25-مايو-2022
معهد بلعيد

صورة لتلاميذ بأحد المعاهد النموذجية ببنزرت سنة 2017 (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

عادة ما تجرفنا الصورة الفوتوغرافية إلى نداءات الذاكرة فتعيدنا إلى الحياة التي اخترنا استعادتها بإرادتنا من جملة حيوات أخرى سابقة لا ندري كيف مرّت من بين أصابعنا "لقد كانت كالماء تجري، لم نقف لها على وقفة قط" وذلك ضمن عملية ذهنية ونفسية معقّدة،  ليس لها من همّ سوى البحث عن السّرد الكامن تحت رماد البيكسال المؤثث لورقة الصورة واستحضار القصص والحكايا التي تغمر الوجوه والأمكنة التي سكنّا ووقفنا ذات زمن، وهو الذي يسمّيه الناقد السينمائي "جون بيار إسكنازي" في محاولة منه لتحديد مفهوم "المنظور" واستخراج ماهية السّرد منه وتبيُّن خصائص تشكّله "بواسطة الصيغة الثانية التي يقوم  بها العقل عند تنظيمه المعلومات المتأتية من الصورة الفوتوغرافية عند مشاهدته لها بعد انقضاء زمن التقاطها".

فنحن عندما نتوقف عند الصورة وننظر إليها بعين القلب لوحدها يتناهى إلينا نبض الكون الذي يخفق داخلها والذي سرعان ما يتحول إلى هدير غريب وآسر في نفس الوقت فينضج الشعر لتوّه في أفران النوستالجيا، كما ينضج المشمش مع أصائل الربيع وينبت الحب في الأكف حقولًا من القمح تخاتل المدى البعيد وتمرّ إلى المجهول.

في تونس ومع حلول شهر ماي من كل سنة تزهر الصور الفوتوغرافية في الجنبات المدرسية تمامًا كما يزهر "المرغريت" البرّي على ضفاف أودية الشمال البعيدة مُنبئة بنهاية العام الدراسي

بعيدًا عن التنميط التي يتلبّس أحيانًا بالصورة الفوتوغرافية أو المنظور الذي شكلته لنا الكاميرا وحفظته على الورق وحصرها في البصرية السمجة المترعة بالسطحية، فإن الإبصار فنّ وأمر جلل يرقى إلى مصاف الفهم والإدراك والمعرفة وقد يتداخلا في بعض الأحيان إلى حدّ التبئير وذلك حسب ما ذهب إليه الناقد الأدبي "بوريس أسبينسكي"  وهو في حقيقة الأمر ما وجب التعاطي مع عندما نكون في حضرة الصورة الفوتوغرافية فنخلص بالضرورة بعد تحديد الزمان والمكان إلى ذاك العمق الفني أو الإيديولوجي أو نذهب إلى مربع القيم وتحديد مساحات السرد وترتيب الشخوص واستنطاق الاجتماعي والسياسي والأنثروبولوجي الكامن بين ضلال البيكسال.

في تونس ومع حلول شهر ماي/أيار من كل سنة تزهر الصور الفوتوغرافية في الجنبات المدرسية تمامًا كما يزهر "المرغريت" البرّي على ضفاف أودية الشمال البعيدة مُنبئة بنهاية العام الدراسي. إنها أصابع سحرية تلتقط صخبنا ونجوانا وخططنا الطفولية المشوقة وضحكاتنا المجلجلة ولمعات العيون الشاردة وتلك الأحزان الصغيرة وخفقات القلوب التي جرّبت الحب لأول مرة. وتخزّنها على هواها في بضع آلاف من البيكسالات وتُوقف الزمن هنيهة ليعدل من ياقته ويبتسم في وجه التاريخ الشخصي لكل واحد منا.

في سبعينات القرن العشرين، كان المصورون التونسيون يحملون كاميرات كوداك على ظهورهم ويجوبون مدارس القرى والأرياف بحثًا عن بعض الرزق  لا يدركون أنهم بذلك يسهمون في صناعة التاريخ الاجتماعي والمدرسي لمجتمعاتهم المحلية

في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، كان المصورون التونسيون يحملون كاميرات كوداك على ظهورهم ويجوبون القرى والأرياف التونسية تحت سياط القيظ والحرّ، تملأ خياشيمهم رائحة الحقول والبيادر، بحثًا عن بعض الرزق من وراء طرشقات آلات التصوير لكنهم لا يدركون أنهم بذلك يسهمون في صناعة التاريخ الاجتماعي والمدرسي لمجتمعاتهم المحلية ويؤسسون في ذات الوقت لذاكرة الأجيال.

يدخلون المدارس فيصنعون الحدث فيهدمون روتينها اليومي، يبدون ككائنات غريبة وهم يرتّبون الصّفوف من أجل التقاط صورة نهاية السنة الدراسية. عندما نعود إلى صور تلك الحقب نلمح أن التلاميذ تملأ عيونهم دهشة غريبة ممزوجة ببهارات الانبهار والتوجّس والخوف وهم يراقبون العملية العجيبة التي تتركب عادة من جدار مستطيل لإحدى قاعات التدريس ولحاف أبيض يوضع في الخلف وطاولات خشبية وبعض الانتباه إلى المصوّر يغلّفه صمت مشوب بعفوية أبناء الريف... تلك الصور الكنوز، ترى أين توجد؟ من يحتفظ بها إلى اليوم؟ ومن يستنطقها؟

في المدينة، الأمر يبدو مختلفًا إذ تشوبه أجواء كرنفالية، ففي مدارس تونس العاصمة والمدن التونسية الكبرى تضبط مواعيد بعينها لالتقاط صورة نهاية العام الدراسي فيتأنق التلاميذ ليوم الصورة لأن القبض على لحظة هي تلخيص مكثف لسنة دراسية بأكملها يملؤها الصخب والهرج والمرج والضحك والدموع والخوف من معلمي ذاك الزمان. يأتي المصور في اليوم الموعود مع "صانعه" (مساعده) فتبدأ حصص التصوير التي تمتد ليوم أو يومين وحتى ثلاثة أيام.

إن لصورة نهاية السنة الدراسة طعمًا آخر مختلفًا تمامًا عن باقي الصور الشخصية في علاقة بأحداث اجتماعية أخرى، إنها ذاك التفجّر الآتي إلينا من الأبعاد القصية للحياة المدرسية

تتعالى في سماء المدرسة أصوات القرصات المتتالية على آلة التصوير السوداء وطرشقات الفلاش وهو يومض أمام الجموع المتراصة أمام المصور المحترف، فيركب التلاميذ غمار حقيقة أخرى هي حقيقة الصورة الفوتوغرافية. وبعد أسبوع أو أسبوعين يتحصل كل تلميذ على صورته الخاصة فيتمكّن حينها من حمل قسمه وأترابه وما حفّ به من أحداث في محفظته ومن ثمة إلى وجدانه. توضع الصورة في الألبوم العائلي أو الألبوم الشخصي لتنام متوسدة السنين والأيام لكنها لن تفقد توهجها أبدًا... لقد تعتّقت وتحولت إلى نبيذ للنوستالجيا.              

إن لصورة نهاية السنة الدراسة طعمًا آخر مختلفًا تمامًا عن باقي الصور الشخصية في علاقة بأحداث اجتماعية أخرى، إنها ذاك التفجّر الآتي إلينا من الأبعاد القصية للحياة المدرسية، إنها هذا الهيام باللاّنهائي.

صورة نهاية العام الدراسي تنضج مع حبات التوت ومع قصص الحب فتختلط المعرفة بالمشاعر الإنسانية الجياشة، لقد حافظت هذه الصورة على نفس المكانة ونفس الدور لعقود. وحتى مع الثورة الاتصالية التي جعلت العالم قرية صغيرة ونشوء شبكات التواصل الاجتماعي تعززت صورة نهاية العام الدراسي فأصبحت بفضل قوة البيكسال أبهى وأجمل وأنقى.

نظرة التلاميذ اليوم لصورة نهاية العام الدراسي لم تتغير، نفس الانبهار ونفس الخوف ونفس الدهشة. لكن لم يعد المصور يجمل الكوداك ويتنقل للمدرسة بل حلّت محلّه الهواتف الذكية، لقد تغير الزمان لكن المشاعر الإنسانية لم تتغير

نظرة التلاميذ اليوم لصورة نهاية العام الدراسي لم تتغير، فالإنسان هو الإنسان، نفس الانبهار ونفس الخوف ونفس الأحزان ونفس الدهشة. لم يعد المصور يجمل الكوداك ويتنقل إلى المدرسة بل حلّت محلّه الهواتف الذكية والمتطورة. لقد تغير الزمان لكن المشاعر الإنسانية لم تتغير.

هذه الأيام ومع نهاية العام الدراسي آلاف الصور تلتقط يوميًا، تخزّن في شرائح بدل الألبومات الورقية وترسل على جناح السرعة وتنشر على صفحات القدماء في لمح البصر.

إنها الصور الأقرب إلينا اليوم وغدًا، إننا نعاود من خلالها اكتشاف أنفسنا وأجسادنا ووجوهنا وفعل الزمن على ملامحنا، إنها أيقونات اجتماعية وجمالية يمكن التحدث إليها. أَوَليس زملاء الدراسة كيانات ضاجة بالسرّد والقصص التي تقولها وجوههم ونظراتهم وكتم ابتساماتهم التي يلتقطها المصور فتزداد الصورة الفتوغرافية بهاء وروعة؟

عندما نضع أمامنا مجموعة من الصور الفوتوغرافية الخاصة بنهايات أعوام دراسية متتالية أو مختلفة، فإن الخط الزمني ينكسر تلقائيًا وتنتفي التعاقبية التي تبقى ثابتة في الصور الخاصة بأحداث أخرى فيتزاحم السرد أمام ناظرينا حتى تجدنا نبتسم أو نعبس هكذا من فرط الذكرى وطفح الأحداث القديمة فجأة على سطح المنظور. فقد نتحول إلى سيميائيين من دون علم. وهنا لا نختلف كثيرًا مع الجامعي والناقد التونسي المختص في السينما والصورة الأستاذ الهادي خليل الذي قال في كتابه "رمية النرد": "عندما أدقق النّظر في هذه الصورة المبهرة يتراءى لي أن جذوة جاذبيتها لا تكمن في خصوصيات الألبسة وسمات المكان وإنما أساسًا في نظرات التلاميذ... هذه الصورة قطاف لا مثيل له من النظرات، منها الغائمة الحالمة ومنها العنيدة الحازمة. هي نظرات دقيقة ومفعمة بالمعاني والتطلعات وكأن كل تلميذ يريد من خلال نظرته أو وقفته نحت شخصية مستقلّة، كأن كل تلميذ يقول من خلال نظرته ها أنا ذا.. الإنسان الحُرّ".

تنخرط الصورة الفوتوغرافية الخاصة بنهاية العام الدراسي بنتيجة التعتيق في سياقات نفسية وجمالية وتاريخية للمجتمع التونسي وكل مجموعة من البيكسالات المشكلّة لأديم الصورة وماهيتها الفنية هي لوحة تنهض بذاتها

الصور الفوتوغرافية الخاصة بنهاية العام الدراسي تملأ هذه الأيام فيسبوك وإنستغرام وتيك توك وسناب شات وهي الأكثر استعمالًا في تونس في السنوات الأخيرة... تسجل قدر الإمكان دفء الرفقة المدرسية فنجد التلاميذ فرادى ومجموعات داخل القسم وخارجه ومع المعلمين والأساتذة والقيمين والعملة، هذه السنة شهدت مواقع التواصل الاجتماعي زحمة صور على غير عادة السنوات السابقة "إنه العَودُ إلى المدرسة"، إلى مربّع القيم ومنبت الأحلام. في لحظات ما فقدت المدرسة التونسية بريقها وتفكك كل معنى داخلها لأسباب عديدة، لكن عندما نرى ذاك الاعتزاز المنثور مع الصور تعود إلى المجتمع بعض الطمأنينة التي فقدها بخصوص المدرسة تلك المؤسسة المجتمعية العليا.

تنخرط الصورة الفوتوغرافية الخاصة بنهاية العام الدراسي بنتيجة التعتيق في سياقات نفسية وجمالية وتاريخية للمجتمع التونسي وكل مجموعة من البيكسالات المشكلّة لأديم الصورة وماهيتها الفنية هي لوحة تنهض بذاتها، يمكن تنزيلها ضمن التيار التعبيري القابل للتأويل والتفكيك والتركيب من جديد.

في الصور الفوتوغرافية الملتقطة عبر المسارات الدراسية وداخل حرم المدرسة، نلحظ أن هناك صلات عضوية بينها قد تحولها إلى شريط حياة بكل ما تحمل الحياة من زخم، فطوبي لمن حافظ ولو على صورة واحدة من رحلته المدرسية إنها أمتن وأجمل من سبيكة الذهب.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"