24-ديسمبر-2019

تعدّ ظاهرة التسوّل ظاهرة معقّدة تستوجب تدخل عديد الأطراف الأمنية والاجتماعية (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

امرأة تفترش الأرض وفي حضنها طفلة ترتعش من البرد، شيخ متّكئ على أحد الجدران وتجاعيد وجهه تحدّثك بما فعل الزمان به، شاب في مقتبل العمر يقود كرسيًّا متحرّكًا يحمل والدته المقعدة، هذه مجموعة من المشاهد التي تعترضك أينما تنقّلت على امتداد شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس أو في شوارعه الفرعيّة. أشخاص بهيئات مختلفة يستعطفون المارّة للحصول على بعض المال لمواجهة مصاعب الحياة.

يجرّم القانون التونسي التكّفف ومعناه الإيهام بسقوط والتحايل على الناس للحصول على المال وتتضاعف العقوبة في حالة استغلال الأطفال

وتعتبر هذه المشاهد تقليديّة بالمقارنة بالأساليب الجديدة التي أصبحت تروج في عالم التسوّل في تونس، ممّا يجعل المتعاطف معهم في ريبة من أمره ولا يستطيع التفريق بين المحتاج والمتحيّل. وربّما ما وقع عرضه من برامج تلفزيّة التي تفضح بعض هذه الممارسات زادت من حيرة المارّة. ويحاول "ألترا تونس" تفسير هذه الظاهرة في هذا التقرير.

أغلب المتسوّلين متحيّلون والأطفال هم من يستميلون القلوب

على الرغم من أنّ الفصل 171 من القانون الجزائي التونسي يعاقب التكّفف ومعناه الإيهام بسقوط والتحايل على الناس للحصول على المال بالسجن لمدة 6 أشهر وتتضاعف العقوبة إلى سنة كاملة إذا تعلّق الأمر باستغلال الأطفال أو استعمال شهائد مدلّسة للتأثير على المارّة ، إلّا أنّه على بعد بضع أمتار من وزارة الداخليّة تجد العشرات من المتسوّلين، جلّهمم من المتحيّلين، يتمركزون في أماكن مختلفة من الشارع الرئيسي في العاصمة.

"ألترا تونس" حاول التواصل مع البعض منهم إلّا أنّ أغلبهم رفضوا التصريح بقصصهم وتعلّلوا بأنّ لا شيء يروى سوى ما يعانون من فقر مدقع دفعهم لـ"التذلّل للناس" من أجل المال.

وقد وافق أحدهم مشاركتنا قصّته باقتضاب شديد، هو شيخ سبعيني عادة ما يفترش بضع كراتين في الشارع الخلفي للمركز التجاري "البالماريوم". يقول إنه لا يملك من يعوله فقد تزوّج أبناؤه الثلاثة وتركوه دون ملاذ يأويه فوجد نفسه مضطرًّا للتسوّل لتأمين قوت يومه.

شيخ سبعيني (متسول) لـ"ألترا تونس": جسدي لم يعد يتحمّل الجلوس لساعات طويلة في العراء خاصّة مع برودة الطقس

ويؤكّد محدّثنا أنّه تعب من هذه الوضعيّة وأنّ جسده لم يعد يتحمّل الجلوس لساعات طويلة في العراء خاصّة مع برودة الطقس، مضيفًا أنّه لا يتمنّى من هذه الدنيا سوى مكان يأويه ويكمل فيه ما تبقى من سنوات عمره على حدّ قوله. وعن تفاعل الناس معه، يقول هذا الشيخ إنّ هناك من يتعاطف معه إمّا بالمال أو بالأكل وهناك من يمرّ دون أن يكترث له وهناك من يكتفي بإلقاء نظرة شفقة ويمرّ في حال سبيله.

