فاخرنا بالدساتير من دستور قرطاج، إلى دستور الباي، فدستور الاستقلال، ثم دستور الثورة، وأخيرًا، ها هو دستور آخر يعدّ في التاريخ، حتى صارت كتابة الدساتير سنّة تاريخية يلجأ إليها الحكّام في تونس عند أول اختناق سياسي. ويبدو أنّ تغوّل الذوات والشخصنة والزعامات، من بين الأورام السياسية التي توحّد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا رغم تنوع الأعراق والثقافات.
المولدي قسومي هو باحث في علم الاجتماع، وشغل عضو الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وله عديد المؤلفات
تعيش تونس مرة أخرى في ظرف عقد، حلقة أخرى من الأشغال التطبيقية لـ"القانون الدستوري"، استفتاء ودستور يُطبخ في الخفاء، ومخاض سياسي آخر قد يفضي وقد لا يفضي.
نحاور فيما يلي الأستاذ والباحث في علم الاجتماع، عضو حزب الوطد سابقًا، والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، المولدي قسومي، صاحب نصوص ومقالات، ومؤلفات عديدة من بينها: في مواجهة التاريخ، صدى الهيئة، عن دار محمد علي للنشر (تونس 2021) وكتاب مجتمع الثورة وما بعد الثورة عن الدار نفسها (تونس 2020).
- بدءًا بآخر المستجدات، انطلاق ما يسمى بالحوار، ومواصلة السلطة السياسية مضيّها في خارطة الطريق التي أعلنها قيس سعيّد في ديسمبر/ كانون الأول 2021. هل تمّت دعوتكم لهذا الحوار؟
أوّلًا، لم أدعَ، وحتّى لو تمت دعوتي، لم أكن لأقبل. ثانيًا، هذا ليس حوارًا. ثالثًا، عند مقارنة هذه اللجنة التي يتولى تنسيقها الصادق بلعيد، واللجنة طويلة الاسم التي رأسها عياض بن عاشور، فإن الصادق بلعيد سنة 2011 كان له برنامج بديل لهيئة بن عاشور. وللتاريخ، كان قد عبّر عن ذلك صراحة في جريدة الصباح عدد يوم الأربعاء 13 أفريل/ نيسان 2011. والغرابة أن قيس سعيّد عبّر عن الموقف نفسه بالتاريخ نفسه، لكن بجريدة الشروق. يعني لاحظ الصدفة العجيبة: كلاهما اقترح هيئة مصغرة قليلة العدد تشتغل في كنف السرية، تتكوّن من حقوقيين ورجال قانون وبعض السياسيين لإعداد دستور والقوانين التي تحتاجها تونس آنذاك، بما في ذلك دستور وقانون انتخابي، في غضون ثلاثة أشهر.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": قيس سعيّد والصادق بلعيد كلاهما اقترح سنة 2011 هيئة مصغرة مكوّنة من رجال قانون وبعض السياسيين تشتغل في سرية، لإعداد دستور تونس آنذاك
بمعنى أنّ ما يحدث الآن، هو نسخة مشوهة من البرنامج الذي ناديا به آنذاك، لكنه يحدث بمحرك نفسي عصابي وذهاني خفيّ، يؤكد أنهما كانا يعيشان حالة غبن لما تعرّضا له من تهميش في 2011، نظرًا لأنهما كانا يطمحان معًا لإدارة الشأن السياسي آنذاك.
- سبق وقلتم في أحد تصريحاتكم الإذاعية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، إن "تونس القيسيّة انتهت قبل أن تولد"، لكننا نرى أن القيسيّين، أو السعيّديين بصدد المضي قدمًا في تحقيق ما كان يضاهي المستحيل آنذاك. هل خانكم استنطاقكم للأحداث؟
بالعكس، هو الذي خان نفسه. وهو من دمّر الجمهورية القيسيّة التي وعد بها. ما الذي بقي من جمهورية قيس سعيّد التي وعد بها يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019؟ الجمهورية التي يُحترم فيها الدستور، جمهورية كل التونسيين، الجمهورية التي ستوفر الآليات القانونية للعدالة الاجتماعية، جمهورية الوحدة والسيادة، جمهورية سيادة الشعب.. أ ليس هذا ما وعد به؟ فلنتناول النقطة الأخيرة: سيادة الشعب.
