11-ديسمبر-2019

معضلة سنوية تتواصل مع غياب الحلول الجذرية (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

لا يزال صالح، فلاح ثمانيني من إحدى قرى ولاية سليانة، يرابط منذ زهاء الشهر في الصباح الباكر في ساحة منزله وأعناقه مشرئبة صوب المشرق علّه يلمح الجرار الذي يعده صاحبه كل يوم بالقدوم لتهيئة الأرض مرة أخيرة قبل بذرها. يشبك يديه إلى الخلف ويستدير مباشرة في حركة سريعة يتطلع صوب الطريق الفلاحية من الغرب أملًا في أن يلمح شاحنة جاره التي يرسلها كل يوم لجلب مادة "د أ ب" الضرورية للإنبات ولكن دون جدوى ليضرب كفيه غضبًا ويفقد الأمل في البذر اليوم أيضًا.

"في مطمور روما" ليس حال بقية الفلاحين، وتحديدًا الصغار والمتوسطين، أحسن حالًا من حال العم صالح، بحث عن البذور والأسمدة الكيميائية والآلات وترقب ويأس دفع بالكثيرين منهم للعدول عن زراعة حقولهم قمحًا هذا العام.

لا تزال استغاثات الفلاحين يتردد صداها في الأسواق الشعبية وأمام المندوبيات الفلاحية في مناطق الشمال الغربي وفي الوسط لمطالبة السلطات بتدخل عاجل لحل إشكاليات موسم بذر الحبوب

وسيم السلاوتي فلاح شاب من إحدى قرى مدينة باجة بدا هو الآخر مبتهجًا مزهوًا بأرضه المحروثة المهيأة وآلة البذر الحديثة، التي وشّحت صورها حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، غير أن غياب مادة "د أ ب" وارتفاع سعرها نغص فرحته، مؤكدًا في حديثه لـ"ألترا تونس" أن تعهّد الحكومة ووزارة الإشراف بحل الإشكالية بقي مجرد وعد لم ينفّذ.

فقبل أقل من أسبوع عن انتهاء موسم البذر، ما تزال استغاثات الفلاحين يتردد صداها في الأسواق الشعبية وأمام المندوبيات الفلاحية في مناطق الشمال الغربي وفي الوسط، وفي مراكز بعض الولايات، احتجاجات هنا وهناك تطالب السلطات بتدخل عاجل لحل إشكاليات موسم البذر لهذا العام في مؤشرات أخرى على منظومة قديمة بمؤسسات قائمة لكنها بعيدة على أول عنصر في حلقة الإنتاج.

بعد إنتاج وفير الصيف الماضي بلغت فيه الحصيلة النهائية لصابة الحبوب حوالي 24 مليون قنطار مقابل 14.1 مليون قنطار خلال الموسم الذي سبقه، خُيّل أنه سيتم تجاوز إشكاليات الموسم الماضي في موسم البذر الجديد، لكن هيهات لتتكرّر المعضلة مجددًا.

اقرأ/ي أيضًا: من "الشتيوي" إلى "البركة".. فلاح عصامي يقود معركة حماية البذور التونسية

أين مادة "د أ ب"؟

انطلقت إشكالية توفر الأسمدة اللازمة للبذر منذ بداية الموسم بعد قرار رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد غلق معمل "السياب"، على حد تأكيد محمد رجايبية عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري المكلف بالزراعات الكبرى في حديثه لـ"ألترا تونس".

أدى إغلاق المنشأة، حسب محدثنا، إلى نقص فادح في مادتي "الفوسفات سوبر 45" ومادة "د أ ب" وهو ما فتح المجال أمام المحتكرين والسوق الموازية ليرتفع سعرها من 62 إلى 68 دينار إن توفرت، وليتحصل الفلاحين على 65 في المائة فقط من حاجياتهم.

محمد رجايبية (اتحاد الفلاحة والصيد البحري): أدى النقص الفادح في مادتي "الفوسفات سوبر 45" ومادة "د أ ب" إلى فتح المجال أمام الاحتكار والسوق الموازية

وعبّر رجايبية، في جانب متصل، عن تخوّفه من عدم توفير حاجيات الفلاحين من مادة "الأمونير" خاصة بعد أزمة المجمع الكيميائي، مؤكدا أنه بدون توفير المواد الأولية ستكون المردودية سلبية.

وقال إن الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري قدر حاجيات الموسم الحالي من الأسمدة الكيميائية بـ25 ألف طن من "السوبر 45"، و85 ألف طن من مادة "د أ ب"، و 120 ألف طن من مادة الأمونيتر، وذلك خلال جلسات عمل مع وزارة الفلاحة استعدادًا لموسم البذر 2019-2020 الذي يشمل مليون و325 ألف هكتار.

إلا أن وزارة الفلاحة أعلنت، في بلاغ لها بتاريخ 29 نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، أن الكميات الموضوعة لمادة "الأمونيتر" بلغت 41 ألف طن مقابل 26 ألف طن في نفس الفترة من الموسم الفارط، فيما بلغت كميات مادة "سوبر 45" حوالي 5357 طن مع حوالي 65.629 ألف طن بالنسبة لمادة "د أ ب".

وقد لا تستقيم المقارنة بين الكميات بالسنوات خاصة إذا كانت الأرقام في علاقة وثيقة بالمساحة المخصصة للحبوب. إذ بلغت المساحات المبذورة 412 ألف هكتار من مجموع 1.325 مليون هكتار أي بنسبة 31 في المائة إلى غاية 27 نوفمبر /تشرين الثاني 2019، بحسب نفس المصدر.

أسامة الخريجي (مدير عام المعهد الوطني للزراعات الكبرى): إقبال الفلاحين على استعمال الأسمدة الكيميائية لا يستند في الغالب إلى تحاليل تربة تحدد حاجة الأرض

وحمّل عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري المكلف بملف الحبوب في حديثه معنا وزارة الفلاحة المسؤولية في أن الاستعدادات لموسم البذر لم تكن في مستوى المطلوب. وقال إن الفلاح التونسي ما يزال خارج الحلقة وهو ما يؤدي إلى استسلامه وبالتالي سيكون لذلك تبعات على مستوى الإنتاج.

لكن أسامة الخريجي، مدير عام المعهد الوطني للزراعات الكبرى، أفاد في حديثه لـ"ألترا تونس" أن إقبال الفلاحين على استعمال الأسمدة الكيميائية لا يستند في الغالب إلى تحاليل تربة تحدد حاجة الأرض من هذه المادة نافيًا أن يكون لعدم استعمالها انعكاسات على الإنتاج. 

في المقابل، أكد لنا عضو اتحاد الفلاحة محمد رجايبية أن تحليل التربة الذي لا يكون متًاحا على ذمة كل الفلاحين بسبب نقص المخابر، يحدد الكمية اللازم استعمالها من مادة "د أ ب" وليس إن كانت تستحقها أم لا.

سوق سوداء وتوزيع في جنح الظلام

عبد السلام القلاعي فلاح من ولاية سليانة دفعه غياب مادة "د أ ب" وارتفاع سعرها لدى المضاربين إلى زراعة الشعير بدلًا عن القمح.

وأكد في حديثه لـ"ألترا تونس" أن المتضرر هو الفلاح الصغير والمتوسط مبينًا أن سعر "د أ ب" وصل 70 دينارًا ويتم توزيعها في الليل فيما بلغ سعر "الكوسيم" (نوع من البذور الممتازة) لـ 130 دينارًا مبينًا أن هذا هو خلال الحال كل موسم بذر، مبينًا أن كيس "الكوسيم" بيع في فيفري/ شباط الماضي بـ 15 دينارًا. 

عبد السلام الفلاعي (فلاح من سليانة): بلغ سعر مادة "د أ ب" 70 دينارًا ويتم توزيعها في الليل فيما بلغ سعر  بذرة"الكوسيم"  لـ 130 دينارًا

اقرأ/ي أيضًا: الفلاح التونسي "في الشتاء مغروق وفي الصيف محروق"

وأمام هذه الزيادة المشطة في الأسعار، يجد الفلاحون من أمثال عبد السلام أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن يبدلوا زراعة القمح بالشعير أو أعلاف أخرى أو ترك أرضهم بورًا.

وفي سياق متصل، أصدرت وزارة الفلاحة في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2018 منشورًا يقضي بتوزيع 9000 قنطار من البذور الممتازة من القمح الصلب واللين على صغار الفلاحين على ذمتهم بصفة مجانية.

لكن في حديثه لـ"ألترا تونس"، اشتكى رئيس نقابة الفلاحين بسليانة بلال الحرباوي هو الآخر من غياب البذور الممتازة الى حد هذه اللحظة رغم تقديم كل فلاح حاجته إلى المندوبية الجهوية للفلاحة قبل موسم البذر. ويضيف أن نقص البذور وتأخر توفيرها على ذمة الفلاحين يدفعهم إلى شراء بذور من التجار، مبينًا أنها بذور تغري بإنتاج وفير لكنها لا تنبت إلا مرة واحدة.

ولفت محدّثنا الى أن نتيجة تحاليل الإكثار التي تخول الاتجار ببذور معينة تتأخر وهو ما يعطل تداولها في السوق وينتهي بكمية كبيرة منها إلى الإتلاف نظرًا لأنها تكون غير صالحة لا للخزن لموسم بذر جديد ولا للاستهلاك نظرًا لمعالجتها بالأدوية.

خمس البذور فقط من النوع الممتاز

لا تبدو وزارة الفلاحة والهياكل التابعة لها في مجال الحبوب والزراعات الكبرى جاهلة بالإشكاليات لكن لديها طريقتها الخاصة لمعالجتها. فبتاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أصدر الديوان الوطني للحبوب منشورًا حول إجراءات مقايضة حبوب الاستهلاك بالبذور المثبتة لموسم 2019/2020 واشترطت أن تكون الحبوب المقدمة من طرف الفلاح سليمة وصافية وصالحة للاتجار بالنسبة لحبوب القمح الصلب واللين من صنف جيل 1 وجيل 2 واستندار.  

من جانبه أقر وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري سمير الطيب، في ندوة بعنوان "المنظومة الوطنية لبذور الزراعات الكبرى" بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن البذور الممتازة التي تبلغ نسبة الإثبات فيها 95 في المائة، لا تغطي سوى 20 في المائة من الحاجيات فيما لا يغطي الإنتاج الوطني من الحبوب سوى 50 في المائة.  ودعا إلى مزيد التنسيق بين البحث والإرشاد والتنمية والمهنة لدعم القطاع وذلك من خلال دعم برامج البحوث حول التحسين الوراثي قصد استنباط أصناف جديدة متأقلمة مع التغيرات المناخية وذات مردودية عالية.

أقر وزير الفلاحة سمير الطيب أن البذور الممتازة التي تبلغ نسبة الإثبات فيها 95 في المائة، لا تغطي سوى 20 في المائة من الحاجيات فيما لا يغطي الإنتاج الوطني من الحبوب سوى 50 في المائة

من جانبه، أكد مدير عام المعهد الوطني للزراعات الكبرى أسامة الخريجي، في نفس المناسبة، التوصل الى استنباط وترسيم 29 صنفًا من البذور المحلية مقارنة بـ 43 صنف أجنبي، لا يتم تداولها كلها في السوق.

ولفت إلى الاشكاليات التي تعترض البحث العلمي في قطاع البذور مستعرضًا الاشكاليات المتعلقة بتسويق البذور وخاصة منها استفحال السوق الموازية ومحدودية منظومة البيع والتسويق. وأضاف أن الشركات المنتجة للبذور تنتج وتتواكل على الإدارة في التسويق منبهًا نبّه من كون أغلب البذور مدعمة من 20 الى 40 في المائة وهو عامل مثبط للاستثمار الخاص، وفق قوله.

في السياق ذاته، أفاد وزير الدولة السابق االمكلف بالإنتاج الفلاحي عمر الباهي، في تصريح إعلامي قبل سنيت، أن معدل استعمال البذور الممتازة تراجع من 65 في المائة سنة 1975 إلى 25 في المائة سنة 2004 بلوغًا إلى نسبة 5 في المائة في الوقت الحاضر. وكانت تونس فتحت أبوابها منذ التسعينات لاستيراد بذور مهجّنة وعقيمة.

