26-مايو-2019

تفنّن التونسيون منذ عقود في الوصل بين عالمي الطبخ والسياسة (Getty)

 

قُبيل دقائق من موعد الإفطار، تسلّل صالح إلى المطبخ في تردّد المقصّر المُهمِلِ، رام أن يلطّف جليدًا عاطفيًا زاده برودًا غيابُه طول اليوم، ولم تحدَّ من صقيعه حرارةُ الفرن تَلفح جبين زوجته سامية في عشيّة صوم.

خاطبها في لياقة المعترف بذنبه: "عْزِيزْتِي تعرفني ما نقاوم حْشيشة رمضان كان بالمكتبة والكتب"، أجابت في استنكار يُخفي صفحًا: "احْسِبني قصيدة وإلا مجلة أقراني وتصفّحني" فردّ متغزّلًا وقد اطمأنّ إلى بوادر صفاء تسلّل من بريق عينيها: "أنتِ الكل، أنت الكلمة والقافية، أنت القِبلة والقُبَلْ، أنت سلطانة الدار كيف تْطُلْ". قاطعته باسمة في دلال: "قل لي كيفاش تحب البريكة؟" فأجاب مادحًا: "الأمر أمرك، أنت أميرة المطبخ ووزيرة داخلية الكوجينة" فقالت في دهشة: "حتّى الكوجينة ما سلمتش من السياسة متاعك!".

عاد إلى مكتبه متأمّلًا في كلام زوجته مخاطبًا نفسه، فِعلا السياسة مبثوثة في "الكوجينة" رائحتها تنبعث من قفّة الخضر والغلال وجلّ الأكلات وتسطع من بعض الحملات الانتخابيّة في المطاعم الشعبية، وتنفح من الصراعات الثّقافيّة بين الأمم حول ملكيّة بعض الأطباق الشهيّة، "أَلَا إن المطبخ أصدق أنباءً من الصّحف والكتب!".

تفنّن التونسيّون في الوصل بين عالمي الطبخ والسياسة فطوّعوا اللهجة إلى هذا التّوليف والتّجاور الدّلالي والتوليد الاشتقاقيّ فأثمر ذلك نماذج عديدة تتّصف بالطّرافة والعمق والإفادة

اقرأ/ي أيضًا: من خلال "الكسكسي الشمسي" و"الفرفوش": طهاة تونس يستعيدون نكهة أطباق أصيلة

إنّ ما انتهى إليه صالح في تعليقه على كلام زوجته العفويّ تؤكّده المعاجم والبحوث والوثائق والحكايات، هذه المراجع تزخر بما يقوم دليلًا على أنّ المطابخ التونسية ذات نكهة سياسية، ولا عجب في ذلك، فاستقرار الأسر والدول والأمم في جانب كبير منه رهين ما يفوح من المطبخ، فهو المعلن عن اليسر أو العسر، وهو الكاشف عن الرخاء أو الشدّة، وهو المُخبر عن الخصاصة أو التّرف، وهو الشّاهد على التّدافع بين الخصوصيّة والكونيّة، لذلك تتحدّث الشعوب عن الأطباق الوطنيّة الأصيلة والأطباق الوافدة الدّخيلة.

لقد تفنّن التونسيّون منذ عقود في الوصل بين عالمي الطبخ والسياسة، فطوّعوا اللهجة إلى هذا التّوليف والتّجاور الدّلالي والتوليد الاشتقاقيّ، فأثمر ذلك نماذج عديدة تتّصف بالطّرافة والعمق والإفادة.

