24-يناير-2019

يتوهم السبسي سهولة الدوس على دستور 2014 (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

عندما يُسأل الشعب التونسي؛ ماذا تعرف عن رئيس بلدكم الباجي قايد السبسي؟ يجيب التونسيون: هو أحد بقايا نظام البايات في تونس؛ خدم البايات والاحتلال الفرنسي ونظام بورقيبة ومنظومة سبعة نوفمبر، التي دفعوا ثمنًا باهضًا لخلخلتها وطرد زعيمها إلى رمال الظهران.

ويجيبون أيضًا؛ ارتبط اسمه بمعتقل "صباط الظلام" بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة أين كان الحبيب بورقيبة يعذب رفاق دربه في الحركة الوطنية الذين رفضوا بروتوكول 20 مارس/آذار 1956 التفريطي (جناح الزعيم صالح بن يوسف الأمانة العامة للحزب الحر الدستوري). إذ كان الباجي قايد السبسي كبير مسؤولي وزارة داخلية دولة الرعب البورقيبي.

ويقولون أيضًا: ارتبط اسم الباجي قايد السبسي بالمجموعة الديموقراطية التي خرجت عن "الحزب الدستوري" ساعة حوّله بورقيبة من حزب حاكم إلى مجرد حزب للحاكم ناشده في منتصف سبعينيات القرن الماضي لإعلان نفسه رئيسًا مدى الحياة، وقد تسمّت تلك المجموعة بـ "حركة الديموقراطيين الاشتراكيين" بزعامة أحمد المستيري؛ لكن السبسي سرعان ما غادرها وعاد إلى حضن بورقيبة.

ارتبط اسم الباجي قايد السبسي بمعتقل "صباط الظلام" بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة أين كان الحبيب بورقيبة يعذب رفاق دربه في الحركة الوطنية

لكنه ساعة انقلب وزير داخلية بورقيبة زين العابدين بن علي على بورقيبة، انحاز قايد السبسي إلى جوقة من أطلقوا عليه لقب "صانع التغيير" بديلًا عن لقب "المجاهد الأكبر" الذي أطلقوه لثلاثة عقود على الرئيس مدى الحياة الحبيب بورقيبة. وقد تقلد السبسي بموجب ذلك رئاسة أول مجلس نواب في "العهد الجديد" الذي أطلقوه على الزمن النوفمبري. وغاب بعدها قايد السبسي عن المشهد السياسي متفرغًا لمشروعاته الخاصة. ليظهر مجددًا بعيد إطاحة ثورة الشعب يريد إسقاط النظام بـ"صانع التغيير".

إذ عرفت البلاد مباشرة بعيد 14 جانفي/كانون الثاني أكبر اعتصامين نفذهما شباب بلدات سبعطاش ديسمبر خصوصًا من بوزيان وتالة والحامة لتلتحق بهم لاحقًا وفود من العاصمة وسائر الولايات لوضع حد للالتفاف الذي حصل يوم 14 جانفي/كانون الثاني على تضحيات البلدات الثائرة والاكتفاء بسد شغور منصب الرئيس. حيث نصب شباب الثورة خيامهم (بيوت الشَّعَر) برمزيتها المكثفة المُحِلية على أكبر انتفاضات القبائل عام 1864 على نظام المجبى الجائر الذي فرضه البايات على القبائل. لكن أحفادهم قادة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 أتت شعاراتهم هذه المرة، وقودها الذاكرة الجماعية الجريحة ومطالبها: "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"شغل حرية كرامة وطنية". ومثلما أطاح أجدادهم بدستور 1861 (الدستور المتروك) فقد أطاح الأحفاد بدستور 1959 الذي عبث به بورقيبة وبن علي وجرّداه من كل مضامين تقييد الحكام.

اقرأ/ي أيضًا: الإضراب العام يهدد الوحدة الوطنية أم يكرسها؟!

ظهر الباجي قايد السبسي مجددًا عقب اعتصامي القصبة مكلفًا بمهمة وزير أول للبلاد مؤقتًا من ربيع 2011 استعدادًا لانتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام التي تُعد أول انتخابات ديموقراطية بعد عقود طويلة من محافل التكاذب الانتخابوي، وصعد بموجبها مشهد سياسي حاكم من رحم معارضي بورقيبة وبن علي. وتخلى الباجي قائد السبسي عن منصب الوزارة بموجب ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2011.

