مقال رأي
لا يحتاج الأمر الذي نخوض فيه اليوم أكثر من اشتغال الذاكرة لاسترجاع شرائط عشرات البرامج التلفزية على الشاشات التونسية، لإدراك أن ما نتعرض له لا يمت بصلة للإنتاج الصحفي الرصين الباحث عن إنارة المتقبلين بمضامين ذات جودة، بل إما حفلة من الهرج أو جلسات من التلاسن أو مسرح لتقسيم الأدوار وتصدير الآراء المعلّبة وضبط المواقف الجاهزة.
لقد تحولت المهمة الإعلامية من امتحان للبحث عن الحقيقة وإيضاح الملتبس والغامض إلى حرب شاملة ضد الوقت والسرعة والمنافسين
اقرأ/ي أيضًا: المحتوى الإعلامي الموجّه للأطفال.. ماهي الخطوط الحمراء؟
على نحو يثير الاستغراب وضرورة القلق إزاء الوضع العام للإعلام التونسي، انطلق الموسم التلفزي هذه السنة على وقع معركة مبتذلة بين قناتين تلفزيتين، تجاذبتا البرامج وحقوق البث ليحتكما في النهاية إلى إعادة تدوير ذات البرامج وليثبتا مرة أخرى رداءة ما نجلس أمامه أربعة وعشرين ساعة، ذلك أن سباق الأوديمات (مدى إقبال الجمهور) يتغلب على أية استحقاقات أخرى.
هذا المثال الذي ظلّ يعيد نفسه سنوات بلا كلل سواء من القائمين عليه أو المتقبلين له، يثبت من جديد نظرية الانتشار الدائري للمعلومة وأن الاختيارات في شاشاتنا هي اختيارات بلا موضوع، اختيارات قائمة على من "يمسخر" القناة الأخرى عبر بث مسخرة أشد حمقًا وإسفافًا.
لقد تحولت المهمة الإعلامية من امتحان للبحث عن الحقيقة وإيضاح الملتبس والغامض إلى حرب شاملة ضد الوقت والسرعة والمنافسين، حتى غدت ديكورات البلاتوهات التلفزية عبارة عن صالات شاي أو محلات للوجبات السريعة "fast food"، كراس طويلة، مقدمون واقفون وعشرات المواضيع لبضعة ضيوف وهي صورة رمزية لاكتساح "التفكير السريع fast thinking" للمشهد الإعلامي.
المريب في الأمر هو علمنا بقدرة المعلومة على اشتغال دور الحقن أو الرصاص، فعندما يتم توظيف معلّقين "des chroniqueurs" يشتغلون كمفكّرين سريعين "fast thinkers" بحيث يخاطبون الجمهور صباحًا، ومساء ويدلون بدلوهم في كل شيء قبل الخبر وبعده ويعلّقون على الحدث قبل انتهائه، ولا يكاد يكون لهم في النهاية وقت للتفكير، فحريّ بنا أن نتساءل عن طبيعتهم ونزاهة ما يقدمونه.
إن هؤلاء هم عبارة عن طباخين على السريع، وهنا نستسمح بورديو في التلاعب بعبارته (مفكرون سريعون)، ذلك أنهم يعيدون استخدام ذات الخطاب والأفكار والاعتقادات وإسقاطها على سياقات ومواضيع ومستجدات ووقائع مختلفة تمامًا بمرجعيات هي نفسها، تنطلق من التعليق من خلال الأفكار الشائعة والسائدة.
أداة قيس قيمة أية مادة إعلامية تلفزية ونباهة أي معلّق أو مقدم صارت مرتبطة بقيمته التجارية التسويقية
وفي برنامج يومي شامل، تواضب مقدمة البرنامج على استخدام عبارات "يقولون ويشاع ويُسمع ورأينا وقرأنا" أمام معلّقين أُجراء لدى القناة يقرؤون الإجابات من الورقة، بحيث يعاد عرض ما هو شائع ومشترك ومبتذل وما يتم الاتفاق عليه والقبول به، ليؤصلوا لإعلام آني لحظي وظاهري لا يحتكم لأي عمق أو نقد.
ثم إن هؤلاء المعلقين هم عبارة عن صحفيين مشهورين صاروا ينتدبون بأجور ضخمة وفي "ميركاتوات" صاخبة يجمعون فيها بين الصحيفة والراديو والتلفاز، فهم معيّنون لمجرد استعدادهم لتبني توجهات القناة الأخرى أو للعب ورقة ضد الطرف الآخر أو لخدمة برنامج لصالح تلك الجهة، فهم الأكثر قابلية للخضوع "دون أوهام أو تساؤلات حول ما ينتظره الجمهور" وما يفيده.
ولأن الشاشة في تونس كما في غيرها، صاحبة الجاه ومانحة السحر لمن يحتلون مكانة فيها، فإن منطلق النجاح فيها هو الشهرة ونجاح مهمتها محكوم باللهاث المحموم وراء الأوديمات باعتبار أن من يُشاهد أكثر يتفوق وينجح، وبالتالي فإن أداة قيس قيمة أية مادة إعلامية تلفزية ونباهة أي معلّق أو مقدم مرتبطة بقيمته التجارية التسويقية، والأمثلة هنا لا يمكن حصرها عن وجوه تصدّرت الشاشات لمجرد امتلاكها جحافل من الأتباع على منصات التواصل الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: حين تطبّع وسائل الإعلام التونسية مع الذكورية..
إننا في حاجة اليوم إلى هدم البناء الفوضوي التلفزيوني في مشهدنا الهش أساسًا عبر تهميش لرموز تدمير الفكر وتسطيح الوعي
يقول بيير بورديو " في السابق كان الكُتّاب المعترف بهم من الكتاب، والفنانون من الفنانين، أما من يعترف بهم بالشهرة فهم مصدر ريبة"، ورغم ذلك فقد صار معيار النجاح يقاس تجاريًا وبتلك المؤسسة الشهيرة "best sellers"، وبالتالي فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في هؤلاء الذين ظهروا فجأة واستمدّوا شرعيتهم وفق منطق مغلوط وغير بريء بالمرة.
كلما ساد المنطق التجاري فإن التفكير المرتهن للربح يستغول أكثر، في حياد تام عن الاستقلالية وانحياز أشد نحو التوظيف والتموقع، وهو ما ينسحب على ما نشهده اليوم من سقوط المحتوى الإعلامي التونسي في الضحالة والانقطاع التام عن الإنتاج الثقافي وخدمة المصلحة العامة.
كفكرة عامة ينبغي أن ننتبه إلى أن التعليق الصحفي الذي ينتظر منه النقد والتمحيص والاستدلال، في أمس الحاجة إلى التخلص من معوقات الفكر ومسببات العطالة الفكرية وهي السرعة والانحياز والتفكير من خلال الأفكار المسبقة وإغفال النقد، لذلك فإننا في حاجة اليوم إلى هدم البناء الفوضوي التلفزيوني في مشهدنا الهش أساسًا، عبر تهميش - محمود في هذا السياق- لرموز تدمير الفكر وتسطيح الوعي.
اقرأ/ي أيضًا: