13-فبراير-2020

تم توظيف التسجيلات السمعية والبصرية في أعمال إجرامية (Getty)

 

بلغ الولع بتصوير المشاهد وتسجيل المحادثات درجة الهوس والإدمان، ولم يعد الإقبال على هذا السلوك مقترنًا بدواع مهنية أو فنيّة أو علميّة، إنّما باتت تحرّكه دوافع عفويّة أو نرجسية أو فضولية أو ترفيهيّة، لكن المتأمّل في العديد من النماذج والوقائع واجد أسبابًا ومقاصد أخرى تحث على توثيق الصور والأصوات، فيها المجرّد والعميق وفيها الواقعي البسيط. ويمكن حصر هذه المقاصد في ثلاثة، أوّلها وجودي فلسفي، وثانيها اجتماعي قيمي، وثالثها انحرافي إجرامي.

اقرأ/ي أيضًا: اغتصاب وابتزاز وأقراص مخدرة.. تفاصيل جريمة هزت تونس!

طلب الخلود والتوق إلى تأبيد اللحظة الهاربة

يتصّف المقصد الأوّل بالعمق سواء كان صاحبه واعيًا به أو غير واع، ومفاده أنّ الحريص على تخزين الصور والأصوات إنّما تحركه رغبة دفينة في مغالبة الموت وتأبيد اللحظة الهاربة لا سيّما لحظات النجاح والسعادة والفرح والحبور، لذلك تراه ميّالًا إلى " أرشفة" الابتسامات اللطيفة والنظرات الحالمة، يعود إليها صاحبها مستذكرًا المناسبات السارة وذاك دءب الإنسان في حنين دائم إلى جنّة مفقودة، بل إنّ حنينه هذا يمتد ويتعاظم ليدرك درجة من درجات التأله، أليس في تقليب الصور القديمة ضرب من ضروب التمرد على الفناء والتطلع إلى تعطيل الزمن وتغيير نظام الطبيعة وإحياء الموتى؟

بلغ الولع بتصوير المشاهد وتسجيل المحادثات درجة الهوس والإدمان، ولم يعد الإقبال على هذا السلوك مقترنًا بدواع مهنية أو فنيّة أو علميّة

العين الثالثة التي ابتكرها جوزيف نيبس (Joseph Nicéphore Niépce) الفيزيائي الفرنسي رائد التصوير الفوتوغرافي في مطلع القرن التاسع عشر يمكن اعتبارها بمثابة نهر الخلود الذي يحرص الجميع على أن يسبح فيه دفعًا للموت. فما عاد سيزيف القرن الحادي والعشرين في حاجة إلى المداومة على رفع الصخرة، وها قد ناب "ألبوم الصور" عن التحنيط الفرعونيّ، بهذا تخطى الإنسان المعاصر السبل الفنية والمعمارية والطقوسية القديمة في طلب الخلود.

هذا المقصد الذهني المستتر لا يعبّر عنه المولعون بالتصوير والتسجيل، لكن القراءة التأملية التجريديّة كفيلة ببلوغه، في المقابل يمكن الاهتداء إلى المقصد الثاني في غير تعقيد أو تأويل.

لا فائدة في الإنكار.. نملك دليل الإدانة

المقصد الاجتماعي الأخلاقي من الحرص على التسجيل والتخزين يمكن التحقق منه من خلال القراءة النفسيّة والسلوكيّة. ففضلًا عن النرجسية والفضول وطلب المتعة، وهي مقاصد بديهية أشرنا إليها في المقدمة، يمكن الاهتداء إلى دافع راهن خطير يتمثّل في أزمة الثقة في المجالات السياسيّة والتجارية والإعلامية وسائر الميادين التي تقتضي التواصل والتعاقد إبلاغًا وحجاجًا وإقناعًا، فالصور ووالفيدوهات أصبحت تقوم مقام العقود، فلا حديث اليوم عن الصدق و"الكِلْمَة" فالوثيقة المصورة والمسجلة أوكد من قيم الأمانة واالثقة.

لم يعد تدوين المكالمات والمحادثات واللقاءات حكرًا على فئة مخصوصة لكن الخطير في ذلك تعمد جل هذه الأطراف التسجيل السري الخفي مما يجعل الفعل أقرب إلى نشاط الجوسسة

لم يعد تدوين المكالمات والمحادثات واللقاءات حكرًا على فئة مخصوصة، إذ انخرط في هذه الموجة السخفاء والعقلاء والشجعان والجبناء والنبلاء والمحتالون، لكن الخطير في ذلك تعمد جل هذه الأطراف التسجيل السري الخفي مما يجعل الفعل أقرب إلى نشاط الجوسسة.

يشعر الإنسان الواعي بهذا التحول السلوكي أنه واقع تحت المراقبة اللصيقة حيثما حل، لا شيء يضمن أنّك غير مستهدف بالتسجيل في المجالس الخاصة والعامة في القسم بين تلامذتك وفي المكتب بين زملائك وفي المقهى بين أصدقائك وفي الحي بين جيرانك، لا تعجب إن واجهك أحد خصومك قائلًا:" لا تنكر أنك قد ذممتني و أهنتني وقدحت في ذمتي، لا تسألني كيف علمت، المهم أنني واثق أنك قد ذكرتني بسوء، لا تدعي أن جلساءك قد حرفوا كلامك، وحتى تكف عن  التبرؤ أنصت إلى هذا التسجيل...".

