06-نوفمبر-2018

حكم الإعدام هو حكم غير قابل للتصحيح (Getty)

يقول الروائي واسيني الأعرج في روايته "مملكة الفراشة" إن "الانتقام هو دائمًا أعنف من العنف ذاته". فالعنف بكافة أشكاله سواء كان مقترفًا من فرد أو جماعة هو إفراز لواقع مركب بين الراهن والقديم يرتكز عليه المجتمع، وتتداخل فيه العوامل المادية أي الاقتصاد، والسياسة، والثقافة وكذلك العوامل اللامادية كالدين والسيكولوجيا.

ينعكس كل ذلك على سلوكيات الأفراد التي يمكن أن تصل إلى أبشع أنواع العنف تجاه أنفسها كالانتحار أو تجاه الآخر كالتعذيب والقتل، بذلك فالعنف هو ردة فعل على واقع معقد. ولا ينفي المذكور مسؤولية الفرد في ارتكاب العنف ولكنه يحيل إلى أن الجزء الأكبر من المسؤولية يعود إلى المجتمع.

العنف بكافة أشكاله سواء كان مقترفًا من فرد أو جماعة هو إفراز لواقع مركب بين الراهن والقديم يرتكز عليه المجتمع وتتداخل فيه العوامل المادية واللامادية

في ظل منظومة قيميّة مهترئة ومنظومة قانونية متخلفة، يتجلى السلوك الانتقامي أو الثأر بأكثر حدة، وتكون ردة الفعل مضاعفة وأعنف من الفعل ذاته، باعتبار ما ستولده من رد مادي ومعنوي عنيف ومن انحرافات نفسية وسلوكية قائمة على الكره والحقد والنبذ والشتم وما إلى ذلك من الأخلاق المزرية التي تغذي نزعة العنف داخل المجتمع.

يحيلني هذا المدخل للحديث عن عقوبة الإعدام، وهي أقصى عقوبة تسلط على الجاني الذي يتم قتله تعسفيًا ما يوهط مباشرة الحق في الحياة باعتباره حقًا كونيًا أساسيًا ملازمًا للإنسان. إذ يقنن التشريع الوضعي المكرس للإعدام بهدف الردع، جريمة القتل القسري عن طريق أجهزة الدولة التشريعية والأمنية والقضائية، وبالتالي يقنن للعنف.

ويتعزز هذا الموقف عبر الإحصائيات الرسمية، حيث تسجل دول الاتحاد الأوربي التي ألغت عقوبة القتل أقل معدلات الجريمة في العالم بينما تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي تسجل نسبة جريمة مرتفعة إذ احتلت في السنة المنقضية المرتبة الأولى في نسب الاغتصاب حسب وزارة العدل الأمريكية، وذلك رغم أن جزء من ولاياتها تطبق العقوبة وهو ما يفند القول إن عقوبة القتل أو الإعدام لها أثر رادع.

اقرأ/ي أيضًا: عقوبة الإعدام .. بين العدالة الجنائية والحق في الحياة

وتختلف أنواع الجرائم التي تتم إدانتها بحكم الإعدام بين الدول المطبقة له وإن تصنف جميعها في خانة الجرائم الخطيرة. ولسائل أن يتساءل عن دوافع الفعل الإجرامي عمومًا والخطير أو البشع منه خصوصًا، فالإنسان لا يولد مجرمًا وإنما يصبح كذلك، لأن المسألة ليست جينية وإنما سلوك مكتسب ومنحرف يدخل في خانة اضطراب الشخصية في علم النفس. ولعل القارئ يستنتج من هذا الحديث تطبيعًا مع الإجرام أو تبريرًا له، في حين أن الحديث عن أي ظاهرة يتطلب تشريحها في كل جوانبها لإيجاد الطريقة المناسبة للتعامل معها خدمة للمجتمع.

وأقترح، في هذا السياق، صنفين للجرائم الخطيرة لمحاولة الفهم فقط، الصنف الأول يتعلق بالجرائم القائمة على غاية ربحية بحتة على غرار تجارة السلاح، وتجارة المخدرات، وتجارة الأعضاء أما الصنف الثاني يتعلق أساسًا بجرائم ذات خلفية مرضية كالاغتصاب والقتل والتعذيب. فكيف لشخص يتمتع بصحة عقلية جيدة أن يتلذذ بالاغتصاب أو بقطع أوصال شخص آخر؟ لنأخذ مثالًا النساء اللاتي يلدن أطفالًا خارج إطار الزواج ويقمن بقتلهم، وهي جريمة شائعة في المجتمعات العربية ترتبط أسبابها عضويًا برفض العائلة والمجتمع لهن ولأطفالهن وبوصمهن بأبشع النعوت "الأخلاقوية" وعدم قدرتهن على مجابهة ذلك، ما يدفعهن في لحظة يأس قاسية إلى ارتكاب تلك الفعلة الشنيعة التي ستولد لهن حالة نفسية مرضية طيلة حياتهن.

الإنسان لا يولد مجرمًا وإنما يصبح كذلك لأن المسألة ليست جينية وإنما سلوك مكتسب ومنحرف يدخل في خانة اضطراب الشخصية في علم النفس

وتكمن المفارقة في أن الدعوة المجتمعية الشديدة لتنفيذ عقوبة الإعدام مرتبطة لدى السواد الأعظم بجرائم الصنف الثاني بالرغم من أن مسؤولية المجتمع فيها أكبر بكثير من جرائم الصنف الأول.

وأعتقد أن هذه الحالة من الوعي، المشوهة والمتناقضة في المجتمعات التي تطبق الإعدام، مستمدة عند المسلمين من النص الديني الذي يصنف جملة من الجرائم تحت طائلة عقوبتي القصاص وحدّ الحرابة عكس اليهودية والغالبية العظمى للكنائس المسيحية التي دعت إلى إلغاء عقوبة الإعدام، أو من قمع الحريات السياسية مثل ما هو الحال بالنسبة للصين، أو من عدم التدخل في الشؤون المحلية لبعض الولايات الأميركية بهدف عدم التأثير على التوجهات العامة "المقدسة" للقوة العظمى في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: لتنقيح المجلة الجزائية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة

يكمن التناقض في المطالبة بتنفيذ عقوبة القتل، في رفض الجريمة في حد ذاتها والاشمئزاز منها واعتبار الجاني فاقدًا للإنسانية، ومن ثم الدعوة إلى قتله وتصل الدعوة في عدة أحيان إلى المطالبة بالتعذيب حتى الموت للمذنب وبتقنين ذلك، أي إتيان نفس الفعل الذي قام به الجاني مع جرعة إضافية من التشفي من المجتمع ومن ثم من الدولة التي تسخّر أجهزتها للانتقام من ذلك الفرد، في تجل صارخ لغياب وجهة نظر عقلانية وإنسانية حقيقية.

ويبقى الإعدام مهينًا ومحطًا من الكرامة الإنسانية برغم أشكال التنفيذ الحديثة على غرار الشنق والكرسي الكهربائي والحقنة القاتلة. هو مسار قاتم يبتدئ بالنطق بالحكم القضائي ومن ثم يزج بالمحكوم عليه بغرفة الإعدام بالسجن بين أخلاّئه ينتظر دوره لصعود "المقصلة"، جميع الأيام متساوية لا وقع فيها سوى وقع الموت البطيء، ولا أعتقد أن شيئًا أفظع من معرفة يوم وساعة النهاية.

 قدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية أن نسبة الأبرياء من بين الذين طبق عليهم الإعدام بلغت 4 في المائة

"أهي البراءة والخطيئة في سرير واحد؟" هكذا تساءل أدونيس، وينعكس ذلك في إدانة بريء بالإعدام وهو حكم غير قابل للتصحيح في حالة حدوث أخطاء قضائية. إذ قدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية أن نسبة الأبرياء من بين الذين طبق عليهم الإعدام بلغت 4 في المائة. ولذلك تجعلنا كل تلك الأسباب آنفة الذكر نرفض بمبدئية خالصة عقوبة الإعدام التي ما انفكت تنحصر في انعكاس جلي للمكتسبات المحققة على يد أجيال من الحقوقيين من أزمنة وأمكنة مختلفة.

ومن بين مظاهر عقلنة الدولة أنه إلى غاية سنة 2017، قامت 170 دولة بإلغاء أو تجميد عقوبة الإعدام والاكتفاء بالعقوبات السالبة للحرية الخاضعة لإمكانية العفو، باعتبار أن كل فرد نافع للمجتمع إذا توفرت له الظروف الضرورية ليكون كذلك. وعلى هذا الأساس يجب أن يكون السجن لجميع الجرائم مكانًا للتربية والتكوين والمتابعة المستمرة للخضوع لشروط العفو مع إرساء منظومة لاحقة تُعنى بالإدماج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تعرف على أهم 10 مجلات قانونية في تونس

تونس: العفو الدولية تدعو رئاسة الجمهورية إلى إلغاء عقوبة الإعدام