وقد ظهر الباجي لاحقًا في برنامج فضائية الجزيرة الشهير "شاهد على العصر" ساعة اعترف أمام أحمد منصور بمشاركته في تزييف الانتخابات زمن بورقيبة. وتزعم لاحقًا حملة الإطاحة بحكومة الترويكا التي أفرزتها انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011. إذ استفاد من مناخ الحريات السياسية الذي فرضته الثورة وأسس حزبًا أسماه "نداء تونس" رسكل فيه رجال أعمال ونخب الزمن النوفمبري المرعوبين من المحاسبة؛ ورفع شعار إقامة توازن سياسي في البلاد بتصدى لـ"حزب النهضة" وكأن المشهد السياسي ساعتها خاليًا من أحزاب وجبهات سياسية قومية ويسارية ولبرالية.

وقاد ما عُرف باعتصام الرحيل متحالفًا مع الجبهة الشعبية "اليسارية" عقب اغتيال اثنين من رموزها وناصرته للفوز في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2014 التي أعادته إلى قصر قرطاج، وحاز حزبه على أغلبية بقصر باردو مكنته من تعيين رئاسة قصر الحكومة بالقصبة. وساعتها بدأ اختبار مدى التزام السبسي بجوهر دستور 27 جانفي/كانون الثاني 2014 الذي نص على توزيع السلطة بين الرئاسة والبرلمان تقييدًا للاستبداد. 

فوجئ التونسيون برئيسهم يصر على استقبال فلول حزبه المنفلق على قاعدة الصراع على الغنيمة 

لكن التونسيين فوجئوا برئيسهم يصر على استقبال فلول حزبه المنفلق على قاعدة الصراع على الغنيمة والاختلاف حول الموقف من تحالف الباجي قايد السبسي مع حركة النهضة التي وصل وحزبه إلى السلطة تحت شعار إزاحتها من السلطة؛ مخالفًا مبدأ الحياد السياسي الذي يفرضه الدستور حتى يكون ساكن قرطاج رئيسًا لكل التونسيين.

وفوجئوا به يسعى لتجريد رئيس الحكومة من صلاحياته المدسترة ومعاملته باعتباره وزيرًا أول لديه كما زمني بورقيبة وبن علي. وفوجئوا به أيضًا ينتحل لنفسه وقصره صلاحيات أوسع مما منحه له دستور 2014. مما ذكّرهم بعبارته الشهيرة ساعة تقلد رئاسة الحكومة المؤقتة في ربيع 2011 عقب اعتصاميْ القصبة؛ وقد تنكر لصلاحيات "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" وصرخ في وجوه أعضائها "نحكم وحدي!".

ولم يكفّ الباجي قايد السبسي عن السلوك السياسي الرئاسوي عند كل أزمة سياسية بتعمّده إلغاء أدوار البرلمان واسع الصلاحيات دستوريًا؛ محوّلًا قصر قرطاج إلى مجلس موازي يعقد التحالفات ويفرض مشاريع القوانين ويشكل حكومات بغير الموازين السياسية الحزبية في البرلمان.

حوّل السبسي قصر قرطاج إلى مجلس موازي يعقد التحالفات ويفرض مشاريع القوانين ويشكل حكومات بغير الموازين السياسية الحزبية في البرلمان

حتى أنه خلال الشهور الأخيرة ساعة تمسك يوسف الشاهد بصلاحيات رئيس الحكومة التي يمكنه منها دستور 2014، أصبح يعقد التحالفات للإطاحة برئيس حكومة هو من عيّنه من صلب حزبه وعائلته بديلًا لرئيس حكومة سابق هو من عيّنه أيضًا من نفس المنظومة القديمة. كما فوجئ به التونسيون يفتح ملفات سياسية لشريكته في الحكم حركة النهضة فقط عندما فكّا ارتباط تحالفهما الحاكم.

وهو ما أطلق حملة امتعاض مواطني واسع مسلّح بمنبر الفيسبوك الذي يوفر كل خدمات التواصل والتفاعل صوتًا وصورة لجر قايد السبسي إلى مربع دستور يبدو أن الباجي رجل القانون (محامي) لم يقرأه؛ أو يتوهم سهولة الدوس عليه كما فعل بورقيبة الذي أصبح يشتبه به بشكل كاريكاتوري ظنًا منه أن الشعب التونسي مجرد غبار بشري كما وصمه بورقيبة في ستينيات القرن الماضي لتبرير دوس دستور 1959. 

يبدو أن السبسي خانه السمع لتقدم العمر فلم يسمع هدير 17 ديسمبر/كانون الأول "الشعب يريد إسقاط النظام". وهو يعيش زمانًا غير زمانه، فالسبسي رئيسًا لتونس الثائرة هو مجرد تعبير عن زمن ثوري مرتبك عبر عنه غرامشي بعبارة: "أسوأ لحظات الثورة سوءًا هي التي لم يمت فيها القديم بعد ولم يولد فيها الجديد بعد".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بين الشاهد واتحاد الشغل: أي مآلات لحرب الاستنزاف؟

هوامش.. على دفتر جدل الثورة