10-فبراير-2019

تسابق طلاب الأمس المعارضين إلى الاستقواء برموز جلاد الأمس للإطاحة ببعضهم البعض

 

مقال رأي

 

نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ فرع تونس قبل يومين لقاءً حواريًا أداره الباحث والإعلامي عادل الثابتي والباحث في تاريخ الحركة الطلابية الدكتور محمد ضيف الله مع بعض رموز الحركة الطلابية في تونس خلال ثمانينيات القرن الماضي.

رموز من مختلف أطياف السرديات الكبرى المعارضة لنظام بورقيبة، بعضهم واصل نهج الاشتباك السياسي مع منظومة السابع الفاشي اللصوصي التابع حتى ملحمة سبعطاش ديسمبر/كانون الأول والإسهام فيها، وبعضهم انقلب مناشدًا لها من موقع القوادة أو المعاضدة حتى ساعاتها الأخيرة وهي تترنح.

نجد بعضهم اليوم في مواقع السلطة وآخرون في موقع المعارضة في نظام سياسي تغير فيه الأداء ولم يتغير فيه المضمون. هو مجرد خروج من النظام الكلبتوقراطي (لصوصي/بوليسي) إلى نظام ليبرالي تابع مكتمل الملامح. رموز حركة طلابية كانوا يطرحون على أنفسهم تغيير النظام نجدهم اليوم منخرطون بالكامل في إدارته، تغير الأداء الذي أقصاهم وبقي المضمون الذي استوعبهم!

رموز حركة طلابية كانوا يطرحون على أنفسهم تغيير النظام نجدهم اليوم منخرطون بالكامل في إدارته

السؤال الذي يُطرح: ما الأسباب التي حالت دون تمكنهم من تغيير النظام وما الأسباب التي مكنت النظام من استيعابهم لإدارته؟ هل مرد ذلك وضع الفوات الفكري والمعرفي الذي ميز الأيديولوجيات التي كانوا يبشرون بها فوضعتهم في وضع القاصرين عن فهم المستجدات التي عرفها العالم من حولهم أم هي طوباوية ما كانوا يطرحون وتحميل أنفسهم مهمات ثورية تحتاج حاملًا اجتماعيًا أشد تضررًا وأشد فرزًا وقدرة على اجتراح الأساليب وتقديم التضحيات الكفيلة بالإطاحة بنظام الإذلال الاجتماعي والوطني؟

ما الأسباب التي جعلت من الملتحقين بمنظومة سبعة نوفمبر/تشرين الثاني غير قادرين على أداء أدوار فاعلة في حماية المنظومة ساعة زلزلت صرخات ديسمبر الأرض تحت أقدامها؛ وجعلت ممن واصلوا معارضة المنظومة والاشتباك معها طوال عقدين غير فاعلين في تصدر أدوار متقدمة في ملحمة سبعطاش ديسمبر وتجذيرها عوضًا عن الاكتفاء بمساندتها سياسيًا دون التورط التنظيمي في قيادتها؟

اقرأ/ي أيضًا: يسار مفاوض حزبيًا و"ثوري" نقابيًا: ما وراء الأكمة؟

هل هي أسباب موضوعية تعود إلى سياسات التضييق السلطوي والملاحقات والسجون وحظر حق التنظم والتعبئة والتعبيرفقط؛ أم هي أيضًا أعطاب نظرية أيديولوجية حالت دون فهم طبيعة منظومة سبعة نوفمبر التي نشأت في ظل تطورات عولمية متوحشة نشأت على أنقاض منظومة الثنائية القطبية التي تقاسمت هندسة العالم منذ ثورة انتصار الثورة البلشفية في روسيا؟

أم أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي هتفت به حشود ديسمبر/كانون الأول في بلدات الغبن التنموي والمعنوي المعاقَبة منذ عقود عمر الدولة الما بعد كولونيالية؛ لم يكن فقط يريد إسقاط نظام الأدوار الوظيفية (كمبرادور اقتصادي وثقافي في خدمة المحتل القديم) وإنما كان أيضًا يريد الإطاحة بالنظام المعرفي والأيديولوجي المورط في تأييد سياسات الإذلال الوطني والاستباحة المجتمعية فضلًا عن النظام المعرفي غير القادر على فهم صرخات الشعب يريد؛ الذي جعل السلطة ومعارضيها مجرد أذرع متصادمة ويستفرد بإدارة النظام والتمتع بثمراته المادية والرمزية؟

صرخات ديسمبر التي ظلت لشهور ممهورة على واجهات جدران فضاء عام لطالما ظل حكرًا على شعارات السلطة. صرخات وثقها الثائرون صوتًا وصورة مستفيدين مما وفرته العولمة من وسائل اتصال وتواصل رهيبة كسرت سيطرة السلطة على وسائل ومنابر الإعلام التقليدي، مدونات أنترنت وفيسبوك كسرت إكراهات الجغرافيا ووفرت فضاءً عامًا افتراضيًا للتعبير والتعبئة والتواصل والتنظم.

