27-يناير-2024
مقبرة

شكري خميرة لـ "الترا تونس": كانت خديجة لا تتركني إلا وقد شاركتها جل ألعابها الطفولية وشاهدت معها شوفلي حل (صورة توضيحية/GETTY)

 

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، بهذه العبارة ننطق عفويًا أو إيمانًا وتعبدًا، نُعزّي أنفسنا في مقام الموت، فبصرف النظر عن علاقتنا بالفقيد يظلّ هذا الحدث الجليل يثير فينا الأسف والفزع، إنّه القلق الوجوديّ الذي تغذيه أسئلة النشأة والمصير وجدوى الفعل الإنساني، وتفاهة الصراع على المكاسب والتكالب على المصالح واللهث وراء الملذات.

 فكيف لا تُراودنا هذه الأسئلة وتقضّ مضاجعنا وقد أحاطت بنا كل مؤشرات الزوال والتلاشي ولم نتخلّص بعدُ من مفارقة سلوكية تثير الدهشة حول رغبات حارقة ونهايات كاسرة؟

كيف السبيل إلى تعزية من فقد كلّ أفراد عائلته في لحظة واحدة؟ فقد الزوجة وأبناءه الثلاثة في حادث مرور مرعب وكان قد فقد أمه قبل بضعة أسابيع

"نُنافس في الدنيا ونحن نَعيبها ** لقد حذّرتناها لَعَمري خُطوبها" (الخطوب= المصائب).

لكن رغم يقيننا أننا "نحتضر منذ لحظة ميلادنا"، وأنّ " كلّ نفسٍ يُباعد مولدًا وكلّ نفسٍ يقارب مأتمًا"، رغم كلّ ذلك نتجه تلقائيًا إلى التفاعل مع حدث الموت بمعايير علمية موضوعية، فحالما يبلغ الخبر آذاننا وبعد الاسترجاع (القول إنا لله وإنا إليه راجعون) والحوقلة والدعاء للميت نسأل علّنا نجد ما يخفف شعورنا بالفاجعة، كم عمر الميت؟ هل كان مريضًا؟ تُوفي في البيت أم في المستشفى؟ كم ترك من الأطفال؟ ما هي أعمارهم؟

وعلى ضوء تلك الإجابات يزيد شعورنا بالفزع وينقص، لا بدّ أن نعترف أن تفجّعنا لموت الشيوخ الطاعنين في السن ولوعتنا لفقد من يعانون أمراضًا مزمنة يكون غالبًا أخفّ ممّا يُحدثه فينا فقد الأطفال واليافعين والشباب.

لا بدّ أن نعترف أن تفجّعنا لموت الشيوخ الطاعنين في السن ولوعتنا لفقد من يعانون أمراضًا مزمنة يكون غالبًا أخفّ ممّا يُحدثه فينا فقد الأطفال واليافعين والشباب

لكن كيف السبيل إلى تعزية من فقد كلّ أفراد عائلته في لحظة واحدة، فقدَ الزوجة وأبناءه الثلاثة في حادث مرور مرعب وكان قد فقد أمه قبل بضعة أسابيع من هذه الفاجعة المروعة، فأفضت الحصيلة إلى بيت قد خلا من أهله، ولم يبق فيه غير كهل في الخمسين، ذاك شأن السيّد شكري خميرة الذي تحدث إليه " الترا تونس" حديثًا روحيًا وجوديًا، فقد نالت حوادث المرور وما تُخلفه من قتلى وجرحى حيزًا واسعًا من الاهتمام والمتابعة الإحصائية والجزائية فضلاً عن البعد التأميني والمعضلات المتصلة بالسياقة والسيارات والطرقات، لذلك ارتأينا في حوارنا هذا الزاوية النفسية والفلسفية والدينية.

ما يعنينا في حديثنا مع الأب المكلوم في كلّ أفراد أسرته، من أين استمدّ تلك الشحنة "الأيّوبية" على الصبر؟ وما السر في قدرته على تحمّل نائبة الموت الجماعيّ؟ وكيف استعاد القدرة السيزيفيّة على مواصلة السعي في الأرض والعمل والبناء بعد أن تهدم كل شيء أمامه في ثوان؟

 

شكري خميرة

"كيف السبيل إلى تعزية من فقد كلّ أفراد عائلته في لحظة واحدة"؟ (الترا تونس)

 

كيف حافظ على غريزة حب الحياة والتواصل الطبيعي مع العالم والأشياء بعد نائبة كفيلة بأن تجعل المرء يجد لنفسه ألف مبرر يحُثه على الاستسلام لليأس والزهد في الدنيا والإعراض عنها؟ يحق لنا أن نفترض هذا ونتوقعه ونحن نرى في الجهة المقابلة شبابًا في مقتبل العمر تكسرهم نظرة سوداويّة تُعطّل فيهم الفكر والروح والجسد لمجرّد إخفاق في تجربة دراسيّة أو عاطفيّة أو مهنيّة.

 

استقرارٌ فوعدٌ بالسعادة فمأساةٌ

شكري خميرة أصيل ولاية تطاوين استقرّت عائلته الكبرى في العاصمة منذ عقود، وبفضل الرصيد الأخلاقيّ والتأصل القيمي لبني عشيرته (الدويرات) تمكن من كسب منزلة اعتبارية تشكلت حُبًا واحترامًا من الجميع وهو ما سيتجسد لاحقًا في الآلاف الذين شيعوا جنازة زوجته وأبنائه الثلاثة إلى مقبرة فوشانة بولاية بن عروس.

في بداية سن الشباب حقق شكري الاستقرار المهني والأسري، سلوكُه المحافظ جعله يبحث عن زينة الحياة الدنيا من الأبناء، والرزق الحلال، فكان له ما أراد، زوجةً صالحة متفّهمة ومنزلاً يؤويه، فأبناءً ثلاثة يعمرون البيت أدبًا ولطفًا وتعاونًا ويعطرونه حسنًا وجمالاً وبهجة.

شكري خميرة أصيل ولاية تطاوين استقرّت عائلته الكبرى في العاصمة منذ عقود، وتمكن من كسب منزلة اعتبارية تشكلت حُبًا واحترامًا من الجميع وهو ما سيتجسد لاحقًا في الآلاف الذين شيعوا جنازة زوجته وأبنائه الثلاثة إلى مقبرة فوشانة 

في وجوههم وُعود بالنجاح والسعادة وعلى ألسنتهم ما يبشر بالاستقامة والبر والإحسان، كان شكري ينعم في بيته بحلاوة أعمارٍ ثلاثةٍ. "عزيزة" شابة أشرفت على سن التتويج الدراسي الجامعي بنجاح باهر في اختصاص الإعلامية، و"محمّد" بلغ الخامسة عشر، فكان يافعًا سليم البنية حسن الخصال متألقًا في معهده وحيه وبين أترابه، و"خديجة" ذات الـ10 سنوات قد جمعت كل آيات الذكاء والجمال والسرور.

يوم الحادثة يقول شكري، "دُعيت في الساعات الأولى إلى الاطلاع على جثث زوجتي وأبنائي الثلاثة فلم أفعل وناب عني بعض أفراد عائلتي وقبل حمل الجثامين إلى المقبرة دُعيت إلى توديعهم فلم أرفع عنهم حجاب الكفن.

شكري خميرة لـ "الترا تونس": دُعيت في الساعات الأولى إلى الاطلاع على جثث زوجتي وأبنائي الثلاثة فلم أفعل وناب عني بعض أفراد عائلتي وقبل حمل الجثامين إلى المقبرة دُعيت إلى توديعهم فلم أرفع عنهم حجاب الكفن

يضيف "لم يكن سلوكي هذا بسبب الخوف والفزع إنما هو اختيار واعٍ فقد كنت حريصًا على أن لا تبقى في ذهني غير صورة زوجتي البشوشة الصابرة المحتسبة وصور أبنائي الباسمين الصبوحين، لم أكن أصبر على "دقّة شوكة" (وخزة شوكة) تصيب أحدهم في حياتهم فهل تراني أطيق أن أراهم مضرّجين بالدماء.

