عاشت سوسة، مساء الجمعة 18 فيفري/شباط 2022، على وقع إعادة تصدير "حاويات"، انطلاقًا من الميناء التجاري للمدينة، وهي تحمل موادًا لم تكن قمحًا ولا فسفاطًا ولا جوهرًا أو ألماسًا بل هي نفايات تم جلبها من إيطاليا منذ جوان/يونيو 2020 بطرق غير قانونية.

لم تكن الحركة عادية في الميناء التجاري بسوسة بل كانت الاستعدادات حثيثة من أجل "تحرير" الرصيف عدد 5 من حاويات احتلته لأكثر من سنة ونصف.

لم تكن الحركة عادية في الميناء التجاري بسوسة بل كانت الاستعدادات حثيثة من أجل "تحرير" الرصيف عدد 5 من حاويات احتلته لأكثر من سنة ونصف

وقد رافق عملية "الإجلاء" احتفاء بدخول باخرة تابعة للناقل البحري "اركاس" للميناء، ترافقها تشكيلات بحرية مختلفة من حرس بحري وديوانة وجيش وطني لترسو في حدود الساعة الواحدة والنصف.

وقد وجدت في انتظارها جميع المتدخلين الحكوميين وممثلي جمعيات وطنية تعتني بالبيئة وإعلاميين لنقل هذا الحدث، الذي وصفته وزيرة البيئة التونسية ليلى الشيخاوي "بالتاريخي".

وأشارت الوزيرة لوسائل الإعلام ومنها "الترا تونس" أن "ميناء سوسة التجاري يشهد أول عملية إعادة تصدير نفايات باتجاه مصدرها الأول وذلك منذ إقرار اتفاقية بازل واتفاقية باماكو وبروتوكول أزمير واتفاقية برشلونة".

اقرأ/ي أيضًا: فضيحة النفايات بميناء سوسة التجاري: تونس من "مطمور روما" إلى "مزبلة إيطاليا"


النفايات الإيطالية الموردة بطرق غير قانونية إلى تونس أثارت الرأي العام التونسي وأخذت منعرجات قضائية خطيرة باعتبارها انتهاكًا لحرمة التراب التونسي واستثمارًا اقتصاديًا محرّمًا دوليًا وقّعته مؤسسة خاصة في مجال رسكلة النفايات وتورط في هذا الملف إداريون ومسؤولون حكوميون لا يزال عدد منهم رهن الإيقاف في السجون التونسية في حين لاذ صاحب المؤسسة الموردة بالفرار خارج الوطن.

النفايات الإيطالية الموردة بطرق غير قانونية إلى تونس أثارت الرأي العام التونسي وأخذت منعرجات قضائية خطيرة باعتبارها انتهاكًا لحرمة التراب التونسي واستثمارًا اقتصاديًا محرّمًا دوليًا

وكان الحريق الذي عرفته الشركة الموردة في معتمدية مساكن بولاية سوسة في 29 ديسمبر/كانون الأول 2021، محطة سوداء في تاريخ تونس البيئي بعد أن تم حرق جزء من النفايات المحجوزة بأحد مخازن الشركة وذلك لطمس معالم الجريمة وخاصة منها المقادير المحجوزة.

هي إذًا 213 حاوية من النفايات بقيت رابضة بالرصيف عدد 5 بميناء سوسة التجاري تم شحنها في أول دفعة، في حين احترقت 69 حاوية في مخازن الشركة الموردة.

وكانت قد صدّرت في سنة 2020 الشركة الإيطالية "فيلوبو ريزورز امبيانتالي"، وبشكل غير قانوني 282 حاوية من النفايات البلدية المختلطة إلى تونس بدعوى كاذبة مفادها أن النفايات تمت معالجتها وسيتم إعادة رسكلتها وهي في الواقع، نفايات منزلية مختلطة، تصعب عملية إعادة رسكلتها.

اقرأ/ي أيضًا: النفايات الإيطالية في تونس.. كل الطرق تؤدّي إلى روما

وفي تصريح لـ"الترا تونس"، قال ربيع المجيدي، وزير النقل التونسي، إن "مسار المفاوضات للمطالبة بالتعويضات اللازمة بعد الضرر الذي لحق الميناء التجاري بسوسة متواصل"، مشددًا في ذات السياق على "الحرص على ضمان حرمة مختلف الموانئ التونسية باعتبارها مناطق ذات سيادة"، وفقه.

القضية أعادت إلى السطح "المسألة البيئية" في تونس والتخبط  في ردم النفايات المنزلية المحلية التي تقدّر بآلاف الأطنان وتصاعد وتيرة أزمة المصبات المنظمة وتفكك منظومة رفع وتجميع النفايات البلدية بعد إغلاق عدد من المصبات على شاكلة مصب عقارب. 

قضية النفايات الإيطالية أعادت إلى السطح "المسألة البيئية" في تونس والتخبط في ردم النفايات المنزلية المحلية التي تقدّر بآلاف الأطنان وتصاعد وتيرة أزمة المصبات المنظمة وتفكك منظومة رفع وتجميع النفايات البلدية

كما أعرب العديد من المتداخلين في الملف البيئي عن هشاشة المنظومة القانونية  المنظمة لقطاع النفايات والخروقات في الحصول على رخص رسكلة النفايات واستئثار لوبيات في المجال البيئي بهذه الرخص التي تتمتع بدعم مادي ضخم.

وقد اشتد النقاش المجتمعي والمؤسساتي حول تحصين تونس من عصابات بيئية تورد النفايات عبر شركات مصنفة بيئيًا وتصنف بالمصدرة كلّيا تحت عناوين الرسكلة والتجميع والتثمين.

وبالتوازي مع ذلك انتظمت حلقات نقاش في تونس تدعو إلى حوكمة الوكالة الوطنية لتثمين النفايات ودفع البلديات إلى شراكة حقيقية مع مؤسسات الدولة لتثمين النفايات وإعادة دمجها في الدورة الاقتصادية باعتبار أن الاشتغال على النفايات يعتبر قطاعًا يدعم الاقتصاد الأخضر ويفترض حلولاً جديدة مثل إنشاء مؤسسات بيئية عمومية وخاصة ذات طابع ربحي.

اقرأ/ي أيضًا: الكرباعي: تقارير عديدة أثبتت أنّ "مافيا بيئية جعلت من تونس مزبلة أوروبا"

في هذا السياق، يقول حمادي الخصيبي، رئيس مصلحة النظافة ببلدية سوسة، لـ"الترا تونس" في خصوص رفع النفايات: "لا بد من إدماج القطاع الخاص في مجال رسكلة النفايات وجمعها بالشراكة مع جمعيات المجتمع المدني ولابد من سند ودعم من الدولة".

رئيس مصلحة النظافة ببلدية سوسة لـ"الترا تونس": لا بد من إدماج القطاع الخاص في مجال رسكلة النفايات وجمعها بالشراكة مع جمعيات المجتمع المدني

وفي مقابلة مع "الترا تونس"، أثار سهيل عبد القادر، المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات بسوسة: "لا بد من شراكة حقيقية بين البلديات والوكالة والخواص من أجل مستقبل أفضل للبيئة ومزيد من حملات التحسيس بالاستعانة مع المجتمع المدني". 

وأضاف عبد القادر "الوكالة الوطنية للنفايات ليس لها إمكانيات كاملة لمراقبة الشركات التي تعنى بالرسكلة ولابد من تظافر مجهود جميع المتدخلين في المراقبة ولا بد من إعادة النظر بالكامل في آليات المحافظة على البيئة".

المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات بسوسة لـ"الترا تونس": "الوكالة الوطنية للنفايات ليس لها إمكانيات كاملة لمراقبة الشركات التي تعنى بالرسكلة"

من جانب آخر، أكدت إيهاب الطرابلسي، ناشطة في المجتمع المدني، لـ"الترا تونس" على الدور المهم للمجتمع المدني في التوعية واعتبرت أن الاعتناء بالبيئة ليست اختيارًا بل أمرًا ملزمًا وضروريًا والخطر البيئي صار محدقاً ونحن ملزمون بالانتباه لأن الأرض في خطر وفي تونس 2022 لا يقوم المجتمع المدني بدوره اللازم"، وفقها.

وأضافت الطرابلسي أن "النتيجة التي وصلنا إليها بإعادة النفايات الإيطالية إلى البلد المنشأ جددت الحلم وبعثت الأمل لدى التونسيين ببيئة سليمة، ونحن قد اعتبرنا في المجتمع المدني أن توريد مثل هذه النفايات الخطيرة اغتصاب لإرادتنا في بيئة سليمة، فنحن رفضنا دفنها في بلادنا وربحنا قضيتنا.. فما صار على أرض تونس هو انتهاك لها".

إيهاب الطرابلسي، ناشطة في المجتمع المدني، لـ"الترا تونس": إعادة النفايات الإيطالية جددت الحلم وبعثت الأمل لدى التونسيين ببيئة سليمة، ونحن قد اعتبرنا في المجتمع المدني أن توريد مثل هذه النفايات الخطيرة اغتصاب لإرادتنا في بيئة سليمة"

إن أزمة النفايات الإيطالية كشفت عن منظومة هشة في النظام الإداري والقانوني وتكوين الشركات مما دفع "مافيا النفايات" إلى استسهال توريد هذه المواد المحرّمة دوليًا ودفع الجميع إلى إعلان الاستنفار العام رغم صعوبة الوضع الاقتصادي في تونس وعدم الاستقرار السياسي الذي يفتح أبواب المشاكل البيئية والاجتماعية والمالية على مصراعيها، كما كشفت الأزمة عن "إدارة صلبة وبيروقراطية مقيتة" أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكرباعي: السلط التونسية رفضت التعاون مع السلط الإيطالية في ملف النفايات

حوار| باعث شاب: الدولة أجهضت مشروعي لتحويل النفايات إلى طاقة متجددة

في تونس.. شركة رائدة في مجال البيئة تشتري منك قمامتك المنزلية