مقال رأي
لم يكن إدراج المسرح كنشاط ثقافي تربوي داخل المدارس النظامية غداة الاستقلال سوى خيارًا محايثًا لتلك المعركة التي مازالت ارتداداتها بادية الى اليوم بين المحافظين والعصريين، وأيضًا لتلك النزعة الطاغية لدى النخبة السياسية التي قادت دولة الاستقلال إلى نسف كل قديم والاستعاضة عنه بكل ما هو حديث قادم من أوروبا حيث درسوا وربطوا علاقات متينة.
كان المسرح حينها شكلًا من أشكال التقدّم وطريقة للتعبير والترفيه وهو ما أكّده الخطاب الشهير للزعيم الحبيب بورقيبة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1962 حول المسرح والذي يعتبره أهل المسرح إلى اليوم الوثيقة المرجع لكل فعل تأسيسي يهم الحركة المسرحية في تونس. وقد بنى الرئيس الراحل مسرحًا صغيرًا بقصر الرئاسة بقرطاج كان يحتضن عروضًا مسرحية وفنيّة تونسية وأجنبية.
انطلق النشاط المسرحي المدرسي مبكرًا في تونس تحت شعار رُدد كثيرًا في فترة التأسيس وهو "اعطني مسرحًا أعطيك شعبًا عظيمًا" وهو لا يزال مكتوبًا إلى اليوم على جدران أروقة بعض المدارس القديمة
ورغم وضوح المقاصد وخاصة السياسي منها التي انبنى عليها تأصيل المسرح بالمدارس وفي الساحة الثقافية بشكل عام، إلا أن المؤرخين الثقافيين اعتبروا أن كلّ ذلك كان أيضًا أرضية خصبة هيّأت لحركة مسرحية تونسية متنوعة ومثمرة واستشرافية ومختلفة في نفس الآن عن باقي المسارح العربية.
انطلق النشاط المسرحي المدرسي مبكرًا في تونس تحت شعار رُدد كثيرًا في فترة التأسيس وهو "اعطني مسرحًا أعطيك شعبًا عظيمًا" وهو لا زال مكتوبًا إلى اليوم على جدران أروقة بعض المدارس والمعاهد القديمة. وعرفت مسارات هذا النشاط المسرحي وتعاريجه توهجات ونجاحات أشار إليها بدقة محمود الماجري، وهو أحد رموز المسرح المدرسي بتونس، في كتابه "وثائق المسرح المدرسي التونسي" الصادر سنة 2009 والذي خلص فيه الى غياب التوثيق واندثار الارشيفات والوثائق الخاصة بالأحداث والرموز والنشطاء والمؤسسات ذات العلاقة بالمسرح المدرسي.
اقرأ/ي أيضًا: علي بن عياد.. أسطورة المسرح التونسي
وهو ما يجعلنا نفهم أنّ إهمالًا ما حصل في الأثناء لهذه الحركة الثقافية والفنية داخل المدرسة التونسية مما أدّى إلى حالة من الوهن والتفكك مازالت تلقي بظلالها إلى اليوم بالرغم من تجدد الرؤى ووجود طيف جديد من مثقفين ومسرحيين تونسيين يعتقدون راسخًا في المسرح المدرسي كفعل تربوي وثقافي مهم بالنسبة للأجيال القادمة.
وفي اعتقادنا أن ما حصل للمسرح المدرسي خلال العشريتين الأخيرتين هو غياب الاستمرارية والتواصل بين الأجيال التي تدير هذا الشأن في وزارة التربية وفي وزارة الشؤون الثقافية وذلك رغم وجود شراكات عديدة بين الوزارتين المذكورتين ووجود نصوص قانونية وترتيبية تنظم العلاقات في أدقّ تفاصيلها.
كما تغيب أيضًا عن وزارة التربية التصورات الحديثة من أجل إنعاش المسرح المدرسي، إذ نراها تكتفي بتدريس مادة التربية المسرحية في المستوى الاعدادي وتشرف على بعض المهرجانات الخاصة بالمسرح في الوسط المدرسي حيث يغيب الابتكار والتجديد والتواصل والإشعاع على الساحة المسرحية.
شهدت المدرسة التونسية تراجعًا في عدد نوادي المسرح ويمكن أن نردّ ذلك إلى تهميش الزمن الثقافي وفسح المجال واسعًا لزمن دروس التدارك إضافة إلى زحمة المواد وغياب الفضاءات والمؤطرين المسرحيين
زد على ذلك، شهدت المدرسة التونسية تراجعًا في عدد نوادي المسرح ويمكن أن نردّ ذلك إلى تهميش الزمن الثقافي وفسح المجال واسعًا لزمن دروس التدارك إضافة إلى زحمة المواد وغياب الفضاءات والمؤطرين المسرحيين داخل المدارس. هذا فضلًا عن الغياب التام للوعي بأهمية النشاط المسرحي لدى غالبية المسؤولين والمسيّرين بالمؤسسات التعليمية وعدم التزامهم بالمناشير المنظمة للفعل المسرحي والثقافي بشكل عام وتجنّبهم التواصل مع النسيج المدني الذي ينشط في مجال المسرح، وأيضًا عدم تواصلهم مع المؤسسات الثقافية والشبابية المجاورة لمؤسساتهم.
كما تغيب أيضًا الاعتمادات المادية الخاصة بالمسرح المدرسي في ميزانيات المدارس والمعاهد وينجرّ عن ذلك غياب التحفيز وزوال الشغف لدى الناشئة ولدى المؤطرين وضمور الإرادات الصغيرة لدى المسؤولين والمشرفين على الشأن الثقافي بالمدارس.
لقد حان الوقت أن نعيد للمسرح المدرسي بهاءه ولمعانه والنأي به عن كونه مادة تدرّس بروح ديداكتيكية بل بروح فنيّة تنحت كيانات الأطفال واليافعين من الداخل وتغرس في أرواحهم الصغيرة نبالات الفنّ حتى يكونوا فيما بعد مواطنين أسوياء ينبذون العنف ويعيشون في سلام مع باقي المجتمعات.
وربما يعبر البعض منهم عبر بوابة المسرح المدرسي نحو الحياة المسرحية الواسعة تمامًا كما كان يحدث في أزمنة سابقة في السبعينيات والثمانينيات، إذ أن أغلب الأسماء المسرحية الألمعية اليوم التي صنعت لنفسها أمجادًا تتباهى بها تونس نشطت في بداياتها في أفنية المسرح المدرسي ونذكر منهم رؤوف بن عمر، والفاضل الجعايبي، وجليلة بكار، ومحمد إدريس، والفاضل الجزيري وحمادي المزي.
من البوادر المشجعة التي تنمّ عن عودة الأمل للمسرح المدرسي في تونس هو بعث الدورة الأولى لـ"أيام قرطاج للمسرح المدرسي"
لقد حان الوقت أن نعيد المسألة إلى قاعدة الالتزام بالقوانين المنظمة للمسرح المدرسي سواء داخل وزارة التربية نفسها أو مع شركائها والمتقاطعين معها في الموضوع ذاته ومراجعة القوانين القديمة وتوضيح النصوص الغامضة وتحديد المسؤوليات وضبط خطط عمل استراتيجية تتوفر لها ظروف التطبيق حتى وإن تغير أصحاب المسؤولية.
ومن البوادر المشجعة التي تنمّ عن عودة الأمل للمسرح المدرسي هو بعث الدورة الأولى لـ"أيام قرطاج للمسرح المدرسي" من 7 إلى 15 ديسمبر/كانون الأول 2019 لتكون في صميم فعاليات مهرجان "أيّام قرطاج المسرحية" بداية من 2019 وهي ثمرة شراكة بين "الجمعية التونسية لمدرّسي التربية المسرحية " وإدارة أيام قرطاج المسرحية.
وقد احتضنت فعاليات هذه الدورة عدة فضاءات ثقافية بالجهات وخاصة بالمركب الثقافي المدرسي محمود المسعدي بالعاصمة الذي قدم يومي 8 و9 ديسمبر/كانون الأول 2019 مجموعة من العروض المسرحية المدرسية بمشاركة 12 مؤسسة تعليمية من جهات تونسية عديدة وبتأطير من أساتذة التربية المسرحية التابعين لوزارة التربية. قد تكون هذه المبادرة ممكنًا آخر لمسرح مدرسي لطالما كان له دوره الحيوي في المشهد الثقافي التونسي محليًا وعربيًا.
اقرأ/ي أيضًا: