مقال رأي
كنا نشرنا في 31 أوت/أغسطس الماضي في مقال بعنوان "قبل عام من الانتخابات الرئاسية في تونس.. لا حدث أم فرصة لتنافسية جدية؟" رأيًا حول ما تحتاجه الساحة التونسية من الاجتهاد لكي تساهم النخبة السياسية، لا سيما المعارضة منها، في تعديل ميزان القوى السياسي الداخلي في اتجاه دمقرطة المسار السياسي عوض حالته "نصف التسلطية" الراهنة.
يستعد الرئيس للانتخابات ليس بوصفها حالة انتخابية تنافسية حرة ونزيهة بل بوصفها حربًا، أو جزءًا من "حرب التحرير الوطني"، لا تقبل مبدأ "المنافسة" بل تصور أيّ مترشحين آخرين بوصفهم أساسًا "خونة محتملون"
كان رأيي بوضوح أنّ الحلّ الوحيد الجدي والواقعي أمام المعارضة هو المشاركة في الانتخابات من زاوية أنها فرصة لتعبئة سياسية وشرط لإعادة تشكيل مشهد معارض جدي قادر على المنافسة وإعادة التوازن. ونحن نتجه، خاصة بعد شهر رمضان، إلى ديناميكية متوقعة في الساحة السياسية تهيؤًا للانتخابات الرئاسية القادمة المفترضة في سبتمبر/أيلول أو أكتوبر/تشرين الأول 2024، من المناسب هنا إعادة استيضاح هذا الرأي ودواعيه. سنقوم بذلك من خلال الإحداثيات الأربعة التالية:
أولًا، في معنى النظام "نصف التسلطي/نصف الديمقراطي" الراهن، والأهمية القصوى للاستثمار في الآليات الانتخابية لإعادة التوازن، ودمقرطة النظام. كنت كتبت في تعريف الوضع الراهن لمنظومة الرئيس قيس سعيّد بوصفها "شعبوية نصف تسلطية" كحالة سياسية هجينة لا يمكن مقارنتها بمرحلة بن علي أو أمثلة عربية أخرى راهنة (الجزائرية والمصرية بشكل خاص). تعتمد هذه المنظومة على خطاب يعلن الاعتماد المباشر والمطلق على "الديمقراطية المباشرة" الأكثر تشاركية، لكنّه في الممارسة يعتمد النهج الفردي في التعامل مع السياسة، حيث يوجد حوار سياسي ضئيل أو معدوم بين صانع القرار المهيمن، والهيئات الوسيطة بما في ذلك التي تحاول مساندته أو التي نشأت في منظومته (المجلس التشريعي الحالي).
السمة الرئيسية الأخرى "الشعبوية نصف التسلطية" هي التوازن الدقيق بين تقييد حرية التعبير (المرسوم 54) والحفاظ على مساحات مضبوطة من الحرية. أخيرًا تتمثل المفارقة الرئيسية الأخرى للطبيعة الهجينة للنظام القائم في التناقض بين تصريحاته التي تؤكد على خدمة الشعب خاصة الفقراء منهم ("الشعب طيب والنخبة شريرة") وسياساته العملية التي تؤدي، إما بشكل واعٍ أو بالمحصلة الموضوعية، إلى مزيد تفقير فئات الشعب المختلفة.
تتمثل المفارقة الرئيسية للطبيعة الهجينة للنظام القائم في التناقض بين تصريحاته التي تؤكد على خدمة الشعب خاصة الفقراء منهم وسياساته العملية التي تؤدي، إما بشكل واعٍ أو بالمحصلة الموضوعية، إلى مزيد تفقير الشعب
من هنا، فإن مسألة العودة إلى الشعب وصناديق الاقتراع مسألة محرجة للغاية لهكذا نظام، إذ أنّ أيّ تعدٍّ صارخ على حق المعارضة في الاتصال بالناس وبناء حزام شعبي وتعبئتهم نحو المشاركة والنفاذ لصناديق الاقتراع ستقوض بشكل أساسي جوهر الخطاب السائد، أي أنّه يثق في الشعب.
في الوقت الذي يستند فيه الرئيس بشكل خاص إلى "صدقه" كرأسمال أساسي فإن أيّ ممارسات تضع مصداقيته وجدية خطابه على المحك تمثل تهديدًا أساسيًا للحكم. لهذا يستعد الرئيس للانتخابات ليس بوصفها حالة انتخابية تنافسية حرة ونزيهة بل بوصفها حربًا، أو جزءًا من "حرب التحرير الوطني"، لا تقبل مبدأ "المنافسة" بل تصور أيّ مترشحين آخرين بوصفهم أساسًا "خونة محتملون" أو معنيون بخدمة لوبيات معادية للوطن والشعب. هنا طبعًا مأزق الحكم يتمثل في فتح معركة وملاحقات لأيّ منافس محتمل بما سيوسع الاعتقاد بأنّهم ليسوا "خونة" بقدر ما أنهم يتعرضون للملاحقة بسبب قرارهم الدخول للانتخابات.
وقد كنا شرحنا في المقال أعلاه الذي نشرناه منذ أشهر تفاصيل دراسة الانتقال في أنظمة "هجينة" من خلال التجارب المقارنة وكيف أنّ الانتخابات فيها هي الأقرب لتحقيق الانتقال من المقاطعة.
في الوقت الذي يستند فيه الرئيس بشكل خاص إلى "صدقه" كرأسمال أساسي فإن أيّ ممارسات تضع مصداقيته وجدية خطابه على المحك تمثل تهديدًا أساسيًا للحكم
ثانيًا، في معنى العمل السياسي بشكل عام والحزبي بشكل خاص بما هو مشروط بتعبئة اجتماعية وحزام شعبي، بدونهما لن يمكن دمقرطة الحياة السياسية. يبقى هنا الشارع الاجتماعي/السياسي بما هو الرافعة الوحيدة لأيّ إمكانية لتعديل ميزان القوى في اتجاه دمقرطة الحياة السياسية.
أهمّ سمة للوضع الراهن أنّه أصبح ممكنًا، خاصة بعد مؤشرات انتخابات 2019 والتي تأكدت في منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بسبب خليط من حالتين: خيبة الأمل العميقة للشارع الاجتماعي/السياسي من نخبة التأسيس الديمقراطي من جهة، ومن جهة أخرى حالة الإجهاد والإحباط العميقة من القدرة على التغيير عبر السياسة.
من الملفت هنا أنّ الرئيس، الذي يمكن أن يبدو في حالة زعيم شعبوي على المثال الأمريكي اللاتيني (caudillo)، لا يحظى بمساندة نشيطة في الشارع "المادي" النشيط، لكن بالأساس في الشارع "الافتراضي" (وسائل التواصل الاجتماعي).
الحلّ الوحيد الجدي والواقعي أمام المعارضة هو المشاركة في الانتخابات من زاوية أنها فرصة لتعبئة سياسية وشرط لإعادة تشكيل مشهد معارض جدي قادر على المنافسة وإعادة التوازن
بسبب تراجع الثقة والإحباط من عموم الطبقة السياسية والعمل السياسي ذاته بما في ذلك الرئيس نفسه، لسنا بصدد خوان بيرون في الثلاثينات حيث يستند الزعيم إلى شارع متحمس وديناميكي، بل إلى شارع "شامت" و"متبرّم" و"سلبي" أساسًا، لا يرى في وجود الرئيس إلا طريقة للانتقام من ضياع فرصة الإنجاز تحت الديمقراطية وضمانة لتوفير الأمن و"الاستقرار" لتجنب الانزلاق إلى حالة فوضى.
من هنا فإن "سلبية" الشارع تجعل القاعدة الرئيسية المتبقية للحكم هي أجهزة الدولة.
هذا التحالف غير المسبوق وغير السهل بين زعيم بخطاب استقطابي حاد، لكن بدون مشروع يحقق الإنجاز الاقتصادي قابل للتنفيذ يجعل الأجهزة (سواءً الحاملة للسلاح أو الإدارية) تتسابق من جهة لإرضاء الرئيس ما دام الفاعل السياسي المهمين، لكنّها أيضًا غير مرتاحة ومطمئنة من المستقبل.
المعارضة تواجه حالة صعبة حيث لا تجد رغم محاولاتها المتكررة سندًا شعبيًا، وهي محاولات ليست في الأغلب أو حتّى الآن جدية لتحظى بمقبولية
في المقابل، فإن المعارضة تواجه حالة صعبة حيث لا تجد رغم محاولاتها المتكررة سندًا شعبيًا، وهي محاولات ليست في الأغلب أو حتّى الآن جدية لتحظى بمقبولية.
تركز المعارضة على خطاب نقدي حاد في أحيان كثيرة يركز على التشخيص السطحي والظاهر، خاصّة لمشكلة الحريات، كأنّ الحياة السياسية بدأت في 25 جويلية/يوليو 2021، وكأنّ الشارع الاجتماعي/السياسي ليس منهكًا بعد سنوات من الأمل والإيمان بالتغيير، وليس مجروحًا بسلسلة من خيبات الأمل.
مثلما أشرنا في مقالنا منذ أشهر، إعادة بناء الثقة مع الناس يستوجب إظهار مراجعات عميقة والكثير من التواضع، والأهم التركيز على الاقتصادي/الاجتماعي تشخيصًا وأيضًا مقترحات حلول. هنا يجب أن نكون واقعيين، مسار استعادة الثقة سيكون طويلًا ولن تكون الانتخابات نهايته بل ربما بدايته، وأنّه يستوجب تغييرًا راديكاليًا في واجهة المعارضين السياسيين.
التعبئة الانتخابية في السياق الراهن، بما هو أساسًا سياق "شعبوي" وأيضًا حالة شعبوية في السلطة غير قادرة على الإنجاز، تستوجب في المترشّحين شرطين: أن يكونوا قادرين على تعميق الاستقطاب وإبراز القدرة على الإنجاز
ثالثًا، في أنّ التعبئة الانتخابية في السياق الراهن، بما هو أساسًا سياق "شعبوي" وأيضًا حالة شعبوية في السلطة غير قادرة على الإنجاز، تستوجب في المترشّحين شرطين: أن يكونوا قادرين على تعميق الاستقطاب وإبراز القدرة على الإنجاز. بهذا المعنى يجب تجاوز تحليل الذائقة السياسية العامة من زاوية العائلات الانتخابية التي سادت في انتخابات 2011 و2014، ومنهجية العمل السياسي النخبوي المنحصر في الصالونات وغرف عمليات "علب الإنتاج" و"التسويق السياسي والدعاية".
عند الاطلاع على استطلاعات الرأي الجدية يبرز بوضوح أنّ المترشحين المحتملين الأكثر مقبولية يحملون عمومًا خطابًا استقطابيًا "شعب مقابل نخبة"، أي خطاب "شعبوي".
لا يجب في رأيي أن نأخذ بجدية عملية النفخ المصطنعة في استطلاعات رأي، بلا هوية أو مصدر جدي والتي تريد صناعة حالة مترشح نخبوي من نوع "المنذر الزنايدي"، الغائب فعليًا عن الرؤية الشعبية الواسعة، باستثناء بعض النخب وبعض مجالات التواصل الاجتماعي.
لا يجب أن نأخذ بجدية عملية النفخ المصطنعة في استطلاعات رأي، بلا هوية أو مصدر جدي والتي تريد صناعة حالة مترشح نخبوي من نوع "المنذر الزنايدي"، الغائب فعليًا عن الرؤية الشعبية الواسعة، باستثناء بعض النخب وبعض مجالات التواصل الاجتماعي
تشبه هذه الحالة محاولات تمت في انتخابات 2019 لم تدرك آنذاك مؤشراتها الشعبوية الواضحة وحاولت صناعة "سياسي كلاسيكي" نخبوي (ابن الإدارة ومقبول في أوساط نخب اجتماعية محدود ويطمئن الإدارة على شاكلة عبد الكريم الزبيدي)، وهو الأمر الذي فشل فشلًا ذريعًا.
لا يمكن صناعة حالة سياسية بهذه السهولة وبهذا الاستعجال في ظرف عام يتسم بسوق انتخابية أو طلب اجتماعي سياسي متشائم وغير مقبل أساسًا بإيجابية كبيرة على السياسة وأيضًا طلب اجتماعي سياسي يركز على الاستقطاب.
أيضًا، من المضلّل مواصلة تقسيم الطلب السياسي الاجتماعي العام وفقًا للهويات الفكرية والسياسية التي سادت في 2011-2014، أي "إسلامي" وعلماني-بورقيبي" و"ثوري".. إلخ.
سنورد مثالين على عجز هذا الإطار المفاهيمي في تحليل الوضع الراهن. أولًا، الشارع "المحافظ" ثقافيًا ودينيًا منقسم بشدة ويوجد أحيانًا في صفوف متضادة، ولم يعد تحت سيطرة أو تأثير خاص من "النهضة"، حيث يمكن أن نجد جزءًا مهمًّا منه مع قيس سعيّد، كما نجده أيضًا مفرقًا بين مترشحين محتملين مثل لطفي المرايحي والصافي سعيد. ثانيًا، "العائلة الدستورية" إذ لا تذهب بالضرورة لمن يعلن نفسه دستوريًا مثل عبير موسي، بل يستحوذ الرئيس على جزء مهم منها حيث أنها تميل عمومًا للقرب ممن يحكم خاصة إذا تمثل نموذج الحاكم الفردي والتشبه بالحالة البورقيبية، ومن الواضح أنّ جزءًا غالبًا من المؤسسات المنبثقة عن "مسار 25 جويلية"، أي نواب المجلسين "التشريعي" و"المحليات والجهات والأقاليم"، هي الماكينة المعتادة والقديمة لما يطلق عليه "الدساترة".
