17-فبراير-2024
الأحزاب التونسية علم

تبقى استعادة الأحزاب للثقة العامة بما يشمل تجديد العرض السياسي رهانًا للمنظومة الحزبية برمّتها لتأمين دورها في العملية السياسية (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

"الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية. هي في حالة احتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها"، هذه مقتطفات من حوار صحفي أجراه رئيس الدولة قيس سعيّد قبيل الانتخابات الرئاسية 2019 التي انتهت بانتصاره على حساب مرشّحي ماكينات الأحزاب التي يعود تأسيس بعضها لعقود من الزمن.

حيّد قيس سعيّد الأحزاب سواءً بتهميش وجودها في منظومة التأسيس الجديد أو بإقصائها من المشاركة في العملية السياسية، ليظلّ السؤال على قدرة المنظومة الحزبية على فرض وجودها كقوة سياسية أمام السلطوية الناشئة

ويبدو أنّ هذا الانتصار حفّزه لتحييد الأحزاب تحديدًا بعد 25 جويلية/يوليو 2021، سواءً بتهميش وجودها في منظومة التأسيس الجديد أو بإقصائها من المشاركة في العملية السياسية، ليظلّ السؤال على قدرة المنظومة الحزبية على فرض وجودها كقوة سياسية أمام السلطوية الناشئة.

 

  • لا أحزاب في مسار "التأسيس الجديد"

تبيّنت نوايا إقصاء الأحزاب من العملية السياسية منذ تجميد مجلس نواب الشعب، ضمن التدابير الاستثنائية المُعلنة يوم 25 جويلية/يوليو 2021، قبيل حلّه، وما يعنيه بالتبعية إقصاء الأحزاب النيابية من المشاركة في القرار السياسي في حالة الاستثناء التي سرعان ما تحوّلت إلى بوّابة إلى مرحلة تأسيسية جديدة. وإن ما تمّ تعيين رئيسة حكومة وقتها غير متحزّبة على نحو سابقها، فقد جرى تعيينها خارج دائرة المشاورات مع الأحزاب بما في ذلك التي أعلنت دعمها للتدابير الاستثنائية. المشهد الذي تكرّر تباعًا عبر ثبات ذراع حكومة لا تضمّ متحزّبين، ولا دور علني للأحزاب في تكوينها أو اقتراح أعضائها.

والإقصاء تبيّن بشكل واضح في مسار إعداد الدستور الجديد الذي انفرد رئيس الدولة، في نهاية المطاف، بصياغته متجاوزًا المسودّة التي أعدتها اللجنة المكلّفة منه. ففيما سُميّت "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، اكتفى رئيس الدولة بتمثيلية للمنظمات المدنية وعمداء كليات الحقوق سواء في لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية من جهة أو اللجنة القانونية من جهة أخرى، مع العلم أن المنظمة الشغيلة وعمداء الكليات قاطعوا أعمال اللجنة. واكتفت الأحزاب الداعمة للسلطة بتقديم مقترحات تجاوزها الرئيس الذي فرض مشروعًا لم يشارك غيره في إعداده.

تبيّنت نوايا إقصاء الأحزاب من العملية السياسية منذ تجميد مجلس نواب الشعب واتضح الإقصاء أكثر  في إعداد الدستور الذي انفرد الرئيس بصياغته ومثّل قراره باعتماد نظام الاقتراع على الأفراد خيارًا عاكسًا لتثبيت مساره لتقليص دور الأحزاب

ومثّل، في الأثناء، قرار الرئيس باعتماد نظام الاقتراع على الأفراد خيارًا عاكسًا لتثبيت مساره لتقليص دور الأحزاب، باعتبار أن هذا النظام يحفّز بالخصوص الترشحات المستقلة لا الحزبية. نظام يحفّز أيضًا ترشحات أصحاب النفوذ المالي والجهوي في الدوائر الانتخابية ويحيّد الأحزاب بوصفها وسيطًا وصاحبة عرض سياسي عابر للجهوي. 

تغيير، بالنهاية، فُرض مجددًا دون سبق حوار مع الفاعلين السياسيين والمدنيين. وأنتج نظام الاقتراع بالنهاية برلمانًا مكوّنًا في أغلبيته الساحقة من المستقلّين، وإن ما كان تراجع حضور المتحزّبين يعود أيضًا، وبدرجة أساسية، لمقاطعة الأحزاب الفاعلة للمسار الانتخابي.

 

  • تأثير المحاكمات السياسية على النشاط الحزبي

مسار تهميش الأحزاب تزامن مع تضييقات على حرية النشاط السياسي والحزبي على نحو المحاكمات المثارة ضد قيادات صف أول في صفوف الأحزاب الفاعلة

مسار تهميش الأحزاب تزامن مع تضييقات على حرية النشاط السياسي والحزبي على نحو المحاكمات المثارة ضد قيادات صف أول في صفوف الأحزاب الفاعلة قبل 25 جويلية، حيث يقبع العديد منهم في سجن الإيقاف على ذمة قضايا لا توصف إلا أنها سياسية. رئيس حركة النهضة ونائباه (راشد الغنوشي وعلي العريض ونورالدين البحيري)، وأمين عام الحزب الجمهوري (عصام الشابي)، والأمين العام السابق للتيار الديمقراطي (غازي الشواشي) وقيادات أخرى سابقة أو حالية في صفوف أحزاب (مثل رضا بالحاج والصحبي عتيق).

