دفع فشل لجنة الصلح الجزائي في تحقيق أي نتائج ملموسة تُذكر في استرجاع الأموال المنهوبة وذلك رغم تجاوز الأجل الأقصى لعضوية أعضائها المحدّد بعام واحد، رئيس الجمهورية قيس سعيّد لتقديم مشروع قانون تعديلي سرعان ما تمّ إقراره برلمانيًا. وتضمّن التعديل مراجعة لآلية الصلح على مستويات أهمّها تعزيز موقع السلطة التنفيذية على حساب صلاحيات اللجنة فيما يتعلّق بإقرار مشروع الصلح.
ويعوّل رئيس الدولة على عائدات مسار الصلح وهو الذي حدّد سقف 13.5 مليار دينار لها. لكن تعديل مرسوم الصلح لم يرفع الشكوك حول قدرة آلية الصلح على النحو المنظّم في تحقيق السقف المالي المحدّد.
وضع السلطة التنفيذية يدها على اتخاذ قرار الصلح مقابل عدم التسقيف الزمني لعمل اللجنة يعزز المخاوف حول توظيف الصلح الجزائي أداة تنفيذية لتسوية ملفات الفساد المالي
من جانب آخر، يعزز وضع السلطة التنفيذية يدها على اتخاذ قرار الصلح مقابل عدم التسقيف الزمني لعمل اللجنة، المخاوف حول توظيف الصلح الجزائي أداة تنفيذية لتسوية ملفات الفساد المالي. تسوية هي خارج إطار المسار القضائي العادي،وتبقى مشوبة بشبهات الابتزاز السياسي وغياب ضمانات الشفافية والعدالة.
- البرلمان في خدمة الرئيس؟
استلزم، بداية، المصادقة على مشروع قانون رئاسة الجمهورية لتعديل المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المتعلق بالصلح الجزائي 20 يومًا بين تاريخ إيداع المشروع بالبرلمان (29 ديسمبر/كانون الأول 2023) وتاريخ المصادقة عليه (18 جانفي/يناير 2024). وإن كانت سرعة النظر في مشروع القانون نقاشًا ومصادقة، قد يعود لأن جهة المبادرة وهي رئاسة الجمهورية طلبت استعجال النظر، فإن ذلك طرح السؤال حول مدى خضوع البرلمان للسلطة التنفيذية.
البرلمان التونسي انخرط برمّته في المشروع الرئاسي، دون وقوف على حقيقة فشل لجنة الصلح الجزائي، طيلة ما يزيد عن عام، في تحقيق النتائج المحدّدة
إذ اكتفت لجنة التشريع بالبرلمان بجلسة استماع وحيدة لوزارة العدل بحضور ممثلين عن رئاسة الحكومة ووزارة المالية، دون تخصيصها أي جلسات استماع لمنظمات المجتمع المدني المتابعة أو المعنية بالصلح الجزائي أو للخبراء المتخصّصين. وهو ما يزيد في تثبيت مشهد طغيان الصوت الواحد، وهو صوت السلطة التنفيذية، مع إقصاء ممنهج لبقية الفاعلين. ويتقاطع غياب التشاركية في العمل التشريعي للبرلمان مع ممارسات رئيس الدولة.
من جانب آخر، اكتفى البرلمان التونسي بالمصادقة على مقترحات تعديلية غير جوهرية للمشروع الحكومي قبل مصادقة الجلسة العامة على الصيغة النهائية برمّتها بنتيجة 126 نائبًا مع تحفّظ 3 نواب وعدم تسجيل أي معارضة. وهي نتيجة تعكس انخراط البرلمان برمّته في المشروع الرئاسي، دون وقوف على حقيقة فشل لجنة الصلح الجزائي، طيلة ما يزيد عن عام، في تحقيق النتائج المحدّدة، ومن خلفها فشل المرسوم، في صيغته التي وضعها رئيس الجمهورية، في هذا الجانب.
مسار المصادقة على مشروع تعديل مرسوم الصلح الجزائي ثبّت صورة البرلمان بأنه آلة تشريعية في خدمة رئيس الجمهورية في ظل نظام سياسي غير متوازن
أكد بذلك مسار المصادقة على مشروع تعديل مرسوم الصلح الجزائي تثبيت صورة البرلمان بأنه آلة تشريعية في خدمة رئيس الجمهورية في ظل نظام سياسي غير متوازن.
- رئيس الدولة يفتك القرار من بوابة مجلس الأمن القومي
من أهمّ التعديلات الواردة في القانون التعديلي هو إضافة مؤسسة مجلس الأمن القومي ضمن مسار عملية الصلح الجزائي ليصبح جهة إقرار الصلح، لتتحوّل بذلك لجنة الصلح الجزائي، ذات التركيبة القضائية، إلى جهة إعداد لا إقرار. إذ يمكن لمجلس الأمن القومي إما المصادقة على مشروع قرار الصلح أو رفضه أو تعديله بالترفيع في المبالغ الواجب دفعها أو إدخال تحويرات على المشاريع المستوجب إنجازها.
وبرّرت وزارة العدل في جلسة الاستماع إقحام مجلس الأمن القومي بأن الأمر الحكومي المنظّم له (الأمر عدد 70 لسنة 2017) ينصّ على أن رئيس الجمهورية يعرض على المجلس المسائل ذات الطابع الحيوي منتهية لاعتبار أن الصلح الجزائي هي مسألة حيوية تدخل ضمن اختصاصه.
في هذا الجانب، ينصّ الفصل الأول من الأمر السابق ذكره أنه "يسهر مجلس الأمن القومي على حماية المصالح الحيوية للدولة في إطار تصور استراتيجي يهدف إلى صون سيادة الدولة واستقلالها وضمان وحدة ترابها وسلامة شعبها وحماية ثرواتها الطبيعية". ولم يرد الأمر أي إشارة لـ"الطابع الحيوي"، كما أوردت وزارة العدل، إلا ضمن هذا الفصل فقط في الأمر الحكومي. والبيّن أن هذا الفصل تحدث عن "المصالح الحيوية للدولة" ضمن أهداف مرصودة عنوانها العام الأمن القومي للدولة على غرار سيادة الدولة ووحدة التراب الوطني وسلامة الشعب.
يظهر بذلك أن إقحام مجلس الأمن القومي، المكوّن من رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ووزراء السيادة (الداخلية والدفاع والعدل والخارجية والمالية) ورئيس جهاز الاستعلامات، في النظر في مشاريع قرارات الصلح الجزائي، توسيعًا غير مبرّر لمجال نظر المجلس. كما يعزّز هذا التوسيع في القناعة في جعل ملف الصلح مادة للتقدير البحت بحسب إرادة السلطة التنفيذية، بما يعزّز مناخ عدم الثقة على وجه الخصوص.
إقحام مجلس الأمن القومي، في النظر في مشاريع قرارات الصلح الجزائي، توسيع غير مبرّر لمجال نظر المجلس ويجعل ملف الصلح مادة للتقدير البحت بحسب إرادة السلطة التنفيذية
وإضافة لذلك، صادق البرلمان على تعديل على المشروع الأصلي مضمونه تحصين قرارات مجلس الأمن القومي من دعاوى تجاوز السلطة، وهي إضافة وإن تعكس مجدّدًا، مدى الانخراط البرلماني في المشروع الرئاسي، فهي تزيد في إضعاف ضمانات الشفافية والرقابة القضائية.
- عدم التسقيف الزمني.. لجنة صلح دائمة؟
نصّ مرسوم الصلح الجزائي عند إصداره أن رئيس الجمهورية يعيّن أعضاء لجنة الصلح الجزائي لمدة 6 أشهر يقع تمديدها لمرة واحدة ولنفس المدة، وهو ما تمّ بداية بصدور أمر التعيين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 ولاحقًا تمديد العضوية في شهر ماي/ أيار 2023، بما يعني نهاية مدة أعضاء اللجنة بحلول نهاية العام المنقضي. وإن لم ينصّ المرسوم على تنصيص على مدة عمل اللجنة، فإن تسقيف عضويتها دفع بأن آلية الصلح، بوصفها آلية وقتية، فهي محددة زمنيًا بالتبعية. لكن تحديد مدة العضوية أولد مأزقًا لمسار الصلح الجزائي مع عدم تحقيق اللجنة لأي نتائج تُذكر طيلة عام كامل، مع العلم أن اللجنة واصلت عمليًا أعمالها بعد نهاية المدة وهو ما قد يطرح السؤال حول شرعية أعمالها في هذا الجانب.
القانون التعديلي للمرسوم حذف السقف الزمني لعضوية لجنة الصلح الجزائي الذي يعيّنهم رئيس الجمهورية، وهو ما يعزّز سطوته بتعيينه للأعضاء وعزلهم وقتما شاء
في الأثناء، حذف القانون التعديلي للمرسوم السقف الزمني لعضوية لجنة الصلح الجزائي الذي يعيّنهم رئيس الجمهورية، وهو ما يعزّز سطوة رئيس الدولة بتعيينه للأعضاء وعزلهم وقتما شاء. والتعديل لم ينصّ بدوره على مدة لعمل لجنة الصلح الجزائي، وهو ما يعني رفع أي وجه من أوجه التسقيف الزمني، بما قد يجعل لجنة الصلح دائمة واقعًا مزاحمة للمسار القضائي العادي الذي يتوفّر على ضمانات بينها حق الدفاع والشفافية وغيرها، وهو ما لا يتوفّر في مسار الصلح الجزائي الحالي.
- مخالفة مبدأ شخصية العقوبة
من أكثر النقاط إثارة للجدل التي أوردها القانون التعديلي هو التنصيص أنه في حالة فرار المنتفع بالصلح الوقتي، فإنه يمكن مصادرة أملاك قرينه وأصوله وفروعه، وصادق البرلمان على مقترح بإضافة أملاك الإخوة والأصهار وكلّ من ثبت انتفاعه بهدف التهريب أو الابتزاز سواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى.
هناك فصل في تعديل مرسوم الصلح الجزائي، قد يزيد في إضعاف التحفيز للجوء لآلية الصلح الجزائي خاصة بالنسبة للمقيمين في الخارج
يتعارض هذا الفصل مع مبدأ شخصية العقوبة، خاصة في ظلّ صيغته العامّة وغياب دقة معايير للمصادرة، على نحو ما يجعله بمثابة العقوبة الجماعية. بيد أن هذا الفصل قد يزيد، بالنهاية، في إضعاف التحفيز للجوء لآلية الصلح الجزائي خاصة بالنسبة للمقيمين في الخارج، على نحو أن اكتسابهم لصفة منتفع بالصلح الوقتي، ضمن المسار الإجرائي للصلح، يجعلهم مهددين، واقعًا، بمصادرة أملاكهم.
- تعديل "شكلي" بمضمون جوهري
ومن بين التعديلات على مرسوم الصلح التي تم تقديمها على أنها ذات طابع شكلي هو جعل تسليم شهادة في التنفيذ الجزئي للصلح الجزائي إلى ممثلي النيابة العمومية بيد وزير العدل بدل وكيل الدول العام لدى محكمة التعقيب. وأرجع وفد وزارة العدل في سماعه هذا التغيير باعتبار أن وزير العدل هو رئيس النيابة العمومية على مستوى كامل الجمهورية. هذا التغيير وتبريره يحملان إقرارًا بتقدير السلطة التنفيذية بتوليها رئاسة النيابة العمومية. فرئاسة الوزير للنيابة العمومية يعني تبعيًا اعتبار ممثليها بمختلف المحاكم مرؤوسين لها وخاضعين لسلطتها، وهو ما يمسّ من مبدأ التوازن بين السلط من جهة ويتعارض مع مبدأ استقلال القضاء من جهة أخرى.
مضامين التعديلات في مرسوم الصلح الجزائي، لا تؤشر على ضمان نتائج لم يسبق تحقيقها طيلة العام المنقضي
- بالنهاية.. تعديلات لا تضمن إنقاذ مسار الصلح الجزائي
يهدف تعديل مرسوم الصلح الجزائي إلى إنقاذ هذا المسار، الذي يعوّل عليه رئيس الجمهورية لتحصيل عائدات مالية ضخمة لإنعاش المالية العمومية، بيد أن مضامين هذه التعديلات لا تؤشر على ضمان نتائج لم يسبق تحقيقها طيلة العام المنقضي. إذ تتعلق المعضلة بآلية الصلح ذاتها على النحو المنظم من جهة وواقع ممارستها وسياقاتها من جهة أخرى. كما يزيد إقحام مؤسسة مجلس الأمن القومي بما يعني تعزيز الصبغة السياسية للمسار الصلحي وأيضًا التنصيص على مبدأ المصادرة لمكاسب المعني بالصلح وعائلته، في عدم التحفيز على الانخراط في هذه الآلية.
ويظهر أن رئيس الجمهورية راجع خياراته في توزيع عائدات الصلح الجزائي إن توفّرت بالشكل المتوقع، وذلك بإمكانية توظيف 80% منها في تمويل مشاريع ذات أهمية ومصلحة وطنية، دون أن تقتصر هذه النسبة على المشاريع في المعتمديات. مع تعديل آخر مفاده تخصيص نسبة 20% فيما تبقى من عائدات للشركات الأهلية فقط بعد أن كان ينص المرسوم على تخصيصها أساسًا لفائدة الجماعات المحلية وتفريعًا الشركات الأهلية. تعديل يعزّز السعي لتمويل الشركات الأهلية التي يعوّل عليها رئيس الدولة في التنمية المحلية. مع الإشارة لحذف محكمة المحاسبات من الرقابة على الأموال بما يطرح السؤال حول دوافع هذا الحذف وما يعنيه من إلغاء الرقابة القضائية.
حذف محكمة المحاسبات من الرقابة على الأموال، يطرح السؤال حول دوافع هذا الحذف وما يعنيه من إلغاء الرقابة القضائية
في الأثناء، يبدو أن رئاسة الجمهورية بدورها لم تستخلص دروس تجربة عمل لجنة الصلح الجزائي فيما يتعلق بقصر الآجال التي تم تجاوزها واقعًا، ومن ذلك تنصيصها في المشروع على مدة 3 أشهر فقط لمواصلة دفع نصف المبالغ المالية المستوجبة بعد سابق دفع النصف الأول بخصوص مشروع الصلح الوقتي، وهي مدة قصيرة على النحو الذي أكده نواب اللجنة البرلمانية الذين صادقوا على ترفيعها لمدة 6 أشهر أخرى. وهي مدة تظلّ أيضًا محدودة باعتبار القيمة المرتفعة للمبالغ المستوجبة.
كما يظهر عدم استفراغ رئاسة الجمهورية لمجهود البحث والتدقيق في إعداد مشروع القانون بتنصيصها بخصوص تركيبة اللجنة على أن النائب الثاني يكون بخطة رئيس دائرة استئنافية بمحكمة المحاسبات باعتبار أن المرسوم كان قد نص على خطة رئيس دائرة تعقيبية غير الموجودة في نظام القضاء المالي من أصله. بيد أن مقترح التصحيح بدوره لم يكن ملائمًا، على نحو ملاحظة عدد من النواب في لجنة التشريع أن محكمة المحاسبات تضم حاليًا دائرتين استئنافيتين فقط، وتعيين أحدهما عضوًا بلجنة الصلح سيؤثر سلبًا على عمل المحكمة. لتنتهي اللجنة بذلك لتعديل مفاده تعويضه بقاضي في المحكمة الإدارية بأقدمية عمل مدتها 15 عامًا. وهو المعيار الذي يشمل القاضي الإداري صلب اللجنة أيضًا.