أ لم تلاحظ أن قيس سعيّد لا يستعمل كلمة المجتمع إطلاقًا إلا مرة واحدة عند حديثه عن المرور من دولة القانون إلى مجتمع القانون؟ بل إنه شوّه كلمة "الشعب" التي استعملها كثيرًا وضرب مضمونها على معاني جان جاك روسو: العصمة، غير قابلية التقسيم وغير قابلية التوظيف. وعند توفر هذه الصفات، تكون السيادة للشعب. وعندما يفتكّ الملك أو الرئيس هذه السيادة، يصبح هو السيد Le maitre الذي يحتكر كل مقومات السيادة بين يديه، كما كتب روسو مرة أخرى. أيّ بمعنى آخر وكما قال لويس الرابع عشر: الدولة هي أنا. من هو المشرّع؟ المنفذ؟ والقاضي؟ هو ذاته. يعني الجمهورية التي وعد بها، أي جمهورية السيادة الشعبية بما لها من معانٍ، لم يبق منها أي شيء. وتحولت الجمهورية إلى ما يشبه المملكة أو جمهورية مشوهة.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": الجمهورية التي وعد بها سعيّد أي جمهورية السيادة الشعبية بما لها من معانٍ، لم يبق منها أي شيء وتحولت إلى ما يشبه المملكة أو جمهورية مشوهة
- تواجه السلطة السياسية الحالية تحدّي إدارة التناقضات، بين خطاب "الشعبوي اليساري"، على معنى أرنستو لاكلو، وبين شروط وإملاءات المؤسسات المالية العالمية. تعرضتم في أكثر من نص إلى التشوه الذي تعرضت له الطبقة الوسطى أثناء تبلورها الطبقي. كيف تتوقعون ارتدادات الإجراءات التي تعتزم السلطة القيام بها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد؟
فلنتفق أولًا على أن الطبقة الوسطى تعيش حالة سيولة حد الاندثار، وبالتالي، لم يعد بالإمكان الحديث عن طبقة وسطى في تونس. عند التمعّن في شعبوية قيس سعيّد، أجده ينتحل حرفيًا ما كتبه إرنستو لاكلو وزوجته شانتال موف، دون أن يعلن ذلك. ينظر لاكلو للشعبوية عبر تقسيم الشعب إلى قسمين: الأقلية العليا، والسواد الأعظم السفلي، ثم تشتغل على السفلي. المشكل أن الشعبوية هي وسيلة للوصول للحكم، ولا يمكن أن تكون أداة حكم.
ونجح لاكلو وزوجته في هذا التنظير مع عائلة كيرشنر في الأرجنتين سنة 2002 وخوان بيرون سنة 1977، لكن الأخير واصل في استعمال الشعبوية بعد الوصول للحكم، فحوّل الأرجنتين إلى دكتاتورية عسكرية، لكن عائلة كيرشنر استوعبت الدرس سنة 2002 ونجحت في الخروج من ثوب الشعبوي بعد الانتخابات والتحول إلى جبة رجال الدولة، وهذا هو جوهر المعادلة والمأزق في آن واحد: مأزق ميلونشون في فرنسا، بوديموس في إسبانيا وحزب سوريزا في اليونان، الوفاء للخطاب الشعبوي بعد الوصول للحكم، والحالة الوحيدة الناجحة هي عائلة كيرشنر في الأرجنتين لأنهم أقلعوا عن الخطاب الشعبوي بعد الفوز في الانتخابات واندمجوا في العمل صلب المؤسسات.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": لا شأن لسعيّد بالاقتصاد رغم أن هذا هو الرافع الحقيقي للدولة، وأعتبر أنّ البنك المركزي هو العقل المدبّر الفعلي في تونس
لكن هذا عكس ما يحدث الآن في تونس من مزج بين حالة الاستثناء ودولة الاستثناء. وإلّا أين أضحت الجمهورية غير الضمير الشعبي العام؟ لهذا واصل سعيّد إلى الأمام واستعمل عبارة "الجمهورية الجديدة"، لأننا من 25 جويلية/ يوليو 2021، إلى الآن، لا نعلم هل مازلنا جمهورية؟ وهل ستتكوّن جمهورية ثالثة؟ وبالتالي هل ستكون الجمهورية الرابعة بعد الدستور أم ماذا؟ وهذا مأزق آخر.
