مقال رأي
ساعة سطت منظومة الترويع النوفمبرية على مقدرات الشعب التونسي المتراكمة على مدار عقود، وفوّتت فيها للعائلات والأنساب. عمدت أيضًا إلى تأميم ومنع كل مقومات وشروط حياة سياسية تمكّن التونسيين من حق المقاومة الاجتماعية والكفاح الديموقراطي تفعيلًا لحقهم في تدبير الشأن العام بعيدًا عن السطو الكلبتوقراطي (اللصوصي البوليسي) الذي منع مناضلي التيارات السياسية ذات المرجعيات الأيديولوجية اليسارية واللبرالية والقومية والإسلامية من حق التنظم؛ إذ اكتفت منظومة سبعة نوفمبر بتفقيص أجهزة "حزبية" معاضدة في محاضن داخليتها، كثيرًا ما زايدت على حزب الحاكم التجمعي في تبرير تسلط بن علي.
اكتفت منظومة سبعة نوفمبر بتفقيص أجهزة "حزبية" معاضدة في محاضن داخليتها، كثيرًا ما زايدت على الحزب الحاكم في تبرير تسلط بن علي
وضعٌ خانقٌ دفع المعارضين السياسيين إلى التمترس صلب المنظمات الحقوقية والاجتماعية وتحويلها إلى منصات دفاع عن المجتمع في مواجهة توحش السوق وفاشية السلطة. وقد مثلت نقابات موظفي القطاع العام والوظيفة العمومية بالاتحاد العام التونسي للشغل أهم الفضاءات التي تمترس فيها اليسار الماركسي الذي يمثل التحرر الطبقي البراديغم الأبرز في شعاراته ونضالاته مضافًا لهم لاحقًا القوميون العرب، الذين يمثل التحرر الوطني/القومي البراديغم الأبرز في شعاراتهم ونضالاتهم.
إذ ساهمت مناخات الاستبداد الخانقة، في التضييق على الحياة السياسية من تأميم للفضاء العام في وجه المعارضين، وتحويل المنظمات الحقوقية والاجتماعية إلى منصات نضال شامل كثيرًا ما تفيض عن أدوارها المنصوص عليها في قوانينها الأساسية؛ مما جعلها أهم شرايين المقاومة المواطنية الاجتماعية السيادية الممنوعة من حق التعبير والتنظم المدستريْن.
اقرأ/ي أيضًا: هل قرأت الدستور يا السبسي أم على قلوب أقفالها؟
استطاعت منظومة التجويع والترويع النوفمبرية منع تبرعم أدوات الكفاح الديموقراطي السلمي؛ لكنها لم تستطع منع الثورة عليها بل لعلها بسياسات القمع والترويع ومنع حق التعبير والتنظم قد خلقت شروط الثورة عليها بغير الأدوات الحزبية التي منعتها وقمعت مناضليها وضيقت عليهم في أسباب عيشهم وأمان عائلاتهم.
إذ تمكنت ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 من تفكيك منظومة الرعب البوليسي النوفمبري ومكنت الجميع من حق التنظم أحزابًا ومنظمات وجمعيات لكل المرجعيات والاهتمامات. لكن مناخات الحريات السياسية والعامة كشفت عن حجم التشوهات التي ألحقها الاستبداد بضحاياه ومعارضيه؛ كشفت عن حجم الاستبداد الذي تحمله الأطراف التي لطالما ناضلت ضده ودفعت الثمن غاليًا. كل طرف سياسي يزعم أنه "الفرقة الناجية" وأن الآخرين تحريف وتفريط.
وكشفت أيضًا أن التمترس في المنظمات الإجتماعية بقدر ما مكن المعارضين السياسيين من فضاء مقاوم بقدر ما أفقدها القدرة على تمثل أدوار الأحزاب السياسية اليسارية التي تنص أدبياتها على الثورة على النظام وخياراته لكننا وجدناها تسارع عشية 14 جانفي/كانون الثاني إلى المسارعة إلى وزارة داخلية النظام للحصول على تأشيرة تقنين نشاطها السياسي والخروج به من السرية إلى العلنية؛ ووجدناها تحتكم إلى فصول الدستور لسد الفراغ الذي خلفه فرار بن علي. في غير وعي أن مكاسبهم تلك فرضت فرضًا بفضل دماء الشهداء في بلدات الانتفاض الاجتماعي عبر العصور.
