18-مارس-2020

حيرة إزاء الأطراف التي تأبى الامتثال لشروط التوقّي من "كورونا" (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

لم تكفّ الهياكل الصحيّة ومؤسسات الدولة عن التنبيه إلى خطورة فيروس "كورونا"، تضافرت في هذا المنحى الوقائي أصوات من البرلمان ورئاستي الجمهورية والحكومة ومن البلديات والجمعيات والمنظمات الوطنية، وقد اتّخذت التنبيهات درجات متصاعدة، من الإرشاد، إلى الحجر الفرديّ، إلى تعطيل الملتقيات والتجمعات الثقافية والرياضية والدينية. وتواصلت موجات منع الاحتكاك والاكتظاظ والتنقل إلى أن بلغت ذروتها من خلال قرار حظر التجوّل الذي أعلن عنه قيس سعيد رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة يوم الثلاثاء 17 مارس/آذار 2020، وينطلق العمل بهذا المرسوم بداية من يوم الأربعاء 18 من نفس الشهر من السادسة مساءً إلى السادسة صباحًا.

لو اقتصر الاستخفاف بإجراءات التوقي من فيروس "كورونا" على السخرية والتهكم لهان الأمر لكنّه امتدّ إلى الفعل والحركة

هذه الإجراءات المتتابعة من يوم إلى آخر قد تبدو بالنسبة إلى الكثيرين مفتقرة إلى الانسجام والدقة والجدوى، وهي مقاربة يمكن معالجتها في مقام آخر، لكنّ الأمر الذي يبدو الآن عاجلًا وأكثر إحراجًا هو إمعان عدد كبير من التونسيين في الاستخفاف بخطر "كورونا". ولو اقتصر هذا الاستخفاف على السخرية والتهكم لهان الأمر، لكنّه امتدّ إلى الفعل والحركة، فقد شاهدنا خلال الأسبوع الثاني من شهر مارس/آذار الجاري ألوانًا من التمرّد تجلت من خلال المقاهي العامرة والحفلات المقامة منتصف النهار، ومن علامات الفوضى والاستهتار إقامة صلوات الجماعة أمام بعض المساجد وتنظيم مبارزة بين الأكباش حضرها المئات من المشجعين لم يغادروا الساحة إلا بعد إطلاق القنابل المسيلة للدموع.

اقرأ/ي أيضًا: الوباء مناخ خصب للمؤامراتية الفجة والانقلاب النمطي

لا شكّ أنّ الوعي والانضباط قد تجسد لدى الغالبية من التونسيين خاصة في الأيام الأخيرة بعد الاطلاع على ما آلت إليه الأمور في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وفي العديد من الدول المجاورة. ,هذا السلوك الحكيم لا يحدّ من حيرتنا إزاء الأطراف التي تأبى الامتثال لشروط التوقّي من "كورونا"، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات على الأقل.

"كورونا" المستجد والجهل المستبد

الفئة الأولى هي الجماعات التي يمكن نعتها بالجهل، فقد يفعل الجاهل بنفسه وأحبّته وأصدقائه وبني وطنه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه، لا نعني بالجهل الأمية أو الافتقار إلى المعارف والعلوم، إنما نقصد في هذا المقام سوء الفهم والتقدير والوقوع فريسة الأوهام. فمن ظنّ أنّ الوباء لا يصيب إلا غيره (Ça n'arrive qu'aux autres)  فهو جاهل، ومن حسِب أن "كورونا" يمكن معالجتها بالثوم وبعض الحشائش والمضادّات الحيوية فهو جاهل، ومن تهيّأ له أنّ الدعوات إلى الاحتراس والحذر فيها تهويل ومبالغة فهو جاهل، فكلّ القرائن تؤكّد أنّ وباء "كوفيد-19" (Covid-19) مرض استثنائيّ يقتضي احتياطات فريدة غير مسبوقة.

