ليس سهلًا أن نمسك التاريخ بكلتيْ يدينا فنوقف حركته لنحدّق فيه ونقرأ ملامحه ونتأمله ونقلّب في ثناياه، إنها لعبة زمن تغافلنا مع سطوع كل شمس جديدة فيتسرّب من بين أصابعنا كحفنة رمل، يروم لنفسه الانفلات والضياع في أكوان تجهل عقولنا الصغيرة مخبأها، ونروم له البقاء والخلود بيننا ونحن في رحلة الوجود المسكونة بالهدوء والغموض. التاريخ هو مناطق الدفء في الرحلة وبعضه يتحوّل إلى علامات أنس دالة على أن الزمن آلة لم توقف ولو للحظة واحدة.
ويفخر الإنسان بأنه أحيانًا يمسك ببعض التاريخ أو بلحظات منه بواسطة وسائل وأدوات تطورت بدورها مع مرور الوقت حتى بتنا نتحدّث عن علوم التاريخ، فأنشأ المتاحف ودور الأرشيف والوثائق والمكتبات الوطنية وصان المواقع والمعالم ووثّق بالكاميرا والصورة.
ولقرون طويلة أهمل الإنسان كل الهامش المحيط بالوقائع والأحداث الكبرى فجاء التاريخ محقّبًا ومجملًا وجافًا وخاليًا من التفاصيل والإثراء مما فتح أبواب التأويل وتعدد القراءات وأحيانًا الانحراف به عن الحقيقة كما هي. لذلك نشهد الآن وهنا ولدى العديد من المجتمعات عودة قوية لـ"الهامش في التاريخ" واستعادته وجعله مركزًا يضيء ويعطي للحقيقة بهاءً آخر، فأصبحنا نتحدث عن "الماكرو والميكرو" في التاريخ بحثًا عن دقائق الأمور.. هكذا هو الإنسان تسكنه الذكرى ويسكنها.
السائق الشخصي لمسؤول سياسي أو إداري في تونس هو شخصية منسية تمامًا من التاريخ الاجتماعي والسياسي التونسي رغم أنه لطالما كان شاهدًا حقيقيًا على العديد من التفاصيل والحقائق
وضمن هذه العودة للهامش اللصيق بالتاريخ والخادم للمشتغلين على الحقيقة التاريخية يثير "الترا تونس" عبر هذا التقرير موضوعًا بقدر اتّسامه بالطرافة فإنّه يسهم في تقديم وجه الحقيقة مضاءً كما لو أنه لم يفلت منّا عند مضيّ الزمن إلى مكمنه المجهول.
السائق الشخصي للمسؤول السياسي أو الإداري في تونس، هذه الشخصية المنسية تمامًا من التاريخ الاجتماعي والسياسي التونسي والتي يمكن تسميتها بالشاهد على بعض جزئيات اللحظة التاريخية في بعدها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي. هذه الشخصية التي استمعت ورأت وفعلت وكانت شاهدًا حقيقيًا على العديد من التفاصيل والحقائق والمواقف، عادة لا يتم التطرق لدورها وحضورها من قبل الباحثين والدارسين والموثقين حول التاريخ المعاصر إلا لمامًا، وأحيانًا تنتهي هذه الشخصية في زحمة الحياة وفي غياهب النسيان فكأنها لم تكن، وهكذا يخسر التاريخ وجهًا مخفيًا من وجوهه.
- السائق الشخصي "عم حبيب".. كنز أسرار مشغّله
"الترا تونس" التقى "العم حبيب" (اسم مستعار نظرًا لأنّ الشخصية المستجوبة خيّرت عدم الإفصاح عن اسمها الحقيقي) ذات يوم شتائي بارد بأحد مقاهي العاصمة تونس، وهو كهل على عتبات الشيخوخة، تبدو عليه أناقة بداية التسعينات بكامل كلاسيكيتها، فهو يرتدي معطفًا أسودَ من قماش الكشمير تظهر من فتحته الفوقية ربطة عنق بنّية بخطوط بيضاء منضّدة ومائلة، ويضع شاشية تونسية قرمزية اللون.
كان رجلًا مهيبًا وهادئًا ولطيفًا، يدخن تبغًا تونسيًا أصيلًا.. تجاذبنا أطراف الحديث عن واقع الحال في البلد ومتغيراته ذات الإيقاع السريع، وسرعان ما سافرنا إلى عالمه الساحر والغامض والمشوّق.
كان "العم حبيب" سائقًا خاصًا لشخصية سياسية تونسية عملت لسنوات طويلة مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي متقلّدًا لوزارات عديدة كما عمل مستشارًا له في فترة وجيزة.
العم حبيب (سائق شخصي لوزير سابق في عهد بن علي): طيلة سنوات العمل استمعت مباشرة لقرارات سياسية وإدارية هامة، لكنني كنت صندوق أسرار الوزارة التي عملت بها ولا أزال إلى اليوم على علاقة بعائلة الوزير الذي كنت سائقه
وقبل أن يشرع في الحديث نظر "العم حبيب" إلى الأفق نظرة عميقة فيها الكثير من النوستالجيا والحنين لزمان ولّى ولم تبقَ منه سوى الذكريات، لكنّه سرعان ما استوى وعدل من جلسته، وقال إنّه باشر السياقة بإدارة النقل بالحزب الاشتراكي الدستوري بداية ثمانينات القرن الماضي، ثم فيما بعد بالتجمّع الدستوري الديمقراطي وتم اختياره بعد وقت وجيز لسياقة سيارات كبار كوادر الحزب وهي المرحلة الأولى التي تعلّم خلالها فن السياقة لدى مسؤولي الدولة، موضحًا أن أبرز مواصفاتها هي كتمان ما تسمع وما ترى والذي نعبر عنه بواجب التحفظ، وأيضًا فهم الجانب النفسي في شخصية المسؤول.
ويروي "العم حبيب" أنّ أحد أعضاء الديوان السياسي للحزب، بعد أن أعجب بمقدرته في سياقة السيارات ونباهته في تقديم بعض الخدمات الإضافية من قبيل حمل الجرائد اليومية للمنزل، قرر انتدابه كسائق شخصي له فانطلق بذلك نحو تجربة جديدة غيرت جوانب كثيرة من حياته.
وأشار محدث "الترا تونس" إلى أنه في البداية أصبح مطالبًا بالحضور ببدلة أنيقة، كما تلقّى تكوينًا أمنيًا يهم سلامة الوزير وعائلته وهي بالأساس توصيات تهم المسالك وأماكن التوقف والتنسيق مع المسؤولين الأمنيين وفي بعض الأحيان مع حراسه الشخصيين الذين انتدبوا لحمايته في الفترة الوجيزة التي عمل فيها مستشارًا بالقصر الرئاسي.
ويضيف أنّه طيلة سنوات العمل استمع مباشرة لقرارات سياسية وإدارية هامة وفي العديد من المرات استمع إلى مشاورات الوزير مع أعضاء الحكومة قبل الوصول إلى قصر القصبة لحضور اجتماعات الحكومة، وأحيانًا يشتد النقاش بينه وبين محدثه عبر الهاتف. كما استمع لتعليمات الوزير الأول بخصوص ملفات هامة تهم الاقتصاد والتوسع الذي كانت تنوي تونس القيام به في السوق العالمية للفسفاط بالتوجه إلى بلدان أمريكا اللاتينية وإمكانية مواجهتها لمنافسين كبار، وغير ذلك من المواضيع.