قفّة التّسوّق وقفّة التملّق

تُمثّل "القفّة" عنصرًا أساسيًا من العناصر المشكّلة للمطبخ التونسيّ خاصّة قبل انتشار الأكياس البلاستيكيّة، ففيها تُحمل الخضر والغلال والتّوابل واللّحوم. ولئن بدت وظيفة القفّة ومرجعيّتها بيِّنة واضحة، فقد اتّخذت في اللّهجة التّونسيّة أبعادًا سياسيّة خطيرة من خلال ضربين من الشّحن الدلالي، أمّا الأوّل فقد قام على الاشتقاق المعجميّ، ويتمثّل في الاصطلاح على فعل "قفّف" والمصدر "تقفيف" وكلاهما دالّ على التملّق للحكّام والتزلّف للرؤساء والسّادة والمسؤولين وأصحاب النفوذ، ويتوخّى "القفّاف" مسلكًا في القول والحركة والإيماءة يهوي بصاحبه إلى قاع المذلّة والهوان في سبيل مكاسب ماديّة أو إداريّة أو اجتماعيّة.

تظهر أشكال مختلفة لـ"الفقة" في المحل (أ.ف.ب)

أمّا البعد السّياسيّ الثاني المتّصل بكلمة "قفّة"، فقد بُني على الإضافة النحويّة في عبارة "قفّة المواطن"، فهي السلاح الأكثر استعمالًا من قِبل المعارضة في التّصدّي للسّياسة الاقتصادية للحكومات، وقد تواترت هذه العبارة في الثلث الأوّل من سنة 2019 في العديد من مناشير الجبهة الشّعبيّة ومداخلات نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتّحاد العام التونسي للشغل، كما حضرت حضورًا رمزيًا في بعض المظاهرات الاحتجاجيّة المنددة بغلاء الأسعار. وللحكومة نصيب في توظيف "معركة القفّة"، فقد قال يوسف الشّاهد رئيس الحكومة بأنّ "قفّة المواطن بالنّسبة إليه أهمّ من الانتخابات"، وذلك بمناسبة مداخلة ألقاها في إطار أشغال ندوة الولاة بسوسة في 15 أفريل/ نيسان 2019.

هكذا أُفرغت القفة من معانيها الأصليّة المطبخيّة الوظيفيّة، وشُحنت بدلالات سياسيّة تصف سلوك المتقرّبين إلى الحكام وخطاب المناوئين للنّظام وتفاعل الحكومات خشية تأجّج الوضع والصّدام، بيد أنّ الحَفر في تاريخ المعجم المطبخيّ التونسي واجد ابتكارات أكثر إثارة منها ما اتّصل بملابسات تسمية كلمة "نواصر".

"النواصر" وفخامة الشعب التونسي!

لا تختلف "النواصر" عن "الرشتة" في طريقة التحضير وفي المكوّنات الأساسيّة من "سْميد" وملح وماء، فكلتاهما من المعجّنات غير أنّهما تختلفان في الشّكل اختلافًا بسيطًا في ظاهره خطيرًا في نشأته ورمزيّته.

تعود أصل تسمية أكلة "نواصر" لجمع "ناصر" كناية عن النّاصر لدين الله الموحّدي

تؤكّد إحدى الرّوايات أنّ أكلة "النواصر" قد استُحدثت إبّان الدولة الموحّدية التي حكمت تونس و بلدان المغرب العربي والأندلس بين سنتي 1121 و1269. وكان النّاصر لدين الله الموحّدي، أحد أشهر خلفائها، قد تولّى الحكم في السّابعة عشر، وعُرف حسب جلّ المؤرّخين بالطّموح والاندفاع وجنون العظمة وإعراضه عن الشّورى، ومن علامات تعاليه وميله إلى التّفرّد إصراره على اعتماد عُملة شكلها مربّع ما تزال نماذج منها محفوظة في متحف العملة بشارع محمّد الخامس بتونس العاصمة.