كانت خديجة البنت الصغرى ذات الـ10 سنوات، يضيف شكري مبتسمًا ابتسامة حزينة، تدفعني دفعًا كلما عدت إلى البيت إلى مصاحبتها في كل اختياراتها، فكنت أنوب عن إخوتها المنهمكين في الدراسة، فلا تتركني إلا وقد شاركتها جل ألعابها الطفولية وشاهدت معها ما ترغب من صور متحركة ولم تكن تتركني إلا وقد غلبها النعاس بين يدي وهي تشاهد سلسلة شوفلي حل، وقد بقيتُ بعد مماتها أيامًا أشاهد هذه السلسلة بعيونها مستذكرًا ضحكتها وردود أفعالها.

 

شكري خميرة

"كان لشكري خميرة زوجةً صالحة وثلاثة أبناء يعمرون البيت أدبًا ولطفًا وتعاونًا" (الترا تونس)

 

الموتى بين يدي الرحمان.. اِبكِ على الأحياء

من المشاهد التي هزّت العالم فقدان وائل الدحدوح الصحفي الفلسطيني بقناة الجزيرة جل أفراد عائلته بسبب القصف الاسرائيلي الغاشم المركز، كان الهدف الإجرامي المتعمد استهداف جسد هذه الإعلامي وتعطيل عزمه البطولي على هتك أسرار المستعمر.

رغم الفوارق الجمة بين تجربة شكري التونسي والدحدوح الفلسطيني فإنّ الجامع بينهما فضلاً عن فاجعة الموت الجماعي لأفراد العائلة هو تركيز الأصدقاء والمتابعين والمعاينين على الفرد الحي الفاقد لأفراد أسرته أكثر من تركيزهم على الميت المفقود.

يقول شكري خميرة لـ "الترا تونس"، إنّ أكثر ما شغله أثناء الجنازة وبعدها هو انصراف المعزين عن التفكير في الفاجعة وملابساتها واهتمامهم الفائق بحالته رأفة وخوفًا.

شكري خميرة لـ"الترا تونس": أكثر ما شغلني أثناء الجنازة وبعدها هو انصراف المعزين عن التفكير في الفاجعة وملابساتها واهتمامهم الفائق بحالتي رأفة وخوفًا

يضيف خميرة، ورغم أنني أظهرتُ صلابة وأبديت تجلدًا عند تلقي الخبر وأثناء تشييع الجنازة فقد زادت حيرة عائلتي الموسعة وجيراني على وضعيتي النفسية، فأحسست أنّ أسفهم على الحي أشد من حزنهم على الأموات، وتحول هذا الشعور إلى تساؤل وقلق ومحاولة لتفسير ذاك الهدوء الذي بدا على ملامحي، فزادت خشيتهم مِن أن يكون قد أصابني مكروه.

يواصل حديثه مفسرًا، "أنا نفسي لم أجد لسلوكي تفسيرًا، ولكن في كل الأحوال أجزم أنّ الأمر لا يندرج ضمن حالة مرضية عُصابية إنما هو أمر رباني عنوانه الأدق هو الرحمة التي تنزل مع المحنة، لست متفقهًا في الدين لكن التجربة أثبتت لي أنّ المؤمن بالله أقدر على مواجهة المصائب مهما عظمت خاصة حينما يترسّخ لديه وعيٌ بمقولة الابتلاء".

 

شكري خميرة

شكري خميرة:  التجربة أثبتت لي أنّ المؤمن بالله أقدر على مواجهة المصائب مهما عظمت (الترا تونس)

 

العدول عن التركيز على الميت إلى الاهتمام بأهل الفقيد تؤكده التجارب وردود الأفعال والتشريعات، يمكن إقامة الدليل على ذلك من خلال ثلاث حجج على الأقل، أولها العبارة المتداولة في المآتم "ابك على الأحياء، الموتى بين يدي الرحمان لا خوف عليهم.." ثانيها الضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها من حضر حادث مرور قاتل، فالترتيب الأسلم لردود الأفعال يقتضي التوجه فورًا إلى من أصابه هلع وتهدئته حتى لا يتسبب في حادث آخر ثم الاتصال بالإسعاف، ثم تفقد من يحمل مؤشرات النزيف الداخلي ثم تفحّص حالة المصابين بجروح وكسور ظاهرة، فمن العبث واللاجدوى التركيز على جثث الموتى والحال أنّ لحظة واحدة كفيلة بإنقاذ جريح أو الوقاية من تداعيات إضافية للواقعة.

