مقال رأي
تتصاعد مؤشرات توجه السلطة في التضييق على نشاط الجمعيات الحقوقية على وجه الخصوص، موازاة مع مواصلة اللجنة البرلمانية المختصة مناقشة مقترح قانون لتنظيم الجمعيات يهدّد بنسف نسيج المجتمع المدني في تونس. فبعد الإجهاز على المجتمع السياسي، عبر اعتقال قيادات عدة أحزاب وتقييد نشاط بعضها، وقبلها إقصاء الفاعلين الحزبيين من أي دور في بناء "الجمهورية الجديدة"، تظهر الجمعيات عنوان استهداف مركّز في الخطاب الرسمي. العناوين متعدّدة أهمها التمويل الأجنبي التي يراها الرئيس بوابة لخدمة هاته الجمعيات لأجندات خارجية بل لعمالتها.
حجج السلطة لتضييق الخناق على العمل المدني هي حجج معلومة دائمًا ما توظفها الأنظمة السلطوية متى ضاقت ذرعًا من المقاومة الجمعياتية خاصة الحقوقية منها
وليس من قبيل الصدفة دائمًا أن تستهدف الأنظمة السلطوية المجتمع المدني، وبالخصوص الحقوقي منه، باعتباره يمثل -تقليديًا- قوة كبح ومواجهة لجماح ضرب الحريات العامة.
آخر مؤشرات التضييق هو منع الأمن لتنظيم جمعية حقوقية لدورة تدريبية بنزل بمدينة سوسة وذلك بداية شهر ماي/أيار 2024 بتعلّة لزوم الحصول على رخصة من الوالي، على نحو يفرض الرقابة السياسية على الأنشطة المدنية بما يخالف مبدأ حرية العمل الجمعياتي. وهو تقييد يتعارض وصريح الفصل 6 من مرسوم الجمعيات لعام 2011 الذي يحجّر على السلطات العمومية عرقلة نشاط الجمعيات أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
مقترح قانون تنظيم الجمعيات، يمثّل نكوصًا على حرية تكوينها ونشاطها، وهو يستهدف عمليًا إرساء نظام تسجيل للتكوين عبر توسيع صلاحيات الحكومة بدل نظام التصريح
وفي المدة الزمنية نفسها، منعت وزارة العدل التونسية، رئيس جمعية القضاة التونسيين وأمين مالها من الحصول على إجازة للمشاركة في اجتماع المجموعة الإفريقية للاتحاد الدولي للقضاة المبرمج بدولة ليبيريا، وذلك في سياق لا يقتصر فقط على تعطيل النشاط الجمعياتي وهرسلة قياداته، بل أيضًا، هنا، في إطار تقييد العمل النقابي للقضاة على وجه الخصوص. إذ يُستذكر، في هذا الجانب، أن رئيس الجمعية أنس الحمادي يلاحقه تتبع جزائي على خلفية نشاط نقابي إثر مظلمة إعفاء القضاة في جوان/يونيو 2022.
ولم يفوّت رئيس الدولة الفرصة كعادته في مجلس الأمن القومي الأخير لتوجيه سهامه ضد الجمعيات من بوابة تورطها -بحسبه- في مخطط لتوطين المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء بتونس، وربط ذلك بمسألة التمويل الأجنبي. فتفاقم أعداد المهاجرين لا يعود لمسؤولية الدولة أو نتيجة اتفاقاتها غير المعلنة، بل هو نتيجة عمل جمعياتي. الجمعيات دائمًا في قفص الاتهام الرئاسي. وقد تم فعلًا، في هذا الإطار، الاحتفاظ برئيسة جمعية منامتي سعدية مصباح، والتي تعدّ من رائدات النضال الحقوقي من أجل مكافحة التمييز العنصري على أساس اللون في تونس.
التمويل الأجنبي ليس عنوانًا للمساس بالسيادة الوطنية، كما تحاول أن توهم السلطة، وإلا لاعتبرنا، وبنفس المنطق، أن تقديم دول أجنبية لهبات للدولة التونسية هو أيضًا مساس من سيادتها واستقلالية القرار الوطني
وفي هذا الزخم، لازالت تواصل لجنة الحقوق والحريات مناقشة مقترح قانون لتنظيم الجمعيات مقدّم في شهر أكتوبر/تشرين الأول المنقضي، يمثّل نكوصًا على حرية تكوينها ونشاطها. وهو مقترح يستهدف عمليًا إرساء نظام تسجيل للتكوين عبر توسيع صلاحيات الحكومة بدل نظام التصريح، مع منع الجمعيات من النشاط قبل نشر تكوينها بالرائد الرسمي على خلاف المرسوم الجاري. كما يجعل الجمعيات المحلية والأجنبية تنشط تحت "إشراف ورقابة" الوزارة المعنية ورئاسة الحكومة على التوالي، وذلك دون تحديد مفهوميْ الإشراف والرقابة، على نحو يجعل العمل الجمعياتي خاضعًا لمزاج السلطة. وهو ما يتأكد بمنع التمويل الأجنبي للجمعيات الوطنية إلا بموافقة مسبقة من رئاسة الحكومة.