يقول أحد المشارقة: "أنت في تونس، إذا أردت تغيير العملة أطلب الدينار وإذا أردت طبقًا لن تتذوّقه في غيرها أطلب النواصر"

هذا التّعالي السّلطاني واجهه المواطنون عامّة وسكّان بنزرت خاصّة بعبقريّة شعبيّة، فقد قلّدوا تلك العملة الفريدة بابتكار أكلة تُشبهها شكلًا، وسمّوها "نواصر" جمع "ناصر" كناية عن النّاصر لدين الله الموحّدي. وتبيح القراءة التأويليّة لنا القول إنّ هذا الاختيار الغذائيّ له طابع فنّيّ هندسيّ ينطوي على ما يمكن اعتباره ضربًا من التّحدّي يتصدّى من خلاله المواطنون لغطرسة الخليفة الموحّدي، وشعار هذا الصّمود المجتمعيّ "فخامة الشّعب التونسيّ دائمة وفخامة الحكّام زائلة". وألم تَرَ أنّ عملة النّاصر قد ولّت فلا وجود لها إلّا في المتحف والذاكرة وأكلة "النواصر" قد ظلّ سلطانها قائمًا في المطاعم والذائقة؟ ويقول أحد المشارقة "أنت في تونس، إذا أردت تغيير العملة اطلب الدينار وإذا أردت طبقًا لن تتذوّقه في غيرها اطلب النواصر".

"وذنين القاضي" سبيل العدل والعمران

تحفل كتب الطبخ في قسم الحلويّات بطرائق إعداد "وذنين القاضي"، غير أنّ الاهتمام بسرّ التّسمية وملابساتها يكاد يخفى عن الباحث وهو ما يبيح القراءة التأويليّة.

هذه القراءة تستند إلى معطيين متضافرين، أمّا المعطى الأوّل فهو شكليّ ومداره على أنّ الملاحظة البصريّة تفضي إلى اعتبار هذا النوع من الحلويّات قائمًا على تجسيم " أذن كبيرة"، غير أنّ الأمر لا ينطوي على سخرية كاريكاتوريّة، إنّما يحمل رسالة سياسية حقوقية، يتأكّد فحواها من خلال المعطى الثّاني، فإضافة كلمة "وذنين" (أذنين) إلى القاضي يجعل العبارة حمّالة لمبدأ مفاده أنّ القاضي مدعوّ إلى حسن إعمال أذنيه تحرّيًا وإنصاتًا وتحقّقا خشية إصدار أحكام متسرّعة جائرة.

تحفل كتب الطبخ التونسي في قسم الحلويّات بطرائق إعداد "وذنين القاضي" (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

هذا المقصد النبيل أي الإنصات بمنتهى التّركيز يقتضي شرطين، الأوّل أخلاقيّ قيميّ يتمثّل في إلزاميّة تحلّي القاضي بالنزاهة والحكمة والموضوعيّة والصبر، والثّاني إجرائيّ يتّصل بضرورة رفع محنة تراكم الملفات على طاولة القضاة لضمان عنصر الدقّة والإصابة وبلوغ العدل الذي عدّه ابن خلدون "أساس العمران"، فلطالما تذمّر القضاة من هذه المعضلة المضنية.

اقرأ/ي أيضًا: "عولة رمضان".. عادة تونسية تواجه الاندثار

 ومن المسائل التي طرحها العديد من المتابعين والباحثين والمحامين على سبيل المثال، عجز القضاة عن إنجاح جلّ جلسات الصلح بين الأزواج العازمين على الطلاق بسبب عدم توفير الوقت الكافي للاستماع إلى طرفي النزاع. في هذا السياق، تقول المحامية ياسمين كريشي لـ"ألترا تونس" : "قد تفقد الجلسات الصّلحيّة دورها بالنظر إلى العدد المهول لقضايا الطّلاق ممّا يضطر القاضي في بعض الأحيان إلى الإيجاز في الإنصات إلى الزوجين لا تقصيرًا أو تهاونًا منه، وإنما يعزى الأمر إلى النقص الكبير في عدد القضاة و الازدياد المتواصل لعدد قضايا الطلاق سنويًا" وذلك مع تسجيل حوالي 17 ألف قضية سنة 2017. وبناء على هذا المعطى، يمكن القول إن من فضائل "وذنين القاضي" في جلسات الاستماع المساهمة في ضمان العدل والاستقرار الأسريّ.

