29-مايو-2023
أردوغان

في الحالتين التركيّة والتونسيّة يتأكّد "الإسلام السياسي" شرطًا أساسيًا في بناء الديمقراطيّة (آدم ألتان/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

الغرب ليس واحدًا بلا شكّ، هو متعدد بتعدد ألسنته وثقافاته، لكن النزوع إلى الهيمنة مثّل أحد ثوابته مثل كل حضارة ناهضة توفرت لها أسباب التمدد خارج حدودها. وهي حقيقة تأكدت مع "الظاهرة الاستعمارية" الحديثة، وتوطّدت بعد الحربين العالميتين ببسط النموذج الغربي وما يؤسسه نظام عالمي مهيمن جديد. 

ولئن مثّل سقوط جدار برلين، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، وانتفاضات الحرية في أوروبا الشرقية تصدّعًا عميقًا في هذا "النظام العالمي" ومواثيقه الدولية، وهزة قوية للنظام الرأسمالي بشقيه الليبرالي (رأسماليّة المجتمع) والاشتراكي (رأسمالية الدولة)، فقد مثلت ثورة الحرية والكرامة انطلاقة لما نسميه ثورة الألفيّة الثالثة (الثورة التونسية) منعطفًا نحو بناء علاقة جديدة بين السياسة والسوق. وفي هذا المعنى تردّد شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" في "وول ستريت" مركز رأسمال العالمي ونظامه. 

يعيش العالم تحت تأثير صراع بين عالم قديم يأمل في إعادة بناء نفسه على ضوء متغيرات يجتهد في إخضاعها لرؤيته، وعالم جديد غير واضح المعالم ولكن يٌؤمل أن يكون أكثر عدلًا وأوثق بالقيم الإنسانية

ولا يعني البتة رفع هذا الشعار سقوط نظام وقيام آخر بقدر ماهو تعبير عن ارتسام اتجاه عام في التاريخ على صلة بأزمة الدولة والديمقراطية وبأمل بناء ديمقراطية مشروطة بالحرية على أنقاض ديمقراطية ما تزال مشروطة بالاستعمار والهيمنة.

وما يعيشه العالم ومنه مجالنا العربي الإسلامي واقع تحت تأثير هذا الصراع بين عالم قديم يأمل في إعادة بناء نفسه على ضوء متغيرات يجتهد في إخضاعها لرؤيته، وما يرتبط بها من نماذج في الانتظام السياسي والعلاقات الدولية وعالم جديد غير واضح المعالم ولكن يٌؤمل أن يكون أكثر عدلاً وأوثق بالقيم الإنسانية.

 

  • انحياز هووي  

كان الرئيس الأمريكي بايدن وهو يتحدّث عن الانتخابات التركيّة قبل أيّام من الدور الأوّل يأمل في التخلّص من "الدكتاتور" ويعني أردوغان وذلك في إشارة إلى ما شاع في استطلاعات الرأي مِن تقدُّم مرشّح المعارضة كمال كليجدار أوغلو وتحالفه. وكان هذا هو الموقف العام لأوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وقد انعكس في تصريحات القادة السياسيين وفي الإعلام ووسائل التواصل. 

وبعد الدور الأول، والانتصار التاريخي لأردوغان وتحالفه ولا سيما انتصاره في الانتخابات التشريعيّة، فتَرت أصوات الأوروبيين والأمريكان وانكسرت لهجتهم. ففي الإعلام الفرنسيّ تواترت جملة "أردوغان الرجل الذي لا يُقهر" في عناوين الصحف ونشرات الأخبار.

وأمّا الرئيس الأمريكي بايدن فقد علّق بتكاسل يائس على مآلات انتخابات تركيا وهي تستعدّ للدور الثاني بأنّه "ليس معنيًّا كثيرًا بمن فاز وبمن خسر". وفي ذلك تسليم بفوز أردوغان بالرئاسة في الدور الثاني قبل فوزه الرسمي. 

ومع انتصار أردوغان في الدور الثاني وتفويضه لقيادة تركيا خمس سنوات، لم يكن أمام الرئيس الأمريكي غير "تهنئة أردوغان بفوزه في الانتخابات وبنيله ثقة الشعب التركي".