وخلص التقرير السنوي 29 لدائرة المحاسبات سنة 2016 إلى عدم فاعلية الآليات المعتمدة للنهوض بمنظومة البذور والشتلات، مؤكدًا غياب التأطير القانوني لإنتاج البذور المحوّرة جينيًا والتي يتطلب استغلالها الأخذ بعين الاعتبار جملة من المحاذير بهدف اجتناب المخاطر المحتملة على المستوى الصحي والبيئي زيادة على ضعف نسق الاستنباطات وغياب إستراتيجية لتأطير عمليات استرجاع الموروث الجيني والمحافظة عليه.

ونبّه تقرير دائرة المحاسبات لعدة نقائض تعلقت أساسًا بعقود إكثار بذور الحبوب وبطاقة خزنها وتكييفها، تبيّن من خلالها وجود إخلالات تعلقت بارتفاع نسبة المساحة المرفوضة وبعدم إيفاء المكثرين بتعهداتهم الأمر الذي أدى إلى انخفاض كميات البذور المسلمة، بالإضافة إلى ارتفاع المساحات المرفوضة بسبب عدم التزام المكثرين بكراس الشروط المتعلق بإنتاج البذور والشتلات وإكثارها، وإعادة التعاقد مع مكثرين أخلّوا بالتزاماتهم خلال مواسم سابقة وحتى الذين رفضت مساحاتهم بصفة كلية.

الزراعات الكبرى.. قطاع استراتيجي لكنه مهمّش

قطاع الزراعات الكبرى الذي يعدّ قطاعًا حيويًا واستراتيجيًا للاقتصاد الوطني ومحورًا أساسيًا لتحقيق الأمن الغذائي بات مهددًا باستعمار جديد يأتي في أكياس تستهدف بذورنا الأصلية بأخرى عقيمة لا تنبت إلا مرة واحدة.

يبيع الفلاح التونسي القنطار من القمح بين 50 و60 دينارًا ويقتني 80 كغ من البذور بـ70 دينارًا في أحسن الحالات، فيما تستورد الدولة التونسية القمح بالعملة الصعبة وبأضعاف سعره في الداخل.

قطاع الزراعات الكبرى الذي يعدّ محورًا أساسيًا لتحقيق الأمن الغذائي بات مهددًا باستعمار جديد يأتي في أكياس تستهدف بذورنا الأصلية

وأفاد المعهد الوطني للإحصاء مؤخرًا بارتفاع صادرات قطاع الفسفاط ومشتقاته بنسبة 21،1 في المائة في الوقت الذي يسقط فيه الفلاح التونسي في براثن المضاربين والمحتكرين الذين يستغلون حاجتهم من الأسمدة الكيميائية ونقصها في السوق.

تذمّر من تهميش قطاع الفلاحة والاهتمام بالناشطين فيه وتذليل الصعوبات المقترنة بكل دورات الإنتاج ودعم الإنتاج الوطني، هو وجع يتناقله الفلاحون في تونس في ظل توجّس من فقداتهم القدرة على مواصلة المكابدة رغم إيمانهم بأهمية دورهم في الدورة الاقتصادية.

وإن حديث هياكل الدولة عن "أقلمة الفلاحة التونسية مع التغيرات المناخية والاقتصادية" وغيرها من المفردات الرنانة يظل حديثًا هامشيًا مادام لم ينفذ إلى عمق مشاغل الفلاحين في الوقت الحاضر. وهو لن يمنع محصول القمح من التعفّن في المخازن، خاصة في هذا القطاع الذي يستوعب 250 ألف فلاح ويوفر 2.5 مليون يوم عمل ويساهم بنسبة 13 في المائة من الناتج الفلاحي الداخلي الخام. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

تراجع عدد الأبقار في تونس.. استفحال أزمة قطاع الحليب ودعوات للنجدة

ما معنى أن تكون حبوب الكسكسي جزءًا من كرامة التونسي؟