صرخات ديسمبر رفعت شعارات مواطنية اجتماعية سيادية تعبر عن المشترك الوطني بين التونسيين المنتفضين ضد منظومة التجويع والترويع لجميع ضحاياها دون تمييز

تطورات عجز النظام سلطة ومعارضة عن مواكبتها والسيطرة عليها، مما جعل من ثورة "الشعب يريد إسقاط النظام" أول ثورة في زمن العولمة أدوات وأساليبً وغايات. وهو أمر جديد لم تعهده النخب السياسية التي تهيكلت منذ عقود بغير أساليب وأدوات زمن ثورة "الشعب يريد" وحاملها الاجتماعي الأكثر تضررًا من مخططات العولمة؛ والأكثر تمكنًا من الاستفادة من أدواتها الاتصالية والتواصلية التي أرادت من خلالها إغراق الأجيال الجديدة في متع الاستهلاك الحسي فحولوها إلى أدوات مقاومة.

صرخات ديسمبر/كانون الأول رفعت شعارات مواطنية اجتماعية سيادية تعبر عن المشترك الوطني بين التونسيين المنتفضين ضد منظومة التجويع والترويع لجميع ضحاياها دون تمييز فأثمرت انتفاضًا مواطنيًا اجتماعيًا يعبر عن أشواق جميع ضحاياها. فهل ترجمته النخبة السياسية، رموز الحركة الطلابية خلال عقود سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أم أخرسته وواصلت صراعاتها القديمة القائمة على التنافي الوجودي والتسابق على الاستقواء برموز المنظومة النوفمبرية لإقصاء بعضهم البعض؟

اقرأ/ي أيضًا: هوامش.. على دفتر جدل الثورة

مثلت الخمس سنوات الأخيرة من عمر المنظومة النوفمبرية أعلى درجات الالتقاء الجبهوي بين مختلف أطياف المشهد السياسي المعارض لمنظومة سبعة نوفمبر اللصوصية الفاشية التابعة؛ عبرت عن نفسها في تحالفين سياسيين يتفاوتان في سقف أشكال ومضامين الكفاح الديموقراطي.

تحالف 18 أكتوبر/تشرين الأول الذي ضم يساريين وقوميين وإسلاميين ولبراليين اجتماعيين تميز بالنبرة الاحتجاجية العالية والمطالب الحقوقية، وتحالف المواطنة والمساواة الذي ضم أطيافًا ليبرالية اجتماعية ويسارية أساسًا وإن انفتح لاحقًا على مجموعة سياسية تنتسب إلى ما عرف باليسار الاسلامي غادرت صفوف الحزب الديمقراطي التقدمي أحد أبرز مكونات تحالف 18 أكتوبر/تشرين الأول بدعوى ارتفاع نبرته الاحتجاجية. إذ كان تحالف المواطنة والمساواة أكثر لينًا في المواجهة السياسية لمنظومة سبعة نوفمبر إذ يكتفي أحيانًا بإسداء نصائح ومقترحات وكأنها مكتب دراسات وليست تحالف أحزاب سياسية معارضة!

وقد مثلت آخر ندوة سياسية نظمتها المعارضة التونسية قبيل خمسة أيام من اندلاع انتفاضة 17 ديسمبر/كانون الأول لقاء موسعًا ضم ممثلين عن كلا التحالفين انعقد بمقر حزب التجديد بشارع الحرية يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2010 وإن لم يخل من غمز سياسي بين نهجي المواجهة اللينة والمواجهة عالية النبرة في مفردات الجملة السياسية المعتمدة. وواصلا اختلافهما البين في التعاطي مع أحداث سبعطاش ديسمبر/كانون الأول وتطوراته من حيث بيانات الإسناد أو حجم انخراط مناضليها في البلدات المنتفضة.

صِدام بلغ مداه في تسابق طلاب الأمس المعارضين إلى الاستقواء برموز جلاد الأمس للإطاحة ببعضهم البعض وإقصاء بعضهم البعض

لكن محطة 14 جانفي/كانون الثاني وما أعقبها من محطات سياسية متجذرة أو تسووية كانت قد عمقت الاستقطاب السياسي والأيديولوجي عبر استعادة القيادات لصراعات زمن الحياة الطلابية منذ عقود مضت في تنكر واضح لشعارات المشترك الوطني الذي راكموه في نصوص تحالفات ما قبل 17 ديسمبر/كانون الأول وفي تنكر واضح لشعارات المشترك الوطني التي هتفت بها حشود 17 ديسمبر/كانون الأول ووثقتها في جدران الساحات والشوارع الواقعية وجدران الأنترنت الإفتراضية!

صِدام بلغ مداه في تسابق طلاب الأمس المعارضين إلى الاستقواء برموز جلاد الأمس للإطاحة ببعضهم البعض وإقصاء بعضهم البعض! صِدام عبّر عن غربة فظيعة لنخبة يفترض أنها تتقدم صفوف شعبها تضحيات وإنارة طريق ملغومة بجرائم الاستبداد. وهو أمر طرح على ثورة "الشعب يريد" أن تشتبك مع أعدائها وأدعيائها على السواء، انتصارًا لمشترك وطني موطّنٌ في نفوس حشودها وغائبٌ في نصوص نخبها المفوّتة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل قرأت الدستور يا السبسي أم على قلوب أقفالها؟

تونس.. بلد العجائب السياسية