"الملوخيّة" والثورة على الملوكيّة

تُعرّف الملوخيّة بكونها نباتًا زراعيًا سنويًا من الفصيلة "الزّيزفونيّة" تسميتها العلميّة الدقيقة "Corchorus olitorius" (مصطفى الشهابي الباحث اللّغوي والمهندس الزراعي، معجم الألفاظ الزراعيّة، ط.3، مكتبة لبنان، بيروت 1982، ص. 184)، هذا التّعريف لا يزيد عن الإخبار غير أنّ سِرّ التّسمية وملابساتها فيه نظر وتحقيق وتأويل.

تسمّى الملوخيّة في العديد من المصادر والمراجع بـ"الملوكيّة"

تسمّى الملوخيّة في العديد من المصادر والمراجع بـ"الملوكيّة"، واللافت أنّ هذه التسمية لا تحضر فقط في كتب النباتات، إنّما تحضر كذلك في المعاجم الطبيّة وهو ما حثّ شهاب الدّين الخفاجي على تبنيّ رواية مفادها أنّ الملوخيّة "لم تكن معروفة قديمًا وحدثت بعد سنة ثلاثمائة وستّين من الهجرة، ( بعد سنة 975 ميلادي) وسببها أنّ المعزّ لدين الله الفاطمي (المولود بالمهديّة سنة 932 ميلاديًا) لمّا انتقل من إفريقيّة إلى مصر فاتحًا لم يُوافقه هواؤها، فأصابه يبس في مزاجه (توتّر) ، فدبّر له الأطبّاء علاجًا منه هذا الغذاء (الملوخيّة) فوجد له نفعًا عظيمًا... فعُوفي من مرضه، فتبرّك بها، وأكثر هو وأتباعه من أكلها وسمّوها "ملوكيّة" ( أي أكلة الملوك) فحرّفتها العامّة وقالت ملوخيَّا" ( شفاء الغليل،  طبعة القاهرة، ص. 216).

تقول إحدى الروايات أن أصل لفظ "الملوخية" هو "ملوكيّة" لأنها كانت الأكلة المفضلة للمعز لدين الله الفاطمي قبل أن تنتشر في أوساط العامة

وإن سلّمنا بصحّة هذه الرواية، قلنا إنّ طبق الملوخيّة قد تمّ تحريره من مطابخ الملوك ليتحوّل إلى أكلة مُشاعة بين عامّة الشّعب في تونس وفي مصر خاصّة وفي بلدان شمال إفريقيا عامّة، والجامع بين ملوكيّة الحكّام وملوخيّة العامّة هو دلالة التّفاؤل والتطلّع إلى الصحة والاستقرار، لذلك يحرص العديد من التونسيين على طبخ هذا الطبق في مفتتح السنة الهجرية حتّى تكون أيّامهم خضراء خُضرة الخصوبة والجمال والصّفاء.

هذه مجرّد نماذج تؤكّد هيمنة النكهة السياسيّة على المطبخ التونسيّ يمكن تعزيزها بأمثلة أخرى، فنتأكّد بذلك من أنّ شعب "إرادة الحياة" يكره الاستقالة عن الشّأن العام، فهو مجبول على توظيف كلّ المعاجم وسائر أشكال الخطاب حتى الغريزيّ منها توظيفًا سياسيًا ساخرًا أو نقديًا أو إصلاحيًا أو ثوريًا.  

هكذا يتبيّن أنّ العديد من الأكلات التونسيّة سواء كانت من الحلويّات أو المعجّنات أو غيرها تحمل دلالات سياسيّة متنوّعة يمكن إجمالها في أربع، النّقد السّاخر في كلمة "القفّة"، والتّحليّ بالرفعة والهمّة في طبق "النواصر"، والمجال الحقوقيّ في "ذنين القاضي" والنزعة الثوريّة الشعبيّة في أكلة "الملوخيّة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"مريول فضيلة".. أسطورة امرأة حاول فرنسي اغتصابها فتحوّل قميصها إلى رمز مقاومة

البريك.. الشمس التي لا تغيب عن مائدة رمضان