الشارع "المحافظ" ثقافيًا ودينيًا منقسم بشدة ويوجد أحيانًا في صفوف متضادة، ولم يعد تحت سيطرة أو تأثير خاص من "النهضة" حيث يمكن أن نجد جزءًا مهمًّا منه مع قيس سعيّد كما نجده أيضًا مفرقًا بين مترشحين محتملين مثل لطفي المرايحي والصافي سعيد
الخلاصة أنّ المحدد في السياق الراهن هو هوية شعبوية (أي الاستقطاب "شعب خير مقابل نخبة ما لا تعمل لصالح الشعب") ولكن أيضًا تقديم بديل للرئيس أي بالأساس إقناع الناس بالقدرة على الإنجاز.
رابعًا، ليس فقط التعويل على الخارج بلا جدوى بل إنه أيضًا مناقض لجوهر التأسيس الديمقراطي. ليس من الوارد هنا توضيح الواضحات: المحدد في سياسات القوى الدولية الغربية هو الجيوسياسي الأمني وليس المسألة الديمقراطية (علاقة الاتحاد الأوروبي مع السلطات التونسية منذ 25 جويلية/يوليو دليل واضح على ذلك).
كما أنّ التأسيس الديمقراطي بما هو تجسيم لمبدأ سيادة الشعب يستوجب لاستكمال شروطه استقلالية في القرار. وبشكل عام المرة الوحيدة التي أمكن فيها فرض تأسيس ديمقراطي كانت بقرار من الشارع الاجتماعي/السياسي الاحتجاجي وليس بقرار دولي.
هنا 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أعادت توضيح خطوط التماس بين الواقعية الجيوسياسية والخطوط الحمراء المبدئية، بين التأسيس الديمقراطي الداخلي والسياق الجيوسياسي. من أهمّ مميزات السياق الراهن، أي سياق استقطاب، هو أولوية الخطاب السيادي.
التأسيس الديمقراطي بما هو تجسيم لمبدأ سيادة الشعب يستوجب لاستكمال شروطه استقلالية في القرار، وبشكل عام المرة الوحيدة التي أمكن فيها فرض تأسيس ديمقراطي كانت بقرار من الشارع الاجتماعي/السياسي الاحتجاجي وليس بقرار دولي
بدأ تجلّي ذلك منذ انتخابات 2019، ولا نزال في نفس الاتجاه حيث أنّ المرشحين الشعبويين الذين حققوا اختراقًا جديًّا آنذاك (قيس سعيّد والصافي سعيد ولطفي المرايحي وعبير موسي وسيف مخلوف) عبروا بقشور مختلفة وأحيانًا تبدو متباينة عن مضمون سياسي سيادي. وتعمق التحولات الجيوسياسية الدولية وأيضًا السياق الجيوسياسي العربي والإقليمي المؤثر بعمق في الذهنية التونسية عادة، في ذلك. حيث يعود بشكل واضح تأثير ووزن الدولة الترابية "القومية" والتيارات "السيادية" على حساب العولمة التي بصدد التفكك أو على الأقل التحول إلى مناطق ومراكز ثقل إقليمية. هذا التوجه بصدد الحدوث في معقل الليبرالية والأطراف التي أسست للعولمة، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أيضًا تواصل صعود القوى الدولية، خاصة الثنائي الصين وروسيا، التي تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي من باب الخطاب السيادي ورفض الهيمنة الأحادية الأمريكية. ثم أتى حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول إقليميًا ليعمّق الهوة مع القوى الدولية الليبرالية المهيمنة والتي تمثل عنوان شعارات وإيديولوجيا "العولمة" والديمقراطية الليبرالية"، حيث تورطت بشكل غير مسبوق في دعم علني ومكشوف للمجازر الصهيونية بما يقوّض مصداقيتها في ذهنية الشارع العربي. وليس غريبًا في هذا السياق أن تصبح الدول والشخصيات المعادية للغرب عمومًا الأكثر شعبية في أوساطه رغم أنّها ليست ديمقراطية داخل دولها، كما توضح مؤشرات "الباروميتر العربي".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"