 "الدوسنة" وسلاح الملفات

كلما تعاظمت منزلة المواطن اجتماعيًا وسياسيًا واعتباريًا تعاظمت رغبته في التوثيق والأرشفة، ويتخذ هذا التدوين وجهتين، الأولى دفاعية تتمثل في الاحتفاظ بالتسجيلات الخاصة، فمتى واجهه أعداؤه بتصريحات تم إخراجها من سياقاتها قدم حجته كأنه يقول إني براء مما تفترون هاكم كتابي فاقرؤوه، الوجهة الثانية هجومية تتمثل في توخي ما يمكن نعته بالدوسنة أي تجميع دوسيات (ملفات) تتضمن مواقف وتدخلات في مجالس خاصة تكون في الغالب عفوية في حالات الصفاء، فيتم الاستنجاد بها في أوقات الصراع والجفاء، وقد تجلى هذا خاصّة في معركة التسريبات التي دارت بين شقوق حركة نداء تونس، وكنّا عرضنا سابقًا تفاصيل بعض الجولات من هذه الخصومات.

اقرأ/ي أيضًا: عنف ومقاومة ومارّة سلبيون.. شهادات نساء عن "البراكاج"

 تلك التسجيلات يتم تخزينها وادخارها، فتكون بمثابة الذخيرة التي يقع استعمالها في المواجهات المصيرية، منها الدعايات الانتخابية والنزاعات القضائية، لعل أبرز شاهد على ذلك بعض التصريحات الصادرة عن قيادييين في الحكومة أو في الأحزاب أو في النقابات كل منهم يتوعد الآخر بإشهار سلاح الملفات. 

صور العشاق ساعات الصفاء ذخيرة للابتزاز أيام الجفاء

تعتبر السياقات الجمالية والعاطفية الأكثر انفتاحًا على توثيق الصور والمشاهد، فالمصور الفوتوغرافي في حفلات الزواج التونسية كان وجوده وما يزال أوكد من سائر العناصر الأخرى، فهذه العناصر زائلة ماضية أما الصور فهي الباقيات القائمات. في الحب والوجد والهوى لذة وسرور غير أنّ هذا المقام إذا خالطته غرائز الشر والحقد قد ينقلب إلى سلوك إجرامي، فبعض ألوان العشق الآثم يمكن أن تفضي إلى العنف والإفك والتشهير والابتزاز.

وقد تجلى هذا السلوك الإجرامي من خلال أحداث عديدة اهتز لها الرأي العام في تونس زادتها عمليات التوثيق بشاعة وسادية، من تلك الأحداث نذكر ثلاثة نماذج متدرجة من حيث الخطورة، الجامع بينها التقاط المشاهد وتخزينها ونشرها.

 تعمد مجموعة من المراهقين اغتصاب قاصر وتصوير المشهد الجنسي، ثم استعماله سلاحًا لابتزاز الضحية، وحينما أعرضت عن أهوائهم المنحرفة وغرائزهم الشاذة أقدموا على نشر الفيديو

الدرجة الأولى مسرحها "حمام بنت الجديدي" بالحمامات، ففي فيفري/ شباك 2020 قامت فتاتان بتصوير نساء عاريات. ولئن تمّ التفطن إليهما وإيقافهما قبل النشر، فإن حادثة مماثلة تقريبًا وقعت في جانفي/ كانون الثاني 2020 تسببت في حرج أخلاقي وأسري كبير بالنسبة إلى العديد من النسوة، فقد تداول عدد كبير من نشطاء التواصل الاجتماعي فيديو تم تصويره في "حمام عروسة" مما دفع المتضررات إلى تقديم قضية لملاحقة المتسببين في هتك الأسرار.

والدرجة الثانية من الإجرام الذي يتداخل فيها الجمالي والعاطفي بالإجرامي تجلت في مقطع فيديو صوره شاب عرض من خلاله مشهد تنكيله بصديقته. ولئن مثلت هذه المادة المصورة مطية للحديث عن العنف ضد المرأة، فقد بات الفيديو عنصرًا كاشفًا عن التحول من العنف العفوي الذي ينشأ تحت طائلة الغضب إلى العنف المؤسس منظم، وهو ما يتجلي بوضوح في العينة الثالثة وهي الأخطر على الإطلاق.

 هذه العينة حصلت في جانفي/ كانون الثاني 2020، إذ تعمد مجموعة من المراهقين اغتصاب قاصر وتصوير المشهد الجنسي، ثم استعماله سلاحًا لابتزاز الضحية، وحينما أعرضت عن أهوائهم المنحرفة وغرائزهم الشاذة أقدموا على نشر الفيديو.

سواء كان المجال اجتماعيًا أو سياسيًا أو عاطفيًا أو غريزيًا، يمكن التحقق من خلال العينات المذكورة أنّ تطور التقنيات الحديثة في التصوير والتخزين قد ساهم في انشار هذا اللون من الابتزاز، لكن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى التعسف في وصل الجريمة بالأجهزة المحمولة، فهي أشبه بالعديد من الأجهزة في سائر الفضاءات والمحلات يمكن استعمالها سلميًا في الخير والحق والجمال كما يمكن توظيفيا توظيفًا إجراميًا تزويرًا وتشهيرًا وابتزازًا، إنّ وزر جريمة التسجيل الآثم لا تتحمله التقنيات الحديثة إنما تتحمله الضمائر الخسيسة والنفوس الخبيثة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

التربية على الصحة الجنسية.. ماذا سيتعلّم التلميذ التونسي؟

التسوّل في تونس.. عالم خفيّ وتجارة مُربحة