في الأثناء، هناك نقطتان أساسيتان لا يجب الالتفات عنهما يتأسس عليهما الخطاب الرسمي العدائي للجمعيات وهما السيادة الوطنية والفساد المالي ومنه توظيف العمل المدني في النشاط السياسي والحزبي بالخصوص. وهنا لا يمكن حقيقة تجاوز أنه، وتقليديًا، تسعى دول للتأثير على القرار المحلي عبر الغطاء المدني، بيد أن ذلك لا يمكن أن يؤسس للتضييق على عمل الجمعيات بل على العكس يفترض تحصينها.
المعضلة ليست في التمويل بذاته بل في عدم وضع السلطة السياسية رقابتها عليه، وهو الأمر الذي تفرضه الدول السلطوية والاستبدادية في قوانينها
إن التمويل الأجنبي ليس عنوانًا للمساس بالسيادة الوطنية، كما تحاول أن توهم السلطة، وإلا لاعتبرنا، وبنفس المنطق، أن تقديم دول أجنبية لهبات للدولة التونسية هو أيضًا مساس من سيادتها واستقلالية القرار الوطني. فالمعادلة ذاتها. والحقيقة أن حجة السلطة مردود عليها من زاوية أن المقترح المقدم على الأقل من نواب "منخرطين" في مسارها، يجعل التمويل بيد رئاسة الحكومة، على نحو يؤكد أن المعضلة ليست في التمويل بذاته بل في عدم وضع السلطة السياسية رقابتها عليه، وهو الأمر الذي تفرضه الدول السلطوية والاستبدادية في قوانينها.
تريد هذه الأنظمة جمعيات حليفة لها وتقاسمها الدور الاجتماعي المحض لتخفيف العبء على جهاز الدولة عبر المشاريع الخيرية تحديدًا، ولكنها لا تريد جمعيات صارمة في الدفاع عن حقوق الإنسان ونقد السياسات العمومية ومكافحة الفساد المالي وتدعو لفرض سياسات الشفافية والنزاهة.
تريد الأنظمة الاستبدادية جمعيات تقاسمها الدور الاجتماعي المحض عبر المشاريع الخيرية تحديدًا، ولكنها لا تريد جمعيات صارمة في الدفاع عن حقوق الإنسان ونقد السياسات العمومية
أما النقطة الثانية وهي مسألة الفساد المالي للجمعيات، وأيضًا التداخل بين الجمعياتي والسياسي، فهو أيضًا، يجب تنسيبه في خصوص بعض الجمعيات لا جميعها، دون لزوم معالجته وذلك بدل توظيفه لتصحير المجتمع المدني برمته.
لا يمكن التغافل أن عددًا من الجمعيات تحولت طيلة السنوات الماضية لأداة النشاط الحزبي، ويكفي الاطلاع على تقرير محكمة المحاسبات بخصوص الرقابة على انتخابات 2019 وتحديدًا تطوّر التمويل الأجنبي بما يشي بشبهة التمويل الانتخابي المقنّع، فيما كان المرشح نبيل القروي رمز توظيف العمل الخيري في العمل السياسي الانتخابي المحض، وطبعًا دون تجاوز ضعف تطبيق النسيج الجمعياتي لأحكام مرسوم الجمعيات بخصوص واجب نشر تقاريرها المالية وتسوية وضعياتها. بيد أن معالجة الإخلالات، سواء تشريعيًا أو رقابيًا أو قضائيًا، لا يجب أن تتحوّل إلى معول لضرب العمل الجمعياتي. لا يمكن، وبلغة بسيطة، قتل المريض بدل مداواته.
تصاعد الهجمة على عمل الجمعيات في المدة الأخيرة يبيّن أن السلطوية لازالت تسعى للتمدّد، وهي تسعى بذلك لتقييد الفضاء العام واحتكاره
إن حجج السلطة لتضييق الخناق على العمل المدني هي حجج معلومة دائمًا ما توظفها الأنظمة السلطوية متى ضاقت ذرعًا من المقاومة الجمعياتية خاصة الحقوقية منها، والتي تظلّ مصدر إحراج للسلطة سواء من ناحية رصد انتهاكات حقوق الإنسان وأيضًا كشف هشاشة سياساتها في عديد المجالات بوجه عامّ ومجاليْ مكافحة الفساد والهجرة غير النظامية راهنًا بوجه خاص. وإنّ تصاعد الهجمة على عمل الجمعيات في المدة الأخيرة يبيّن أن السلطوية لازالت تسعى للتمدّد، وهي تسعى بذلك لتقييد الفضاء العام واحتكاره.
كانت لتونس فرصة أن تتحوّل إلى منصّة إقليمية ونموذجية للعمل الجمعياتي، ولكن يظهر وضوحًا أن السلطة الحالية تسعى لاستعادة سلوك النظام قبل الثورة وهو وضع اليد على الجمعيات عبر السعي للتحكم في أنشطتها أو تقييدها على الأقل. ولكن طيلة سنوات بعد الثورة، نشأت شبيبة منخرطة في العمل الجمعياتي، وهي اليوم تدافع عن مجال تحرّكها بدفاعها عن حرية تكوين الجمعيات وحرية نشاطها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"