بالنظر لموقف الغرب من تركيا ومحيطها الإسلامي يمكن رصد غلبة المقاربة الهووية في العلاقة بتركيا ومشهدها الانتخابي على التحليل السياسي الواقعي، وكأنّهم لا يرون في أردوغان سوى "محمد الفاتح" الذي لا يسعفهم بنسيان وجه تركيا الإسلامي

وفي كلّ الأحوال، يمكن رصد بعدين في موقف الغرب من تركيا ومحيطها الإسلامي: 

ـ غلبة المقاربة الهووية في العلاقة بتركيا ومشهدها الانتخابي على التحليل السياسي الواقعي، وكأنّهم لا يرون في أردوغان سوى "محمد الفاتح" الذي لا يسعفهم بنسيان وجه تركيا الإسلامي، فتكون الانتخابات التي لا تنتهي بإزاحته نَكْءًا لجرح "فتح القسطنطينيّة". وهو الجرح الذي لم يندمل. وهذا ما جعل من عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي معلّقة ومشروطة بعلاقتها بمسافة نقدية من ثقافة تركيا وتاريخها الشرقي. وهي البلد المنشطر جغرافيًا بين قارّتي أوروبا وآسيا. وقد كان الاتحاد الأوروبي يشترط على تركيا "الكمالية" الراغبة في الانضمام إلى المعسكر الاقتصادي الأوروبي تقدمًا على طريق الديمقراطية وتقليص سلطة العسكر والخروج من انقلاباتها الدورية على نتائج كل انتخابات لتفرز موالين لها.  

ولكن عندما استقرت الديمقراطية على يد حزب العدالة والتنمية برز وجه تركيا الثقافي عقبة جديدة. "فكيف لدولة إسلامية أن تصبح عضوًا في ناد مسيحي؟"  هذا ما صرّح به زعماء في الاتحاد الأوروبي أمام إلحاح تركيا على تأكيد هويتها الأوروبية اقتصاديًا واستراتيجيًا.

نلاحظ ضمور الثقافة الديمقراطيّة في الموقف من تركيا وانتخاباتها بل إنّ النظام السياسي الديمقراطي ومستقبله ليسا أولويّة أوروبيّة أمريكيّة

ـ ضمور الثقافة الديمقراطيّة في الموقف من تركيا وانتخاباتها. بل إنّ النظام السياسي الديمقراطي ومستقبله ليسا أولويّة أوروبيّة أمريكيّة. محاولة الانقلاب الفاشلة في ماي/أيار 2016 التي تورطت فيها أكثر من جهة على صلة باستراتيجيات هيمنيّة معلومة تتخذ من دعم الديمقراطية عنوانًا وتنأى عنه سياسةً.

 

  • إنكار متواصل 

الأوروبيون والأمريكان لا يريدون التسليم بحقيقة يشهد بها تاريخ تركيا الحديث وحاضرها وهي أنّ "الكماليّة" أسست الدولة الوطنيّة و"الأردوغانيّة" أسست الدولة الديمقراطيّة. مرحلتان كبريان في تاريخ تركيا السياسي. 

ولهم الموقف نفسه من المسار الذي تعرفه تونس، مسار بناء الديمقراطيّة الذي كان انطلق مع الثورة. فلم يتبنّوا هذا المسار ولم يتحمسوا لدعمه بقدر ما كانت منهم مرافقة حذرة ترقب "أداء الإسلاميين"، وهي تعرف وزنهم السياسي والشعبي، وترفد دور حلفائها الطبيعيين من "الحداثيين" و"النمط المجتمعي التونسي"، فهُم الأولى ببناء الديمقراطية، لصدورهم عن الرؤية الغربية للسياسة والقيم. 

هذا من وجهة نظر الغرب الاستشراقيّة. وهي وجهة نظر لا ترى "الشرق" كما يقدم نفسه وإنما كما تريده أن يكون. لذلك هي وجهة نظر مستحكمة لم يغيّر منها "تفاجؤهم" بأنّ حلفاءهم من الحداثيين ومن ناشطي المجتمع المدني في تونس اصطف أغلبهم إلى جانب انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 على الدستور والقانون والديمقراطية. ولم يبذلوا جهدًا في تبيّن شروط الديمقراطية لأنّ بناءها لم يكن أولوية عندهم. وكان الاستقرار الذي يضمن المصالح هو الهدف الأسمى سواء تحقق بالديمقراطية أو بغيرها. 

