13-مارس-2020

أحدث فيروس "كورونا" تحولًا في السلوك والفكر والمفاهيم (Getty)

 

مقال رأي

 

ظهر فيروس "كورونا" أوّل مرّة في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، حينها لم يتوقع أكثر المتشائمين أن يدرك هذا المرض المستجدّ مرتبة الوباء العالمي في بضع أسابيع، وقد أقرت بذلك منظمة الصحة العالمية في مؤتمر صحفيّ انتظم بجينيف يوم الأربعاء 11 مارس/آذار 2020.

انطلق "كورونا" أو قُل" صاحب التاج" من مدينة "وُوهان" الواقعة بمقاطعة "هوبي" بالصين، فكسب معركته الأولى في هذا البلد المتصف بالكثافة السكانية، ثمّ اكتسح دولًا مجاورة وسرعان ما بسط نفوذه على الجميع في كلّ بقاع المعمورة، فقتل حوالي الخمسة آلاف وأصاب ما يزيد عن 126 ألفًا، وأدخل الذعر في البشرية جمعاء، وتمكّن أخيرًا من إكراه مدن بأكملها على عزلة إلى أجل غير مسمّى.

 قد يكون لهذا الفيروس الوبائيّ دور في إعادة تشكيل فهمنا للأشياء والوجود والمصير، وقد يدفع نحو مراجعة بعض القيم والمفاهيم والأوليات

تواصلت الآثار المدمرة لـ"كورونا"، فلحقت كلّ مجالات الحياة الاقتصاديّة والثقافيّة والفنيّة، واتسعت دوائر المنع والحجر لتشمل المسارح والملاعب والمدارس، ولم تعد المساجد والكنائس ملاذًا يهرع إليه الهارب من الهموم والكوارث، فلا عُمرة ولا صلاة في جماعة، ولا حجّ إن تواصلت هذه الأزمة المنذرة بالفاجعة الكونيّة.

اقرأ/ي أيضًا: نصف الوباء السلوك البشري: الاستخفاف والهلع

الأخطر من هذا كله هو أثر "كورونا" في العقول والأذهان، فالأمر لا يقتصر على علامات الخوف والهلع، ولا ينحصر في آيات اللهفة والارتباك، إنما يشمل ما هو أعمق وأكثر ديمومة، فقد يكون لهذا الفيروس الوبائيّ دور في إعادة تشكيل فهمنا للأشياء والوجود والمصير، وقد يدفع نحو مراجعة بعض القيم والمفاهيم والأوليات، هذه المسائل تنقسم إلى مجالين الأوّل وجوديّ تأملي والثاني تواصلي سلوكيّ. ونظرًا إلى عُجالة هذا الحيز الإعلاميّ وما يتصف به المجال الأول من تعقيدات فلسفية، اخترنا التركيز على تقليب النظر وإبداء الرأي في المجال الثاني.

وزارة الصحّة تحتكر النجومية والسيادة

في فترات الأوبئة تتراجع سائر الرهانات والهواجس والمطامع والطموحات، وتتسع دائرة الاهتمام بالحدّ الأدنى من شروط البقاء أي المحافظة على الجسد سليمًا معافى خاليًا من الأمراض والفيروسات، حينئذ يصبح الطبيب والممرض هما المقصدان الأساسيان. ويتحمّل وزير الصحة العبء الأكبر، فلا عجب أن يكون اسم عبد اللطيف المكي الأكثر سريانًا على الألسن، فهو صاحب الحقيبة التي تشرئب لها الأعناق، ففيها الإجابة عن مخاطر "كورونا" وأماراتها وسبل مواجهتها، وفيها التوصيات والأرقام التي لا غنى عنها في هذه المرحلة العصيبة.

الجميع في مركب واحد والخلاص لن يكون إلا جماعيًا

جعل هذا السياق الصحّيّ الاستثنائيّ البيانات ذات المنحى الصحي أشدّ إثارة وتواترًا من البيانات العسكرية في فترات الحروب، إن شئت التحقق من ذلك راجع نسبة المتابعة للأخبار اليومية، فقرار ترامب رئيس الولايات المتحدة يوم 12 مارس/ آذار منع دخول الطائرات من أوروبا خشية "كورونا" بدا أوسع انتشارًا ومتابعة ومقروئية من خبر مقتل ثلاثة جنود من التحالف الأمريكي بالعراق في نفس اليوم.

في تونس وزارات التربية والنقل والثقافة والعدل والشؤون الدينية وسائر المؤسسات باتت تستند في مناشيرها وأنشطتها إلى التقارير التي يتلوها بين الساعة والأخرى وزير الصحة أو من يقوم مقامه، ألا يحق القول إنّ وزارة الصحة وعبد اللطيف المكي قد تربعا على عرش السيادة والنجومية الحكومية هذه الأيّام؟

الخلاص الفردي والمصير الجماعي

تكرست منذ عقود في تونس وفي سائر البلدان فلسفة الخلاص الفردي، وقد تجسدت هذه النزعة سلوكيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وعبّرت عنها أمثال شعبية عاميّة من قبيل "روحي روحي ولا يرحم من مات" و"أخطى راسي واضرب". كما ترجمت هذا المنحى العامّ ظاهرة الإقبال على القطاع الخاص في التعليم والصحة وغيرها من المرافق بسبب تردّي الخدمات في المؤسسات العمومية، فقد أصبح المواطن يراهن على كفاءاته ويستأنس بمهاراته ويستنجد بإمكانياته الخاصة أكثر من تعويله على المجموعة الوطنية أو الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الأوبئة الأكثر فتكًا بالتونسيين

هذا المنحى "الأنانيّ" ما عاد مجديًا في مواجهة وباء "كورونا" الذي يقتضي وفق أغلب الخبراء تعاضد الجهود الأممية وتماسك أجهزة الدولة ومؤسساتها والتزام الفرد مع البقية بخُطة موحدة وفق ما ترتئيه السلطة القائمة والهيئات المطّلعة، وهي خطوات تقتضي ثقة لا غنى عنها بين سائر الأطراف. فلا وجاهة لخطابات تمتطي ضمائر المفرد متكلمًا أو مخاطَبًا أو غائبًا، المعقولية الآنية والمصلحية يقتضيان إعلاء صوت واحد هو صوت المتكلم الجمع، نحن فعلنا ونحن سنفعل.

 إننا نواجه عدوًا مشتركًا ومصيرًا مشتركًا ومن السخافة والتعسف الانصراف إلى سرديات المؤامرة  والتقسيم أو اتهامات التخوين والترذيل، فالجميع في مركب واحد والخلاص لن يكون إلا جماعيًا.

النزعة الأبيقورية وتقديم الحيوي على الجمالي

اقترنت العزلة إمّا بالتأمّل أو بالزهد أو بالاكتئاب والانطواء، وقد أرجع العديد من الباحثين هذا السلوك إلى أسباب شتّى أهمها الإعراض عن الدنيا بمختلف ملذاتها. في المقابل يُعتبر الشغف بالمهرجانات والمسارح والتظاهرات الرياضية آية إقبال على الحياة، هذه القراءة ما عادت تنطبق على واقعنا الحالي، ففي زمن "كورونا" غدت العزلة علامة وعي وسلوكًا حكيمًا ينبئ عن حذر وتمسك بالصحة والبقاء لفائدة الفرد والمجموعة، أمّا الاندفاع إلى الفضاءات العمومية المكتظة فقد بات من أمارات التهور بل هو في مرتبة العمل الانتحاري.

أحدث فيروس "كورونا" تحولًا في السلوك والفكر والمفاهيم والأولويات وسيادة القرار

ينطبق هذا على كل درجات الوصال مصافحة وتقبيلًا وعناقًا، وبناء على ذلك عدل الناس عن المفهوم السائد للسعادة والحب، ففي أيام السلامة والأمان كانت السعادة مقترنة بمعني اللذة والحرية والأنشطة الفنية، أمّا الآن فهي أميل إلى الفلسفة الأبيقورية، فقد اهتدى الفيلسوف الإغريقي أبيقور إلى ما معناه أنّ السعادة الحقيقة لا تشترط غير التوازن الصحي فمن خلا جسدُه من الآلام والأوجاع فقد بلغ مقصد السكينة والهناء.

قال ماكرون الرئيس الفرنسي في خطاب ألقاه يوم 12 مارس/ آذار 2020 " إن الأولوية هي صحتنا وحياتنا" هذا التصور قريب في جانب منه من "السعادة الأبيقورية"، وهو أبعد ما يكون عن شجع النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد في فترات السلام والرخاء. فهو نظام لا يخشى الزهد الديني أو التصوف الفلسفيّ لأسباب إيديولوجية أو عقائدية بقدر ما يحترس منهما لأنّهما يتصديان فكريًا وسلوكيًا لثقافة الاستهلاك، ها قد ألزمت "كورونا" أنظمةً وحكومات بسلوكات لا تتناسب مع سياساتها الاقتصادية المتوحشة.

ما يمكن الانتهاء إليه من خلال هذه القراءة أنّ "كورونا" قد أحدثت تحولًا في السلوك والفكر والمفاهيم والأولويات وسيادة القرار، هذا التحول فيه ما يمكن تصنيفه ضمن الإجراءات الوقائية الظرفية، وفيه ما سيظل عالقًا في النفوس والأذهان وفي رؤيتنا للحياة والوجود والمصير والإنسان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"سوسيولوجيا النكتة".. عندما أضحى فيروس "كورونا" مادّة للنكات

كيف تفاعل التونسيون مع فيروس كورونا؟.. قراءة سوسيولوجية ونفسية