وحكى "العم حبيب" أنه استمع إلى مناقشة طويلة جمعت "عرفه" (مشغّله) الوزير مع مستشار من المستشارين القريبين من الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في اليوم الثاني من صدور نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 وكان فحوى هذه المكالمة هو تبادل الآراء حول فكرة "مناشدة الرئيس من قبل الشعب للترشح لولاية أخرى مطلع سنة 2014" وفهم من فحوى المكالمة أن الرئيس ناقش هذا الأمر مع المقرّبين له بعد أن التقط تساؤلات سياسية بثتها صحف أجنبية عن مصيره السياسي بعد انتهاء الولاية الرئاسية الأخيرة. وتأكد لديه من فحوى نفس المكالمة أن الرئيس استحسن فكرة المناشدة التي استنبطها مستشاره لكن بقي موضوع تمشي المناشدة والأساليب التي ستُبسط بها محلّ النقاش، كما فهم أن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي مطالب برسم خطة عمل سياسي نافذة لا يشوبها خطأ تهم المناشدة.
العم حبيب (سائق شخصي لوزير سابق في عهد بن علي): من بين الأحاديث الهامة التي استمعت إليها مكالمة هاتفية تم فيها تبادل الآراء حول فكرة مناشدة بن علي من قبل الشعب للترشح لولاية أخرى مطلع سنة 2014
كما تحدث "العم حبيب" عن تقرّب العديد من أهله وأصدقائه وزملائه في العمل منه من أجل قضاء بعض الحوائج الإدارية الشخصية حتى أن بعضهم عرض عليه أموالًا من أجل قضائها، لكنه كان يرفض ذلك رفضًا قطعيًا لأنه، حسب قوله، لا يجرؤ على مفاتحة الوزير في مثل هذه المسائل.
وأوضح السائق الشخصي أنّ علاقة ودّ واحترام جمعته بعائلة الوزير، فقد كان يقوم ببعض المهام الخاصة لأبناء الوزير وزوجته بالرغم من أن للعائلة سائقًا رسميًا منتدبًا من الوزارة للمهام العائلية، وذلك نظرًا للثقة العالية التي نالها وأيضًا لتكتمه عن الجانب الشخصي في المهام الاستثنائية التي توكل إليه.
أمّا عن منفعته هو الشخصية، فأوضح محدثنا أن الوزير تدخل له من أجل التسريع في الحصول على قرض بنكي بغرض بناء طابق علوي فوق منزل والده وأيضًا ساعده في الحصول على سيارة شعبية وتدخل له في نقلة ابنته من جامعة صفاقس إلى جامعة تونس، فضلًا عن بعض الهدايا الخاصة.
وختم "العم حبيب" حديثه، وهو يترشّف من قهوته الإكسبريس السوداء، بأنه عمل بتفان وإخلاص وكان صندوق أسرار الوزارة التي عمل بها وبقي ذكره طيبًا بين زملائه، كما أنه على علاقة إلى اليوم بعائلة الوزير يهاتفهم في المناسبات والأعياد ويسأل عنهم ويسألون عنه.
- "محمد الطاهر".. و"السّي" التي كسبها من اشتغاله كسائق شخصي لوزيرة
"سي محمد الطاهر"، هكذا قدمّه لي صديق مشترك وبنفس "السّي" حيّاه نادل المقهى الذي جمعنا بضاحية باردو بالعاصمة. بدا رجلًا محافظًا بعض الشيء من خلال مظهره ووفائه لارتداء البدلات الرسمية رغم تقاعده منذ ما يقارب الثماني سنوات، كما بدا منذ الوهلة الأولى شخصية هادئة وقليلة الكلام، خاصة إذا علمنا أنه كان سائقًا شخصيًا لأحد المديرين العامين بمؤسسة عمومية ثم سائقًا شخصيًا لوزيرة سابقة في فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وقال محمد الطاهر إنّ رحلته كسائق شخصي لأكثر من ثلاثة عقود لم تكن سهلة ويسيرة، موضحًا أنّ سرّ هذه المهنة لا يكمن في البراعة في السياقة أو فهمه لميكانيك السيارات بل في "الأمانة" وفسّر ذلك بمعنى أنه أمين على كل كلمة يسمعها أثناء العمل أو فعل شاهده أو مكان قصده مشغّله بأن لا يفشيها لأيٍّ كان، زد على ذلك الطاعة في العمل بأن لا يظهر على محياه أنه قلق ويعمل لمجرد قضاء ساعات العمل فقط.
محمد الطاهر (سائق شخصي لوزيرة سابقة): سرّ مهنة السائق الشخصي لا يكمن في البراعة في السياقة أو فهم ميكانيك السيارات بل في الأمانة إذ يجب عليه ألّا يفشي أيّ كلمة تلتقطها أذناه لأيّ كان، زد على ذلك الطاعة في العمل والهدوء والأناقة وردود الفعل المدروسة
وذكر محدّث "الترا تونس" أنّ هناك مواصفات بعينها يجب أن تتوفر في السائق الشخصي مثل الهدوء والأناقة والشجاعة وردود الفعل المدروسة والتفاني الطبيعي، مشيرًا إلى أنّ الصدفة هي التي قادته ليتحول إلى سائق شخصي، حيث اقترحه أحد زملائه السوّاق قبل خروجه للتقاعد بأن ينتقل ملحقًا من مؤسسته الأصلية للسياقة لدى وزيرة المرأة. يقول إنّه تردد في البداية لكنه سرعان ما وافق.
يشير محمد الطاهر إلى أنّ الوزيرة التي اشتغل معها كانت تلقى صعوبة في إدارتها لملف المرأة خصوصًا مع نفوذ مؤسستين هامتين هما الاتحاد الوطني للمرأة التونسية وجمعية أمهات تونس. ويذكر محدثنا أن رئاسة الجمهورية كانت في الكثير من الأحيان تتصل بالوزيرة في بعض المسائل وتدعوها للتواصل والتنسيق مع المنظمتين المذكورتين وتقترح عليها أسماءً بعينها من أجل تمثيل تونس في مهمات رسمية بالخارج.
وأشار السائق الشخصي السابق إلى أنّ الوزيرة كانت تحدثه في بعض المسائل التي تهم العمل، فكانت تسأله عن بعض الإدارات داخل وزارتها كأنها تريد أن تتأكد من بعض المعلومات التي تصلها من هنا وهناك، وذلك حتى تحسن اتخاذ القرارات الصائبة بخصوص بعض الملفات. كما كانت تسأله عن ظروفه وتتابع أخبار عائلته وأولاده، وفقه.
محمد الطاهر (سائق شخصي لوزيرة سابقة): كنت شاهدًا على العصر في الفترة التي اشتغلت فيها وأملك معلومات وتفاصيلًا تهم بعض الأحداث والوقائع السياسية التي سبقت الثورة التونسية
وعن انتفاعه من موقعه كسائق شخصي لوزيرة سابقة، قال مازحًا إنّه كان يقضي بعض حوائجه بالوزارة مستعملًا حيلة بسيطة تعلمها من سائق شخصي آخر وهي أن تباغت المسؤول بالقول "لقت سمعت الوزيرة تثني عليكَ في اتصال هاتفي لها"، معقبًا: "لقد كانت هذه الجملة بمثابة المفتاح السحري لكلّ العوائق الإدارية التي قد تجابهني في الإدارة".
وختم حديثه بالقول إنّه شاهد على العصر في الفترة التي اشتغل فيها وهو يملك معلومات وتفاصيلًا تهم بعض الأحداث والوقائع السياسية التي سبقت الثورة التونسية، على حد قوله.
إن السائق الشخصي لمسؤول كبير أو لسياسي يتأثر وجدانه بوهج السلطة فتصبح له مكانة استثنائية في إدارته وفي محيطه العائلي، ويتحول إلى غرفة سوداء تختزن المواقف والأسرار والتفاصيل المحيطة بالحدث والشخصية السياسية نفسها التي هو في خدمتها، لكنّه في النهاية يمضي إلى النسيان ويهمله التاريخ.