الأوروبيون والأمريكان لا يريدون التسليم بحقيقة يشهد بها تاريخ تركيا الحديث وحاضرها وهي أنّ "الكماليّة" أسست الدولة الوطنيّة و"الأردوغانيّة" أسست الدولة الديمقراطيّة، وهما مرحلتان كبريان في تاريخ تركيا السياسي

لكنهم لا يخفون خشيتهم من أنّه مثلما حطّ تاريخ تركيا عند مهمّتي "الكمالية" و"الأردوغانية" في بناء ديمقراطية تؤلف بين قيم حقوق الإنسان والثقافة الوطنية التركية بعمقها الإسلامي يقوم أكثر من دليل على أن تاريخ تونس الحديث، أي تاريخ الدولة، يتجه بدوره إلى الاستقرار عند مرحلتين كُبْرييْن: الوطنية والمواطنية. وقد نقرأ يومًا في سفر التاريخ: أسست البورقيبيّة الدولة الوطنيّة وأسست النهضويّة الدولة الديمقراطيّة. وفي الحالتين التركيّة والتونسيّة يتأكّد "الإسلام السياسي" شرطًا أساسيًا في بناء الديمقراطيّة. 

بدأ العالم يتلمّس، بصعوبة وبكثير من التردّد، دور الإسلام السياسي في بناء الديمقراطية، وهي ديمقراطية ستتلوّن بثقافة العرب المسلمين وإرثهم التاريخي الفكري والعلمي والسياسي الثقيل في ميزان الثقافات والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية. 

في الحالتين التركيّة والتونسيّة يتأكّد "الإسلام السياسي" شرطًا أساسيًا في بناء الديمقراطيّة

لكن الإشارة الأهم والتي ستتطلب وقتًا للكف عن إنكارها، وهي الديمقراطية في المجال العربي الإسلامي، لا يمكن أن تنجز خارج موجهات الثقافة الإسلامية. وبعبارة أخرى تمثل ظاهرة الإسلام السياسي الحديث بأطوارها الثلاث "حداثة عربية إسلامية". فكل الأمم بنت حداثتها من خلال ثقافاتها الوطنية. 

 

  • السياسة صورة من الفكر 

ومما يثير الاهتمام أنّ ما بني من أحزاب يسار في المجال العربي قام في معظمه على فكرة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار والإمبريالية انتهى في طور بناء الديمقراطية إلى "يمين سياسي" يصطف إلى جانب بقايا الاستبداد التابع ومنظوماته في الدولة والإدارة والأجهزة، ويتقاطع معها في اعتبار الديمقراطية تهديدًا وجوديًا، وليستقر في نهاية الأمر على يمينها. 

ومن مفارقات نظم الهيمنة في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أنها تعترف للتيار "الديكولنيالي" في أمريكا اللاتينية بإعادة إنتاج "مسيحيته" (لاهوت التحرر) حسب شروطه الثقافية، وبناء "يساره البوليفاري"، لكنها تنكر على العرب المسلمين أن يبنوا "يسارهم" ضمن ثقافتهم. 

وتدرك هذه القوى أن العالم اليوم كله تقريبًا يميل يمينًا، فالمواجهة المنتظرة وما سيترتب عنها من نظام عالمي هي في حقيقتها بين يمين تقليدي بقيادة الولايات المتحدة وأقصى يمين قومي شعبوي شوفيني بقيادة الصين، وأنّ المجال العربي الإسلامي لا يمكن أن يمثل إلا "يسارًا كامنًا" قد يدخل تشويشًا على إعادة بناء العالم، إذا لم يقع استيعابه.

مما يثير الاهتمام أنّ ما بني من أحزاب يسار في المجال العربي قام في معظمه على فكرة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار والإمبريالية وانتهى في طور بناء الديمقراطية إلى "يمين سياسي" يصطف إلى جانب بقايا الاستبداد

وثقافة الإسلام في التوحيد والحرية ووحدة النوع الإنساني وكرامة الإنسان ومنزلة الأسرة والنظام المالي اللاربوي هي ملامح لما نطلق عنه تجوّزًا "يسارًا إنسانيًا جديدًا" فاليسار في أوروبا والغرب والذي استقرّت ملامحه زمنًا كان في أحسن الأحوال يسار الدولة من جهة دورها الاجتماعي. وانتهى اليوم عند أبرز فلاسفة الغرب إلى محددات متناثرة لا تخرج عن المثلية والجندر والنسوية وشيئًا من العناوين البيئية في ثقافة ترى في علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة صراع تنتهي بـ"قهر الطبيعة". 

وهي ثقافة تختلف جذريًا عن الثقافة التي ترى في الطبيعة مجالًا مسخرًا للإنسان المستخلف (أحُدٌ جبلٌ يحبّنا ونحبّه). 

وليس من المصادفة في شيء أن يعرّج أردوغان في "خطاب النصر" من شرفة القصر الرئاسي بأنقرة على موضوع الأسرة، وهو يعرض مشروع تركيا في الاقتصاد والنهوض الجديد. ويعتبر الأسرة "مؤسسة مقدسة" لا مجال للمساس بها. 

ما تعرفه تركيا من استقرار للديمقراطية بروافدها التركية الثقافية المتنوعة، وما تعرفه تونس من اتجاه إلى بناء الديمقراطية يمثلان انطلاقة جديدة على صلة بما بلغته شروط الديمقراطية من تطور وفي مقدمتها ظاهرة الإسلام السياسي

المثلية والتسوية والجندرية… هي محددات اليسار كما يريد الغرب إنتاجه وتمويله بسخاء، ويجد صدى وحماسًا عند نخبنا "اليسارية" التي تحوّلت في معظمها إلى "يمين ماركسي". وهي لا تستطيع أن تتمثّل بأنه لا يسار على أرضنا، إذا بقي لتقسيم يسار/يمين من معنى، خارج ثقافة الإسلام. وسيبدو هذا التوصيف عجيبًا وربما متهافتًا، لكنه سيكون يومًا ما حقيقة وسبقًا معرفيًا قد يُعتَرف لمن انتبه إليه وجادل به. 

ما تعرفه تركيا من استقرار للديمقراطية بروافدها التركية الثقافية المتنوعة، وما تعرفه تونس من اتجاه إلى بناء الديمقراطية يمثلان انطلاقة جديدة على صلة بما بلغته شروط الديمقراطية من تطور وفي مقدمتها ظاهرة الإسلام السياسي التي بلغت في تركيا أعلى مراحلها (العدالة والتنمية) المرتبطة بتأسيس الديمقراطية واستقرارها، وحلول الإسلام السياسي في الهوية الوطنية. وهي في تونس قاب قوسين أو أدنى من بلوغ هذه المرحلة، رغم العثرات لأسباب ذاتية وموضوعية.

وإن مقارنة سريعة بين المواجهة بين نظام الاستبداد وحركة النهضة في التسعينيات وموقعها اليوم في المواجهة بين الحركة الديمقراطية والانقلاب يدرك حقيقة هذا المسار التطوري في شروط الديمقراطية. فالإسلام السياسي ظاهرة لن تختفي إلا بانتهاء وظيفتها في تأسيس الديمقراطية. فمن أراد للإسلام السياسي أن ينتهي، وإن لأسباب إيديولوجية، فليدعم الديمقراطية ويساهم في تحصين مؤسساتها. 

استهداف حركة النهضة ومكونات الحركة الديمقراطية لن يسعف المنظومة القديمة وروافدها القديمة بإعادة إنتاج نفسها، فقد فقدت كل أسباب الاستمرار وضيعت فرصة الانخراط في مشروع تونس التاريخي في بناء الديمقراطية

هذا الكلام يقال أيضًا للأوروبيين والغرب الذي أراد الانقلاب العنيف على الديمقراطية في تركيا في 2016، وأَمِل في وأدها هذه الأيام بفوز كمال كليجدار أوغلو وتحالفه بالانتخابات. وهو كلام يوجه مرّة أخرى إلى المنظومة القديمة وروافدها الوظيفية بأنّ استهداف حركة النهضة ومكونات الحركة الديمقراطية لن يسعفها بإعادة إنتاج نفسها، فقد فقدت كل أسباب الاستمرار وضيعت فرصة الانخراط في مشروع تونس التاريخي في بناء الديمقراطية. هي منظومة منتهية الصلوحيّة. 

وكما أن الديمقراطية لن تسقط في تونس باستهداف شروطها  لن يكون فوز حزب الشعب الجمهوري (وقد كان موقف زعيمه مناهضًا لانقلاب 2016) انقلابًا على الديمقراطية، بل هو طور من أطوارها المتقدمة. وسترسّخ عهدة الخمس سنوات التي حظي بها أردوغان المشروع التركي الديمقراطي التاريخي، وتجعل من تركيا قوة رئيسية في رسم استراتيجيات العالم وترتيباته القادمة. 

في هذا السياق جاء خطاب أردوغان مكتظًا بالرموز. ودعا الأتراك إلى الاحتفال بمائوية تركيا وقد حوّل تاريخ 1924 وما ارتبط به من نقض لآخر هوية انتظام للمسلمين (الخلافة) إلى لحظة انبعاث لتركيا الجديدة من داخل ثقافتها وتاريخها. وفي هذا السياق ستكون صلاته بمسجد الفاتح أحمد وإحياء ذكرى الفتح العظيم "فتح القسطنطينية" (إسطنبول). 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"