بالعودة إلى الإجراءات أو ما يسمى بالإصلاحات، قيس سعيّد لا شأن له بالشأن الاقتصادي، ولا يعتبر أن الدولة هي تمظهر للمجتمع، بل يعتقد أن الدولة هي مسألة قانونية تشريعية خالصة، شأنه في ذلك شأن مجمل "حرفيي القانون". لهذا لا نعرف له تداولًا عميقًا في الشأن الاقتصادي الاجتماعي، رغم أن هذا هو الرافع الحقيقي للدولة. وبالتالي، مهما كانت الحكومة التي ترجع له بالنظر، فستكون مهمتها إدارة الشأن اليومي، كما يحدث الآن مع حكومة بودن التي أرادها ضعيفة لتنسجم مع إملاءات البنك المركزي، الذي أعتبره العقل المدبّر الفعلي في تونس.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": نرى اليوم أن "اليساريين" في تونس ينتظرون في الطابور وراء سعيّد الذي لم يُعرف له أي نشاط فكري وسياسي
نعيش اليوم ومنذ عقدين، هيمنة الاقتصاديين النقدويين، بعد اندثار علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي، وبقي الاقتصاد النقدي. وبالمناسبة، هذا مسار مستمر منذ 50 سنة، أي منذ سن سياسة تغطية الواردات بالصادرات أو اقتصاد التصدير، بدل اعتماد سياسة التمحور الذاتي. يعني بالنتيجة، وفضلًا عن أن سعيّد لا يحمل أي رؤية اقتصادية، وليس له أي القدرة للتغيير، ستتواصل معاناة الطبقة الكادحة والطبقة الوسطى إن صح التعبير.
- تقريبًا منذ 25 جويلية/يوليو 2021، من أكثر الشخصيات من خارج السلطة السياسية التي قابلها سعيّد هي رئيس منظمة الأعراف سمير ماجول. من جهة أخرى، نرى التفاف عديد "اليساريين" حوله. كيف تفسر ذلك؟
في إحدى المقابلات التلفزيونية، شبّهت هؤلاء "اليساريين" بشرطي المرور الذي ينظم ويسهل مرور مستعملي الطريق: يمضي الناس كل في طريقه بينما يظل هو مكانه. كذلك إثر وفاة شكري بلعيد، شبّهت اليسار التونسي بالمحمية الطبيعية: لا تتطوّر ولا تندثر. لكنها تظلّ حالة فرجوية.
تاريخيًا، محمول على اليسار المسألة الفكرية وإبداع البرامج السياسية والمفاهيم. اليوم، نرى أن "اليساريين" في تونس ينتظرون في الطابور وراء من لم يُعرف له أي نشاط فكري وسياسي. وأكتفي بهذا القدر.
- تعتمد عدة أطراف وسم "العشرية السوداء" عند الحديث عن التجربة الديمقراطية. سبق أن كنتم أحد مهندسي هذه التجربة، بمشاركتكم في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. ولو بشكل موجز، هل تتبنون هذا الوسم أو التوصيف؟
من يقارن بين ما يجري الآن، حول ما يسمى "الاستشارة" و"الحوار الوطني"، وما جرى سنة 2011 وهيئة بن عاشور، فالفرق كبير ولا مجال للمقارنة. أوّلًا، أشغال الهيئة استمرت لمدة 8 أشهر دون انقطاع، وكانت تبث في الوطنية الثانية، وكانت كل المداولات مفتوحة على الصحافة، وكانت أول عملية Open Gov (الحوكمة المفتوحة) في تاريخ تونس السياسي.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": لم ينتهِ الإسلام السياسي في تونس بل إن سعيّد أنقذ الإسلاميين من حالة التدمير الذاتي التي كانوا يعيشونها، وأعطاهم فرصة إعادة البناء
ثانيًا، كانت العملية توليفة بين كل ممثلي "النبض الثوري" آنذاك، حتى لا أستعمل كلمة ثوار. ولم ينجح أي شخص من النظام القديم في التسلل إلى الهيئة. للأمانة، كانت هناك 3 اختراقات على ما أذكر، لكن تم طردهم سريعًا وكنت شاهدًا على ذلك. ثالثًا، تلك الهيئة كانت تمثّلاً لما كتبه المنظّر الليبرالي الإنجليزي جون ستيوارت مل في كتابه "Considérations sur les régimes parlementaires" الذي نشر سنة 1861 أين تحدّث عن الحكم عبر الحوار، في حالات كالتي عشناها، تنقذ البلاد من الفراغ.
أما ما أفضت إليه الهيئة، ونعني المجلس التأسيسي وبرلمانيْ 2014 و2019، فقد كانت على علّاتها مؤسسات تشريعية منتخبة من قبل التونسيين، التونسيون الذين انتخبوا سعيّد نفسه. أكثر من ذلك، تلك الهيئة أصدرت 6 مراسيم، 4 منها مازالت سارية إلى الآن رغم أنها سُنّت لسنة واحدة: المرسوم 87، 88، 115 و116.
- بخصوص كتابكم مجتمع الثورة وما بعد الثورة: أولًا العنوان يوحي إلى ما بعد الرأسمالية أو الليبرالية المتوحشة، كذلك يوحي إلى أطروحات سمير أمين حول ما بعد الرأسمالية. هل هذا ما أردتم الإيحاء به عبر هذا العنوان؟
بطريقة برقية، وباختصار شديد، ليس للمسألة أي علاقة بهذا الاستبطان أو أطروحات هنتنغتون وفوكوياما، ولا أعني انتهاء زمن الثورات. فقط العنوان يشير إلى المسألة التعاقبية بين الحدث، وهو الثورة، وما بعده فيما يخص المجتمع المنبثق، أو الذي عايش أحداث 2011 وما بعدها. هذا فقط.
المولدي قسومي لـ"الترا تونس": الصادق بلعيد وقيس سعيّد يعيشان حالة غبن من 2011 ويريدان إعادة خوض غمار كل تلك النقاشات حول الهوية والإسلام
- عقب 25 جويلية/يوليو، شاع رأي أن الإسلام السياسي انتهى في تونس، ما رأيكم؟
بكل وضوح، لا، لم ينتهِ الإسلام السياسي في تونس. بل إن قيس سعيّد أنقذ الإسلاميين من حالة التدمير الذاتي التي كانوا يعيشونها، وأعطاهم فرصة إعادة البناء. أبعد من ذلك، قيس سعيّد هو صيغة بديلة عن الإسلام السياسي في نسختها الإخوانية. أخيرًا، مراودة الصادق بلعيد للفصل الأول ستكون النسخة الجديدة من "برسيبوليس". كما قلت لك، بلعيد وسعيّد يعيشان حالة غبن من 2011، ويريدان إعادة خوض غمار كل تلك النقاشات حول الهوية والإسلام.
- في خلاصة النص، انتهيتم إلى أن الديمقراطية التونسية لم تفشل، وإنما المجتمع التونسي هو الذي فشل في امتحان الديمقراطية. لكن من جهة أخرى، أشرتم في أكثر من موضع إلى التشوه الجيني الذي عانى منه المجتمع في ولادته الثانية، إذ الدولة هي التي خلقت الطبقات والمجتمع وليس العكس. فكيف يمكن حسب تصوركم حلّ هذه المعضلة التونسية؟
نحن مجتمع نتميز بضحالة العقل السياسي، وهو ما منعنا من إنجاح الديمقراطية وإرساء الناموس الديمقراطي. يعني باختصار، لا يمكن بناء ديمقراطية ديمقراطيين. أما الحل فهو مسألة تاريخية.