كشفت مناخات الحريات السياسية والعامة ما بعد الثورة عن حجم التشوهات التي ألحقها الاستبداد بضحاياه ومعارضيه
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. بلد العجائب السياسية
إذ يبدو أن عقلية التفاوض النقابي مع النظام قد تسربت إلى أحزاب ثورية في برامجها وأيديولوجياتها؛ مفاوضة قياداتها. مما جعلها أحزابًا ثورية شعارًا، مفاوضة ممارسة وتعارض النظام من داخل منطقه، أحزابًا عاجزة عن الانسجام مع شعاراتها وقواعدها؛ عاجزة عن تغيير خيارات اقتصادية تطرح على نفسها مهمة الإطاحة بها عوضًا عن الانخراط في إدارتها.
عجزٌ سياسي لم يبحث له عميقًا في أسباب انفصام أحزاب يسارية عن حاملها الاجتماعي العريض الذي يدفع باهضًا كلفة ليبرالية متوحشة عصفت به منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ساعة انخرطت منظومة 7 نوفمبر في تجريد الدولة من سلطانها الاقتصادي الكفيل بتمكينها من الوفاء بأدوارها الاجتماعية.
عجزٌ سياسي يفاقمه الاغتراب الثقافي لنخب يسارية لم تهتد بعد كون معركة التحرر الثقافي المقاوم للعنف الإبستمولوجي الغربي تجاه ثقافات الشعوب والأمم المضطهدة ليست معركة هووية لتزييف معركة التحرر الطبقي والوطني كما يهرفون، وإنما هي من جوهر هذه المعارك في مواجهة كل مخططات الاغتيال الاقتصادي والكياني والثقافي للأمم.
عجزٌ يعوضون عنه بالسطو على المنظمات الاجتماعية وتحميلها كل مهمات أحزابهم العقيمة عن الانتصار لشعاراتها. سطو كان على حساب تطوير أداء أحزابهم وعلى حساب مهمات النقابات. فالأحزاب اليسارية ثورية كنا تنص أدبياتها؛ مهمتها تغيير النظام عوضًا عن إدارته. في حين أن النقابات منصات اجتماعية مقاومة مهمتها فرض مكاسب للعمال في قلب النظام أيا كانت خياراته.
يبدو أن عقلية التفاوض النقابي مع النظام قد تسربت إلى أحزاب ثورية في برامجها وأيديولوجياتها
وهو الأمر الذي لم يتفهمه يساريون يتمترسون داخل النقابات بتحميلها مهمات ثورية من جهة ويبشرون ببديل يؤمم النقابات مطلقًا بمجرد فرض نفسه أمرًا واقعًا على الأرض لا لزوم فيه للنقابات العمالية، إذ الاشتراكية هي نهاية الاستغلال فكيف ينتظم العمال نقابيًا ولا يهم أن يجبروا على السخرة الاستعبادية كما نكل بهم ستالين!
شيزوفرينيا محيرّة؛ أحزاب بشعارات ثورية وقيادات وممارسة تفاوضية تفاقمها أيديولوجيات مُفوَّتة؛ تعوّض عن عجزها بالسطو على منصات المجتمع وتتوهم منخرطيها مناضلين حزبيين ليساريين يبحثون عن الثورة قي غير أدواتها. مما جعل المشهد مقلوبًا أحزاب "ثورية" شعارات ومفاوضة ممارسة؛ ونقابات مقاومة ترفع اللاءات الثلاث في وجه نظام تفتك منه مكاسب تفاوضًا؛ والإضراب العام أحد أشكال تفاوضها؛ أراد لها يسار العجز الحزبي أن تخوض معاركه بالوكالة ضمن أجندات قطع الطريق والتزييف الأيديولوجي الوظيفي خدمة لنظام عدو في الشعارات وخليل في الممارسات!
اقرأ/ي أيضًا: