مقال رأي
تتفاقم سنة بعد أخرى معضلة الشباب التونسي في تعلم اللغات، خاصة اللغة العربية، لتغدو لغتهم هجينة عصيّة عن الفهم. فالتلميذ في تونس اليوم قد انتهى إلى مرحلة فقد فيها القدرة على كتابة جملة واحدة سليمة نحوًا وصرفًا وبنية ومعنى، ولعلّ الأمر أصبح عائقًا حقيقيًا أمام التعبير والتواصل والإبداع ما يدعونا إلى التدقيق في أهم العوامل الكامنة وراء ذلك.
تخضع الدولة التونسية إلى إملاءات صندوق النقد الدولي الذي فرض عليها نظامًا تعليميًا معينًا
قبل سنتين، درست اللغة الألمانية بأحد نوادي اللغة وفق برنامج "معهد غوته" المطابق لمنهج تعليم اللغات بأوروبا، ولم يكن من العسير عندئذ استيعابها رغم صعوبتها، ذلك أن أول ما يتعلمه الطالب هو قراءة الحروف ونطقها وكتابتها ثم يتعلم بعض المفردات والكلمات المهمة، وفي مرحلة موالية يتعرّف على مكونات الجملة وطريقة تركيبها، فيدرس حينئذ النحو والصرف ليصل في النهاية إلى مرتبة تخوّله قراءة نص كامل مدركا أغلب معانيه.
أما نظام التعليم الحكومي التونسي فيخضع إلى مقاربة تعليمية يحكمها منطق معاكس تمامًا، حيث يتدرّب التلميذ على قراءة النص أوّلًا دون قدرة على قراءة الحروف، فيضطر إلى حفظ النص عن ظهر قلب كأنه بذلك يداري عجزًا في تهجية الحروف وقراءتها مفردة، وفي نهاية السنة تتم الإشارة إلى طريقة كتابة الكلمات ثم نطق الحروف.
إن هذا المنطق المعاكس قد يحبط عزائم التلميذ فيشعره بغباء هو منه براء. ولكننا نعلم جيدًا أن الدولة التونسية تخضع منذ سنوات عديدة إلى إملاءات صندوق النقد الدولي الذي فرض عليها نظامًا تعليميًا مُسقطًا في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي ممّا أنتج جيلًا لا يجيد التواصل الفصيح، ولا يتقن التعبير البليغ، ويعجز حتى عن الحديث بلغته الأم، بل يعتبر كلّ متحدث بها متخلّفًا أو فاته ركب الحداثة، وفي المقابل يحظى كل من يمزج العربية بالفرنسيّة بكلّ التقدير والإكبار كأن ذلك رمز للحداثة والتقدّم.
في الحقيقة لا ينم ذلك إلّا عن عجز في التواصل بالعربية وعجز عن الإلمام باللغتين. ولعلّ ما يدعّم تراجع مكانة اللغة العربيّة هو صورة مدرّس العربيّة الذي يكون دائمًا موضوع تندّر وسخرية في وسائل الإعلام، مّا أفقد اللغة العربية قيمتها الاعتبارية في صفوف الشباب.
من الضروري أن يقتنع التلميذ التونسي في سن صغيرة أن تعليم اللغات وإتقانها، من أبرز المهارات التي يجب أن تتوفّر فيه للحصول على وظيفة محترمة في المستقبل وهي سبيله للانفتاح على العالم
وقد لا يقتصر هذا الإشكال على تعلم اللغة العربية فحسب، بل يتجاوزها إلى بقيّة اللغات إذ يتمادى العجز إلى صفوف المتميّزين فنجدهم يواجهون بعض الصعوبات أحيانًا في فهم الدروس العلميّة باللغة الفرنسيّة، كما يتهرّب أغلب التلاميذ من دراسة لغة أجنبية رابعة كمادة اختيارية في الصفوف النهائيّة، فيلجؤون إلى دراسة المواد الفنيّة بديلًا عن ذلك.
وفي الفترة الأخيرة تعالت الأصوات مطالبة بالتركيز على تعليم الإنجليزية في المدارس الابتدائية، إضافة إلى العربية والفرنسية على غرار عدّة دول مجاورة كالمغرب، ذلك أن أغلب المراجع والبحوث العلميّة التي يحتاج إليها الطالب لا تتوفّر إلّا باللغة الإنجليزية.
ولما أثبتت بعض الدراسات العلمية أن الطفل في سن السابعة يكون قادرًا على استيعاب أكثر من ست لغات، فقد عمدت بعض المدارس التونسية الخاصة إلى إدراج تعليم اللغة الفرنسية والإنجليزية منذ السنوات الأولى، لكنّ أغلبها لم يُوفَق في خلق أجواء تعليميّة ممتعة، لأنها اعتمدت نفس المنهج الحكومي لتصبح حصّة اللغات سجنًا يعُدّ التلميذ الدقائق ليتحرّر منه.
ولئن كانت مدارسنا اليوم لا توفّر فرص التعلّم السليم فإن هذا لا يبرّر خضوع الشباب لجهله، ففي تونس العاصمة مثلًا تتوفّر عدّة مراكز ثقافيّة تقدّم دروسًا في مختلف اللغات وفق طريقة تعليم معترف بها عالميًا، كما تتوفّر عدة مواقع الكترونية إلى جانب قنوات اليوتيوب التي تقدم فرصًا لتلقّي دروس عن بعد، وللحديث مع من يتقنون اللغات حسب المستوى الذي تريده و في المواضيع التي تختارها.
ومن الضروري أن يقتنع التلميذ التونسي في سن صغيرة أن تعليم اللغات وإتقانها، من أبرز المهارات التي يجب أن تتوفّر فيه للحصول على وظيفة محترمة في المستقبل وهي سبيله للانفتاح على العالم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"