ملاحقات قضائية ترافقت مع قرارات أصدرتها أحيانًا السلطة التنفيذية كغلق مقرّيْ حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني، على نحو يضيّق ممارسة النشاط السياسي بشكل اعتيادي. 

المحاكمات أفقدت عديد الأحزاب قادتها الذين كانوا أساسًا يقودون قاطرتها وهم المصدر الأساسي لتحشيد منخرطيها، وأيضًا للتشبيك مع بقية الفاعلين السياسيين وإعداد المبادرات ضمن جبهة المعارضة للسلطة

هذه المحاكمات أفقدت عديد الأحزاب قادتها الذين كانوا أساسًا يقودون قاطرتها وهم المصدر الأساسي لتحشيد منخرطيها، وأيضًا للتشبيك مع بقية الفاعلين السياسيين وإعداد المبادرات ضمن جبهة المعارضة للسلطة. إذ باتت تركّز هذه الأحزاب جهودها راهنًا للدفاع عن قياداتها ككشف مظاهر غياب ضمانات المحاكمة العادلة والمطالبة بإطلاق سراحهم.

 

  • بين ممارسات الرئيس ومسؤولية الأحزاب

إرادة رئيس الدولة في تحجيم دور الأحزاب في الحياة السياسية واضح وجليّ، وهو الذي يرفض حتى استقبال قيادات الأحزاب المؤيدة له والتي باتت تتصاعد مناشداتها لتشريكها بشكل يحفظ ماء وجهها. 

وقد دعمت هذه الأحزاب مسار "25 جويلية" الذي حمل، واقعًا، بنهاية المطاف مشروعًا لتحييد المنظومة الحزبية انعكاسًا لقناعات سابقة عبّر عنها الرئيس عُصارتها عدم الحاجز للحزب كأداة تمثيلية ووسيطة للشعب الذي لم يكن يحتاج إلا لآليات قانونية للتعبير عن سيادته، وفق الخطاب الرئاسي. 

إرادة رئيس الدولة في تحجيم دور الأحزاب في الحياة السياسية واضح وجليّ، وهو الذي يرفض حتى استقبال قيادات الأحزاب المؤيدة له والتي باتت تتصاعد مناشداتها لتشريكها بشكل يحفظ ماء وجهها

رئيس الدولة يذهب أكثر من ذلك للاعتقاد بانتهاء عصر الأحزاب على نحو يعزّز المخاوف من إرادة لتحجيم دورها بصفة قسرية عبر التشريعات والممارسات المعادية للأحزاب. ويظل السؤال إن ما كانت الأحزاب خاصة تلك الفاعلة قبل 25 جويلية قادرة على ترميم نفسها وفرض وجودها كقوّة سياسية في مواجهة السلطة التي تتزايد مظاهر سلطويتها وانتهاكها للحريات العامة على وجه الخصوص.

يحلّ، في هذا المضمار، الحديث عن مسؤولية الأحزاب في تيسير استهداف السلطة لها بعد 25 جويلية، بنظر العامة، وذلك من زاوية فشلها، وهي التي أدارت العملية السياسية سنوات الانتقال الديمقراطي، في تحقيق ما كان ينتظره الناس، ولكن أيضًا في تأمين بناء ديمقراطية متينة. إذ أدى بالخصوص انتشار العنف السياسي على نحو ما بيّنه العنف في البرلمان، وتصاعد الحسابات الحزبوية وظهور الأحزاب كطبقة انتهازية، إلى نفور العامة منها. 

تبقى استعادة الأحزاب للثقة العامة بما يشمل تجديد العرض السياسي رهانًا للمنظومة الحزبية برمّتها لتأمين دورها في العملية السياسية وعدم بقائها كفاعل هامشي على النحو المعاين الآن

وقد ظلّت تتبوأ مراتب متأخرة في نسبة الثقة في عمليات سبر الآراء في السنوات الماضية، على غرار تسجيلها نسبة 17% فقط في الباروماتر السياسي لشهر مارس/آذار 2022 الذي أعدته مؤسسة "سيغما كونساي". 

تبقى استعادة الأحزاب للثقة العامة بما يشمل تجديد العرض السياسي رهانًا للمنظومة الحزبية برمّتها لتأمين دورها في العملية السياسية وعدم بقائها كفاعل هامشي على النحو المعاين الآن. فيما تبقى ممارسات السلطة الهادفة لنسف دورها غير يسير، ذلك أنه مازالت الأحزاب أداة رئيسية لا يمكن تجاوزها في الحياة السياسية. فلم تؤدِّ التحديات التي واجهتها المنظومة الحزبية في الأنظمة الديمقراطية لتقليص دورها بل أدت إلى تغييرات داخل المنظومة الحزبية نفسها في اتجاه تراجع نفوذ المكونات التقليدية لحساب مكونات أخرى جديدة.