دفعتنا مشاغل الحياة إلى التفريط في قيم التضامن الاجتماعي والأسري، وأكرهتنا التفاصيل اليومية وتعقيداتها على إهمال بعض الفئات والسهو عن همومها النفسية والاجتماعية والماديّة، هذا التقصير إذا كان متعمدًا واعيًا فلا سبيل إلى تقويمه إلّا بالقوانين والتشريعات، أمّا إذا كان سليل الغفلة والنسيان وسوء التقدير فإنّ وباء "كورونا" كفيل بمعالجته وتعديله.
حاتم العكرمي نائب ومستشار في الاتحاد الجهوي للمكفوفين بباجة، وهو مختصّ في العلاج الطبيعي وكاتب سيناريو وله تجربة متميزة في وضع برمجيات صالحة لفئة المكفوفين
وهو ما قد يرجع بالنفع على المفقرين والمهمشين وذوي الاحتياجات الخصوصية، فهؤلاء يواجهون صعوبات دائمة متواترة مزمنة في توفير حاجياتهم الأساسية وتنفيذ برامجهم وبلوغ مقاصدهم.
هذه الصعوبات تتحوّل إلى عجز في فترات المحن والأزمات لا سيما في المرحلة الوبائية الحالية التي تعاني منها البشرية بسبب فيروس "كورونا"، وقد يبلغ العجز مع ذوي الاحتياجات الخصوصية ومنهم المكفوفين مبلغًا يحتاج منّا إلى الإسراع بتنبيه العقول وإيقاظ الضمائر بعد أن أعلنت المصالح الصحيّة يوم 30 مارس/آذار عن وقوع أول كفيف فريسة الوباء، وهو من جهة المعمورة بولاية نابل، لمزيد التوسع في أوضاع هذه الفئة، التقى "ألترا تونس" حاتم العكرمي النائب والمستشار في الاتحاد الجهوي للمكفوفين بباجة، وهو مختصّ في العلاج الطبيعي وكاتب سيناريو وله تجربة متميزة في وضع بعض البرمجيات الصالحة لفئة المكفوفين، معه كان لنا الحوار التالي:
- في البداية أسألك عن شعورك بعد الإعلان عن إصابة أول كفيف في تونس بفيروس كورونا؟
الحزن والقلق والخوف مشاعر لا تحتمل التقسيم الفئويّ ولا تُبيح لنا في هذه الوضعية الوبائية الاصطفاف العاطفي مهنيًا أو وطنيًا، إنّها أزمة كونية تستدعي شعورًا إنسانيًا واسعًا بلا حدود. فحسرتي على الكفيف المصاب، شفاه الله، لا تزيد عن حسرتي على الممرض ورجل الأمن وكلّ أفراد المجتمع مهما كانت اختصاصاتهم، غير أنّ نظرتي لشروط الوقاية ودقائقها تختلف نسبيا من فئة إلى أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: "الحاجة أمّ الاختراع"... كفيف تونسي يخترع كاشفًا للحواجز
- كيف ذلك؟
حاجة الكفيف في هذه الفترة إلى التوجية والمصاحبة وبعض الإجراءات الاستثنائية أوكد من حاجة بقية الفئات.
- ما الذي يبرر هذا التمييز الإيجابي الذي تدعو إلى أن يحظى به المكفوفون؟
عدد المكفوفين في تونس يبلغ حولي 56 ألفًا وعدد المواطنين الذين يعانون من ضعف البصر حوالي 160 ألف، هؤلاء يستعملون أيديهم عند أيّ حركة داخل البيت أو خارجه أكثر من غيرهم، ولأنّ لمس الأسطح والأدوات من مسببات انتقال العدوى، فحسابيًا ذوو الحاجيات الخصوصية من هذه الفئة مهدّدون تهديدًا يوازي نسبة استعمالهم أيديهم في قضاء حوائجهم، وهي نسبة تتعدّى حسب الإحصائيات العلمية الخمسة أضعاف في المساحات المألوفة وتتخطّى هذا الحدّ بكثير في الفضاءات التي يرتادها الكفيف أوّل مرة، وممّا يزيد الأمر تعقيدًا هو افتقار جل الطرقات ووسائل النقل والمنشآت إلى البنية التحتية والنظام الذي يجعل حركة الكفيف أيسر على النحو المعمول به في أغلب الدول.
حاتم العكرمي: عدد المكفوفين في تونس يبلغ حولي 56 ألفًا وعدد المواطنين الذين يعانون من ضعف البصر حوالي 160 ألف
- ما هي الحلول التي تراها مناسبة لحماية المكفوفين في هذه الفترة؟
الحلول التي ارتأتها سلطة الإشراف هامة مفيدة لعامة المواطنين خاصّة ما تعلّق بالحظر الصحي الشامل، أمّا بالنسبة إلى المكفوفين خاصّة فاقدي السند وضعاف الحال فهم في حاجة إلى مجهود رسمي وتطوعي أوفر يجنبهم التنقل لاقتناء حاجياتهم الغذائية والوقائية، لكن الأزمة ينبغي أن تفتح أعين الجميع على مشاغل مزمنة يعاني منها الكفيف.
- هلاّ أوضحت لنا هذه المشاغل؟
هذه المحنة التي يواجهها الكفيف لا بدّ أن تدفع إلى فتح ملفات التشغيل والبنية التحتية وغيرها من الحقوق التي تمّ التنصيص عليها من خلال التشريعات، غير أنها لم تر النور إلى الآن تجسيمًا وتنفيذًا.
اقرأ/ي أيضًا: تونسية مقيمة بإيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" قصة انتصارها على "كورونا"
- ما هي أوكد المطالب التي يحرص المكفوفون على تحقيقها؟
لقد دعونا في أكثر من مناسبة إلى تفعيل القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية التي تفرض انتداب 2 في المائة من ذوي الاحتياجات الخصوصية في كلّ مؤسسة، وهو مطلب مزمن مازال يطلب الشفاء رغم الوعود والمراهم السياسية، وها قد تبين أنّ التشريعات لم تعد تكفي، فلا بدّ إذًا من إرادة صادقة ووعي بحقوق المكفوفين.
- ما قصدك من عبارة الوعي بحقوق المكفوفين؟
أقصد أن القوانين والتشريعات لا تكفي للنهوض بواقع المكفوفين،لا بدّ من نشر الوعي بضرورة احترام حقوق الكفيف، لا أبالغ إن قلت لك أنني أكون مضطرًا أحيانَا إلى قضاء رحلات مطولة في الحافلة واقفًا والعديد من الركاب المبصرين ينعمون بالكراسي، والحال أن خروج وسيلة النقل والكفيف واقفًا لا يقل خطورة عن خروجها والباب مفتوحًا، ألم تخصص التشريعات المقاعد الأولى للمكفوفين؟
حاتم العكرمي: القوانين والتشريعات لا تكفي للنهوض بواقع المكفوفين،لا بدّ من نشر الوعي بضرورة احترام حقوق الكفيف
- ألم تحظ هذه الفئة من خلال المناشير بالأولية في قضاء الشؤون الإدارية؟
لا تعجب مرة أخرى إن قلت لك إن بعض الموظفين في عدد من المصالح لم يفهم بعد أن ذوي الاحتياجات الخصوصية لهم أولوية، فمن غير اللائق والمعقول إرغامهم على بعض الإكراهات من قبيل الوقوف في الطوابير، هذه العينات المحبِطة لا تعالج فقط بالقوانين إنما ينبغي التصدي لها بطرائق أخرى ثقافية وفنية وتعليمية.
- هل كانت لكم مبادرات في هذا المنحى التثقيفي والتوعوي؟
أنا من جهة أحرص قدر المستطاع على القيام بهذا الواجب التثقيفي التوعوي، وهو واجب يقتضي في مستوى أول إخراج الكفيف من عزلته وجعله واعيًا بحقوقه وواجباته.
- ما هي الخطوة التي قمت بها في سبيل هذا المقصد؟
الخطوة الأولى تمثلت في إعداد تطبيقات تساعد الكفيف على بلوغ العديد من الإذاعات والصحف والمرافق الأساسية بيسر ودون تعقيد، كما أنجزت بومضة تحسيسية حول التوقي من كورنا موجهة أساسا للمكفوفين يمكن متابعتها بداية من يوم 2أفريل/ نيسان 2020 على صفحة اليوتيوب الخاصّة.
حاتم العكرمي: الكفيف ليس في حاجة إلى الشفقة بقدر ما هو في حاجة إلى نيل حقوق
- ماذا عن الخطوة الثانية؟
الخطوة الثانية ذات الطابع التوعوي التثقيفي أعمق، فقد حرصت على الدفع نحو تعديل الصورة النمطية للكفيف، فهو ليس في حاجة إلى الشفقة بقدر ما هو في حاجة إلى نيل حقوقه، لا بدّ أن ننظر إليه نظرة موضوعية عادلة منصفة مثل نظرتنا إلى لآخرين.
- ما هو المسلك الذي اخترته لإبلاغ هذه الرسالة؟
من هذه المسالك كتابة سيناريو مسلسل درامي قائم على الوصف الصوتيّ وتقنية الثلاثة أبعاد، وقد حرصت على إعداده وتنفيذه على مستوى النصّ والمونتاج والهندسة الصوتية، عنوان المسلسل "عبور"، وهو عمل فنيّ يقطع كما قلت لك مع الصورة النمطية، فقد عرضت فيه سلوك كفيفين أولها منضبط مجتهد والثاني مستهتر، فالمكفوفون شأنهم شأن بقية المواطنين فيهم المعتدل المتوازن، وفيهم المتشدد والمنحرف.
الحلقة الثالثة من مسلسل "عبور" من إنجاز حاتم العكرمي
- ختاما ما هي رسالتك للمكفوفين؟
الرسالة الظرفية "شد دارك"، أمّا الرسالة الدائمة قم بواجبك، وتمسك بحقك، لا تستجدي أحدًا، أنت قادر على الإضافة لنفسك ولأسرتك ولوطنك.
اقرأ/ي أيضًا:
روضة زروق: لا سجل لمرضى السرطان في تونس وحظ الميسورين أوفر للعلاج (حوار)
الكاتب التونسي في زمن الكورونا.. غيمة الوباء قد تمطر أعمالًا أدبية