مقال رأي
كان تشكيل تحالف سياسي واسع لمواجهة الانقلاب والدفاع عن الدستور والديمقراطية فكرةً تبلورت لدى روّاد الحراك المواطني منذ الشهر الأول للانقلاب، وتأكّدت مع أول تحرّك ميداني مناهض للانقلاب يوم 18 سبتمبر/أيلول 2021. وأنّ من أهم عوامل النجاح في تجاوز الانقلاب لقاء أوسع القوى الديمقراطية على مواجهته.
غير أنّ شروط هذا البناء السياسي الجبهوي لم تجتمع إلاّ بعد دخول الانقلاب في شهره التاسع. وكان آخر فعاليات "مواطنون ضد الانقلاب" الميدانيّة في الاحتفال بذكرى عيد الشهداء 1938 بشارع الثورة السياق الذي أعلن فيه الأستاذ أحمد نجيب الشابي أحد رموز النضال الديمقراطي ومقارعة الاستبداد وأحد الوجوه السياسيّة البارزة في سنوات الانتقال العشر. وهو من بين من بادروا إلى رفض منحى قيس سعيّد الانقلابي منذ 25 جويلية/يوليو 2021 رغم موقفه النقدي من منظومة الحكم المنبثقة عن الانتخابات 2019 واختلافه مع أداء جانب ممن تمّ تفويضهم للحكم في سنوات التأسيس الديمقراطي. وهذا ما مثّل نقطة تقاطعه المهمّة مع "مواطنون ضد الانقلاب".
- سياق ظهور الجبهة
لا يختلف اثنان في كون الجبهة جاءت تتويجاً لمسار من مواجهة الانقلاب قاده "مواطنون ضد الانقلاب". وقد كانت هذه المبادرة المواطنية "ما فوق حزبية" بادرت إلى خرق الصمت الذي خيّم على المشهد السياسي. فكان النزول إلى الشارع في تظاهرات احتجاجية بدأت محدودة وانتهت إلى شارع متمدّد يدافع عن الدستور ويطالب باستعادة المسار الديمقراطي واستكمال ما لم يبْنَ من مؤسسات.
راكم الحراك المواطني في تونس نتائج سياسية متقدّمة منها دحض أسطورة التفويض الشعبي لسعيّد، فرض حقيقة الصراع على أنه صراع انقلاب/ديمقراطية واستنهاض دور البرلمان
راكم الحراك المواطني نتائج سياسية متقدّمة يمكن إجمالها في ثلاث نتائج:
وبعد أشهر من الكفاح الميداني والحضور الإعلامي بخطاب سياسي جذري أتقن إدارة معركة الدفاع عن الديمقراطية وشروطها ومواجهة خطاب يبرر الانقلاب على الدستور والديمقراطية بدعاوى التصحيح ومقاومة الفساد، راكم الحراك المواطني نتائج سياسية متقدّمة يمكن إجمالها في ثلاث نتائج:
ـ دحض أسطورة التفويض الشعبي التي كان يستظلّ بها قيس سعيّد، وتبيّن أنّ الانقلاب لا شارع فعليًّا له. وتأكّد هذا من خلال ضعف الشارع المدافع عن الانقلاب رغم دعوات قيس سعيّد نفسه أنصاره (الشعب بلغته هو) إلى التظاهر. ومن بينها دعوة للتظاهر وجّهها من وزارة الداخلية في الهزيع الأخير من الليل، وحرّض على القضاء والقضاة والمجلس الأعلى للقضاء. ولكن لم تكن هناك استجابة تذكر، وكان نزول بضعة عشرات تعرية فعليّة لشعبيّة متخيّلة. وفي المقابل أمكن للمبادرة المواطنيّة أن تُظهِرَ إلى الواجهة شارعًا ديمقراطيًّا لا يقبل بالتنازل عن الديمقراطية وأن جعل من الديمقراطية "مطلبًا سياسيّا" في موجة عاتية من ترذيل الديمقراطية وتحميلها مسؤوليّة الأزمة المركّبة.
ـ فرض حقيقة الصراع على أنّه صراع انقلاب/ديمقراطية، رغم سعي بلا جدوى إلى تشويه حقيقته بجعله مواجهة بين مسار تصحيحي ومنظومة حكم فاسدة. وقد كان جهد الانقلاب منصبًّا على تغيير عنوان المعركة هذا من خلال الاختطاف، والإحالة على القضاء العسكري، ومحاكمة المدوّنين، واستهداف نشطاء الحراك المواطني، والتضييق على الحريّات الفردية والعامة.
ـ استنهاض دور البرلمان باعتباره المؤسسة الأصلية. ولقد تضمّنت المبادرة الديمقراطية التي عرضها مواطنون ضدّ الانقلاب في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في ندوة صحفيّة بالشارع في بندها الأوّل الدعوة إلى عودة البرلمان. وأفضى العمل على استعادة دور البرلمان إلى عقد جلسة يوم 30 مارس/آذار 2022 انتهت بالتصويت على قانون يلغي كل الأوامر الاستثنائيّة وفي مقدّمتها الأمر 117 الانقلابي.
- طبيعة الجبهة ومهمّتها
إذا كانت الجبهة تتويجًا لمسار خاضته القوى الديمقراطية في مواجهة الانقلاب على مدى تسعة أشهر فإنّ هذه الجبهة لن تكون إلاّ سياسية. والصفة السياسيّة للجبهة تتّصل بمستويين اثنين يجتمعان في مهمّة مزدوجة للجبهة: استكمال مهمّة إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي. وتأكّدت هذه المعاني بالوضوح المطلوب في الندوة الصحفيّة التي عقدها الأستاذ نجيب الشابي وأعلن فيها الانطلاق في تشكيل جبهة الخلاص الوطني بحضور مكونات الجبهة السياسية (5+5) لانضمام خمسة أحزاب سياسية وخمس مبادرات مواطنية إلى جانب الشخصيات الوطنية والعلمية والأكاديمية. وأعلنت الجبهة إطارًا سياسيًّا مفتوحًا لكلّ مناهضي الانقلاب انطلاقًا من مرجعيّة الدستور ومسار بناء الديمقراطية. فالدستور والمسار الديمقراطي مثّلا هدفًا مباشرًا للانقلاب.
جبهة "الخلاص الوطني" هي تتويج لمسار خاضته القوى الديمقراطية في المواجهة على مدى 9 أشهر ولها مهمة مزدوجة: استكمال مهمة إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي
ولعلّ أهمّ ما يميّز هذه الجبهة أنّها ليست إطارًا سياسيًّا فارغًا تضع فيه الأحزاب والفعاليّات "شهواتها"، وهي ليست شكلاً يبحث عن مضمونه. الجبهة مضمون سياسي يضبطه الموقف الجذري من الانقلاب، ويرسم حدوده الدفاعُ عن الدستور والديمقراطية وإنقاذ الدولة واستعادة مؤسساتها. فالجبهة بهذا المعنى مضمون يبحث تدريجياً عن شكله وإطاره الملائم ومكوّناته السياسية الفاعلة والقادرة على الاضطلاع بمهمّة غلق قوس الانقلاب والتقدّم نحو مسار بناء الديمقراطية ومحو آثار الانقلاب.
ومن جهة أخرى هي جبهة لا تتحدَّدُ بالسلب فتشير إلى من تختلف عنهم. هي جبهة تتحدّد بالإيجاب لتقول مَنْ هي مِنْ خلال المهمّة المزدوجة المشار إليها: إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي. وهي الخطوة الأولى نحو الشروع الفوري في عمليّة الإنقاذ من خلال حكومة إنقاذ اقتصادي تتولّى مواجهة العاجل من تداعيات الأزمة الماليّة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد. أزمة فاقمها الانقلاب بعبث شامل لم يستثن مؤسسات الدولة ولا أساسها القانوني.
فقيس سعيّد لم يجمع بين يديه، السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعيّة والقضائيّة) وإنّما أضاف إليها السلطة الرقابيّة من خلال رغبته في السيطرة على الإدارة دون أن يتوفّر عنده وعند فريقه الحدّ الأدنى من المعرفة بأروقتها وبمشاكلها الهيكليّة وبأمراضها المزمنة، وبما تستوجبه من إصلاح. ويتّجه إلى أن ينصّب نفسه سلطة تأسيسيّة (أوامر لا مشروعيّة لها إلاّ كونها تعبيرًا عن رغبة المنقلب الشخصيّة).
تنطلق عملية الإنقاذ من خلال حكومة إنقاذ اقتصادي تتولّى مواجهة العاجل من تداعيات الأزمة المالية الاقتصادية التي تعصف بالبلاد
- حدثان سياسيان فارقان
تُوِّجت مواجهة الانقلاب بحدثين سياسيين على قدر كبير من الأهميّة، تمثّل الأول في الجلسة البرلمانيّة الافتراضية المنعقدة يوم 30 مارس 2021 ، وانتهائها إلى التصويت على قانون يُنهي العمل بكلّ ما صدر من أوامر بعد 25 جويلية. ويمثّل التصويت من وجهة نظر القانون إسقاطاً للانقلاب وشطبًا لكلّ آثاره "التشريعيّة".
وكان لهذه الجلسة وقعٌ كبير على المشهد السياسي وعلى الانقلاب الذي بادر بتحريك النيابة العموميّة وجهاز الداخليّة بغاية التحقيق مع النواب الذين شاركوا في الجلسة البرلمانيّة الافتراضيّة، وإحالتهم على فرقة مقاومة الإرهاب.
وأمّا الحدث الثاني فكان إعلان الأستاذ نجيب الشابي من شارع الثورة، يوم 10 أفريل/ نيسان الجاري عن مبادرته بتشكيل جبهة للخلاص الوطني تتصدّى لغلق قوس انقلاب والدخول في إعداد البديل الوطني.
وهذان الحدثان يدفعان بالمشهد السياسي إلى مزاج يُشعِر بالدخول إلى مرحلة "ما بعد الانقلاب". فقيس سعيّد بخطابه النمطي المكرور يراوح مكانه. ومنه كلمته في ليلة السابع والعشرين من رمضان، فعوض أن يحترم المناسبة الفضيلة لم يستطع الخروج من سطوة خطاب التقسيم والتكفير وبثّ الشكّ في نفوس الناس واهتزاز ثقتهم بالدولة وبمن اغتصب السلطة بالانقلاب، ولم يستطع أن يتجاوز عجزه المطلق عن البناء. فهو لم يتقن غير الهدم الذي يكاد يأتي على الدولة.
سعيّد لم يجمع بين يديه، السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعيّة والقضائيّة) وإنّما أضاف إليها السلطة الرقابيّة من خلال رغبته في السيطرة على الإدارة ويتّجه إلى أن ينصّب نفسه سلطة تأسيسيّة
لا مبالغة حين نسمح لأنفسنا بالتمييز بين ما قبل الإعلان عن البدء في تشكيل جبهة الخلاص الوطني وما بعده. فتشكيل الجبهة يدشّن مرحلة جديدة وتحوّلاً نوعيًّا في مشهد الصراع بين الانقلاب والشارع الديمقراطي. وتأتي الجبهة لتمثّل تحوّلاً نوعيًا في الصراع المحتدم بين الانقلاب والديمقراطيّة في ظلّ أزمة ماليّة اقتصاديّة خانقة تنذر بتدهور شامل يطول المؤسسة والسياسة والسوق ومعيشة الناس وأمنهم.
- ما بعد تشكيل الجبهة مختلف عمّا قبله
وتمثّل الجبهة من ناحية أخرى حدثًا نوعيًّا في ظلّ ما يعرفه المشهد الحزبي من إنهاك وتفكّك، وفي ظلّ رغبة المقاومة المواطنيّة في أن تُصرّف مسارها الكفاحي الذي امتدّ على مدى تسعة أشهر في حل سياسي على قاعدة الدستور والديمقراطية وتكون الجبهة السياسية (جبهة الخلاص الوطني) بمثابة أداة إنقاذ وعاملاً حاسماً في الخروج من الأزمة.
وتستدعي أولويّة الإنقاذ ردّ قيس سعيّد إلى مربّعه الذي ضبطه الدستور (في انتظار أن ينظر القضاء في أمره)، وتكليف شخصيّة وطنيّة (بخلفيّة اقتصاديّة عنده أو ضمن فريقه) بتشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي يمنحها البرلمان الثقة وتبادر إلى حلول عاجلة في الموضوع المالي والاقتصادي والاجتماعي المعيشي، وتهيّء شروط الإصلاحات الكبرى والاستراتيجيّة من خلال حوار وطني لا يقصي أحدًا بأفق استعادة المسار الديمقراطي وإعادة بناء الاقتصاد والدولة. وفي كلمة فإنّ شرطين لا غنى عن توفّرهما في الشخصيّة المكلفة بترؤّس حكومة الإنقاذ: الخلفية الاقتصادية والمالية، والوصول بالمشهد السياسي إلى انتخابات شفافة ونزيهة في مدّة يتمّ الاتفاق بشأنها.
تستدعي أولوية الإنقاذ تكليف شخصية وطنية بتشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي يمنحها البرلمان الثقة وتبادر إلى حلول عاجلة في الموضوع المالي والاقتصادي والاجتماعي المعيشي
هذا الأفق الذي يفتحه قيام جبهة الخلاص الوطني، وينتظر أن تتوسّع سريعًا وأن تكون عامل حسم في جمع أبناء تونس على بناء مشترك مرحلي لا غنى عنه لإنقاذ البلاد. وستمثّل الجبهة على المستوى الإقليمي والدولي معطى جديدًا عند شركاء تونس يمكن البناء عليه.
التسويات الكبرى تنجزها النخب، ورغم ما تعرفه النخبة التونسيّة من تردّ، فإنّ انطلاق تشكيل الجبهة يعيد الأمل في قدرة هذه النخبة على الإفاقة والتقدّم نحو دورها التاريخي والخروج بالبلاد من عبث لا يليق بتونس كرّسه الانقلاب ومن يقف وراءه من بقايا لوبيات القديم.
نتيجة مهمّة بدأت ترتسم وهي أنّ المعركة قد حسمت لصالح الديمقراطيّة، ذلك أنّ إزاحة غلق قوس الانقلاب لن يسجّل إلاّ على أنّه انتصار للديمقراطيّة حتّى وإن تولّى الأمر غير الديمقراطيين. وسيكون إسقاط الانقلاب في وقت قياسي في المجال العربي وبوسائل مواطنيّة ديمقراطيّة زلزالاً ستمتدّ ارتداداته لتهزّ بقايا نظام الاستبداد العربي… ما بعد تشكيل الجبهة لن يكون كما قبله.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"