هذه الفئة من الجاهلين لخطورة الموقف الكارثيّ المنذر بالفاجعة الإنسانية تحتاج منّا أفرادا ومجموعات ومؤسسات إلى بذل مزيد من الجهد الإيضاحي والتفسيري والإقناعي والإرشادي والإعلامي  بلغة خالية من التعقيد والالتواء، لكن ماذا عن الفئة الثانية؟

كورونا وراءهم والجوع أمامهم

المجموعة الثانية من الأطراف المتمنعة عن الالتزام بإجراءات التوقي من "كورونا" هي فئة المساكين والمشردين، هؤلاء تدفعهم الخصاصة وطبيعة أنشطتهم إلى التنقل والاختلاط بالآخرين قُربًا ولمسًا وتبادًلا للأمتعة والسلع والعديد من الأغراض، هذه الفئة لا تشملها أنظمة التحصين والتأمين والادخار والإعمار. إذا توقفت عن العمل زاد فقهرها، وباتت مهددة في أمنها وحياتها، فلا سكن ولا مأكل ولا مشرب ولاحليب للأطفال في ظلّ تراجع كل وجوه التضامن والرحمة.

الفئة الأولى هي الجماعات التي يمكن نعتها بالجهل، فقد يفعل الجاهل بنفسه وأحبّته وأصدقائه وبني وطنه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه

إذا لزم هؤلاء المفقَّرون المعدمون أماكنهم فسيكونون حينئذ على شفا حفرة من الموت جوعًا قبل "الموت الكوروني"، هكذا أوحت لهم المحن، وهذا ما ألهمتهم به قسوة المجتمع وغفلة النظام،  فلا تطلب ممّن عجز عن توفير قوت يومه أن يقبع في كوخه أو بيته المتهاوي، ولا تنتظر منه أن يتسلح بأدوات التنظيف والتعقيم التي حوّلها قناصة الأرزاق والمحن إلى مصدر جديد لإثراء لا يعترف بالأصول الأخلاقية والإنسانية ولا يأبه لترسانة القوانين والأوامر والمناشير.

اقرأ/ي أيضًا: الكورونا تريد!

هذه الفئة تحتاج إلى العطف والعون والنجدة، وتحتاج إلى إلحاقها بسفينة النجاة من قذائف "كورنا" وإدراجها في سجل "العالم المعقّم"، فالوباء الذي تواجهه البشرية هذه الأيام "شيوعي" القتل والفتك، لا يقبل الفرز المادّي والتمييز الطبقي رغم عنجهية الرأسمالية المتوحشة.

الالتزام بالإجراءات الوقائية ومقاصد الشريعة

الجهة الثالثة المصرة على عصيان أحكام التوقّي من "كورونا" هي فئة من المتدينين تحمل تصورات مخصوصة لمسألة القضاء والقدر تنزع عن الإنسان صفات التميِيز والإرادة والمسؤولية، ومن مراجعها "الكلامية" (نسبة إلى علم الكلام) الفرقة "الجبرية" التي أسسها الجهم بن صفوان، وقد سميت هذه الفرقة بذلك كما جاء في كتاب "الملل والنحل" للشهرستاني لأنّ أتباعها يقولون "إن العبد مُجبر على أفعاله ولا اختيار له وأنّ الفاعل الحقيقي هو الله".

ويستند أصحاب هذا التصوّر الغيبيّ إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأمثال شعبية وأمثلة واقعية تؤكّد أن الموت فاجعة لا فِكاك منها فلا داعي في ظنهم إلى الإفراط في الحذر والتوقي.

هذه الفئة في رأيي هي الأخطر مقارنة مع البقية، لأنها تستند إلى أفكار ترقى عندهم إلى مرتبة العقيدة، ولا سبيل إلى مواجهة هذا الخطاب إلا بخطاب من داخل نفس المنظومة الدينية يصدر عن أئمة و"شيوخ" و"رجال دين" وفقهاء يحظون لدى عامّة المتدينين بالثقة والائتمان، وتكون لديهم الحجة القوية التي تراعي مقاصد الشريعة المتمثلة أساسا في النفس والعقل والمال والنسل.

الجهة الثالثة المصرة على عصيان أحكام التوقّي من "كورونا" هي فئة من المتدينين تحمل تصورات مخصوصة لمسألة القضاء والقدر 

يتّضح من خلال هذا التصنيف أنّ الفئات المتمردة على شروط التوقي من "كورونا" تحركهم ثلاثة دوافع، الجهل والفقر والتأويل المخصوص لمسألة القضاء والقدر، التصدي لهذه الأطراف يقتضي خطابات وتشريعات ووسائل مختلفة تراعي الإمكانيات المادية والبنية الذهنية والثقافة السلوكية، فلكل حدث حديث ولكل فئة بيان.     

  

اقرأ/ي أيضًا:

نصف الوباء السلوك البشري: الاستخفاف والهلع

ما معنى تصنيف "كورونا" مرضًا ساريًا في تونس؟