. وهو ما خلق نقاشات وخلافات حقيقية بين الفاعلين والمهتمين بالشأن السياحي في تونس لكن لازالت المعالجة تعطلها أحياناً النصوص الترتيبية للقوانين المنظمة لقطاع السياحة والنقاشات النقابية والمنتفعين بالوضع المنزاح.

إن وضع السياحة الداخلية في تونس ينشط داخله أيضًا المجتمع المدني إذ يسمح قانون الجمعيات بتنظيم الرحلات وإقامة المخيمات السياحية والحجوزات بالنزل وكراء وسائل النقل السياحي لكن دون تنصيصات دقيقة وواضحة وهو ما يسمح بالفوضى والخروقات القانونية التي تؤدي إلى الكوارث والخسارات البشرية الفادحة.

وفي ارتباط بالسياحة الداخلية، لابد من الإشارة إلى وضعية المسالك والطرقات السياحية التي تغيب عنها التهيئة والصيانة الدورية والسلامة المرورية والأمن بكل أشكاله وخاصة بمدن الشمال الغربي التونسي التي يقبل عليها عامة الناس وخاصة الشباب لفتنة مناظرها الطبيعية.

لا نريد أن يكون الشباب، الذي فقدناه في فاجعة عمدون، رقمًا ضمن مؤشرات حوادث الطرقات بل نريده أن يتحول إلى درس ملحمي شبيه بالدرس الياباني حتى نحمي مستقبل الوطن

فالطريق المؤدية مثلًا الى متحف "شمتو" ومقاطع الرخام الوردي الأثرية بجهة غار الدماء من ولاية جندوبة هي طريق خطرة وغير آمنة، وأيضاً الموقع الروماني "ببلاريجيا" تنقصه السلامة كما تنقصه الصيانة. ومن أخطر الطرقات السياحية بالشمال الغربي أيضًا، نجد طريق كسرى العليا وهي غير محمية وبلا حواجز تذكر وتتسم بخطورة تفوق بكثير منعرج وادي السنوسي في فاجعة عمدون.  

تشكل حادثة عمدون الأليمة قادحًا لجميع المتدخلين في القطاع السياحي للجلوس حول القضايا الحقيقة ورصد المشاكل الخطرة الآخذة في نخر السياحة التونسية وتهديدها بالانهيار التام وخاصة الإمعان في إخضاع هذا العنصر التنموي الحيوي بالنسبة للاقتصاد الوطني إلى قواعد التفرقة الجهوية وخلق لوبيات سياحية تبجل جهة على حساب أخرى وتحوير المسالك السياحية الصغيرة التي تقدمها النزل لحرفائها وذلك حتى تدفع بالسائح الى صرف أمواله في أمكنة بعينها وأسواق سياحية بمدن محددة مسبقًا. كما وجبت مراجعة عدد من القوانين المنظمة لدواليب السياحة وخاصة النصوص الترتيبية مع إلزام الجميع بالتطبيق وعدم التهاون مع المخالفين.

فلا نريد أن يكون الشباب، الذي فقدناه في فاجعة عمدون، رقمًا ضمن مؤشرات حوادث الطرقات التي تسجل في تونس 24 قتيلًا لكل مائة ألف ساكن سنويًا بل نريده أن يتحول إلى درس ملحمي شبيه بالدرس الياباني حتى نحمي مستقبل الوطن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شباب يهوى المناطق الجبلية.. ضحية "إرهاب الطريق"

نصيبي من الفساد...