الحجة الثالثة التي تؤكد أولوية العناية بالأحياء من ذوي الصلة بالأموات هو تمكين المكلومين في أفراد أسرهم خاصة في الموت الجماعي من الإحاطة النفسية الفورية والمتابعة الصحية على امتداد أسابيع وأشهر هذا ما تنص عليه التشريعات في العديد من الدول بطلب من المتضرر أو عائلته أو بتدخل احترازي من المؤسسات الصحية.

في كتابه قلق الموت، أكد أحمد محمد عبد الخالق الباحث المصري في العلوم النفسية أنّ حالة الموت تثير ثلاثة ردود أفعال، أوّلها الوجوم والصمت والشرود وثانيها البكاء واللوعة والثالثة الصرع والفزع

بناءً على هذه المعطيات فإنّ سلوك المحيطين بشكري خميرة كان طبيعيًا بل يمكن اعتباره حكيمًا، فالأحياء أحوج إلينا من الأموات، نُنجد هؤلاء ونؤازرهم في محنتهم ماديًا ونفسيًا وندعو لأولئك ونطلب لهم من الله الرحمة والمغفرة.

في كتابه قلق الموت، أكد أحمد محمد عبد الخالق الباحث المصري في العلوم النفسية أنّ حالة الموت تثير ثلاثة ردود أفعال، أوّلها الوجوم والصمت والشرود وثانيها البكاء واللوعة والثالثة الصرع والفزع.

 ويعتبر الباحث أنّ الموقف الثاني هو الأكثر توازنًا، وفي مقدمة الكتاب يقول عبد الخالق ما معناه إنّ فاجعة الموت لا تثير قلق الفرد أو أهل الميت فقط وإنما تثير كذلك قلق الباحثين فتدفعهم إلى الإعراض عن معالجة هذه المسألة معالجة تأملية فتراهم أكثر تركيزًا على الموضوع في بعده السريري أو الإحصائي أو العلمي عامّة.

 ويقرّ عبد الخالق رغم ذلك أنّ أسبابًا وجودية تدفع الباحث دائمًا إلى التطرق إلى هذه المسألة فالموت حقيقة لا يمكن إنكارها أو التملص منها لكنه يعترف بأنّ الموت الجماعي الذي تتسبب فيه الحروب غاليًا ما يكون سببًا موضوعيًا أقوى لهذا اللون من الاهتمامات ويضيف الكاتب بأنّ فكرة تأليف كتابه "قلق الموت" قد راودته إبان وجوده في بيروت متأثرا على حدّ تعبيره بالأحداث الغامضة للحرب الأهلية التي دارت رحاها هناك ( 1975-1990)، ومن الطبيعي جدًا في هذا المكان غير الآمن أن يفكر الإنسان في الموت أكثر من تفكيره في الحياة.

العدول عن التركيز على الميت إلى الاهتمام بأهل الفقيد تؤكده التجارب وردود الأفعال والتشريعات، يمكن إقامة الدليل على ذلك من خلال ثلاث حجج على الأقل

من جهتي لا أنكر أنّ اهتمامي بمحنة الكهل التونسي شكري خميرة قد غذته مشاهد الموت الجماعي في فلسطين هذه الأيام.

العدوان على غزة لم يكف عن دفعنا إلى مراجعة اهتماماتنا وإلهامنا أفكارًا ومباحث وزوايا نظر لا تقتصر على الجانب السياسي والعسكري والإعلامي ولا ترتبط فقط بالقيم والمؤسسات وأنظمة التواصل إنما تفتح أمامنا أفاقًا أخرى للتأمل الوجودي والفلسفي والروحي.