وتباينت ردود أفعال المواطنين في علاقة بهذه الظاهرة، حيث تقول نجلاء (38 سنة) لـ"ألترا تونس" إنّ ظاهرة التسوّل في تونس شهدت انتشارًا واسعًا خاصّة بعد الثورة، وذلك بسبب تدهور الاوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة وانتشار البطالة والفقر. وتؤكّد أنّها غالبًا لا تصدّق ما يقال من طرفهم لكنّ أكثر ما يرقّق قلبها هو وجود أطفال صغار ممّا يجعلها تتصدّق عليهم دون تفكير في مدى صدقهم، على حدّ تعبيرها.

حسام (21 سنة) يرى في حديثه لـ"ألترا تونس" أنّ العديد من المتسوّلين يبدعون في ابتكار الطرق والوسائل للتأثير على المارة ونيل عطفهم، مضيفًا أنّ زمن الشخص رثّ الثياب وحامل بطاقة العلاج البيضاء قد ولّى وأنّ أغلبهم يكون متأنّقًا وفي مظهر جميل ويتعلل إمّا بسرقة حقيبته أو بأنّه نسي محفظته بالبيت ويحتاج ثمن تذكرة حافلة أو ميترو. كما يؤكّد محدّثنا أنّ عديد الشبكات الإجراميّة تقف وراء هؤلاء الأشخاص وتستغلّ أوضاعهم الهشّة للمتاجرة بهم، على حدّ قوله.

التسوّل في تونس.. تجارة لا تبور

وفي قراءتها لهذه الظاهرة، تبيّن الباحثة في علم الاجتماع سوسن الغريبي لـ"ألترا تونس" أنّ ظاهرة التسول ظاهرة قديمة جديدة وأنّها في كلّ مرّة تأخذ شكلًا جديدًا إذ كان يمارس فعل التسوّل مجموعة من الأفراد الذين يمرّون بظروف اجتماعية صعبة وكانت منتشرة أكثر في صفوف النساء فكنّ يطلبن صدقة من المارين في الطرقات العامة، مضيفة أنّ فئات اجتماعية واسعة تشفق على هؤلاء المتسولين/المتسوّلات نظرًا لوضعهم الهش.

وتؤكّد الباحثة في علم الاجتماع أنّ التسول في مجتمعنا التونسي بات تجارة مربحة، وفعلًا مبنيًا على عدة استراتيجيات، كما أنّ الصورة النمطية للمتسول تغيرت وتعددت حسب النطاق الجغرافي الذي يتحرك فيه، فالمتسول في الشوارع العامة في العاصمة يختلف عن المتسوّل في الأحياء المُرفّهة، فلكل فضاء خطابه الخاص وسلوك لباسي محدّد.

سوسن الغريبي (باحثة في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": التسول في مجتمعنا التونسي بات تجارة مربحة

وتفسّر محدّثتنا الأمر قائلة إن متسول المناطق الشعبية يتميز بمنظر نمطي حيث نجده رث الثياب، شاحب الوجه، يستعمل لغة استعطافية مشحونة بالمعجم الديني من قبيل "ربي يبارك لك"، "بجاه ربي اعطيني حويجة لله"، "قسمت عليك جاه ربي لا ترد إيدي فارغة"، وغيرها من العبارات. وفي أحيان كثيرة تجد بعض النسوة برفقة رضيع وتطلب منك ثمن حليبه أو طعامه، وهذا يؤثر عاطفيًا في المار فيقدم لهنّ ما تجود به نفسه.

وتضيف أنّ متسوّلي وسائل النقل العمومية يشتركون في بعض الخصائص مثل اللغة المستعملة أو المظهر الخارجي ولكنهم يقدمون خدمات رمزية كبيع "العلكة" أو المناديل الورقية، أو طلب مبلغ محدّد كـ 100 مليم أو 500 مليم، أو باختلاق قصص وهمية من قبيل لقد تعرضت لحادث ساعدوني أو لقد مرضت ابنتي ساعدوني في التكفل بعلاجها، والقصص عديدة ومتجددة في هذا المجال، على حدّ تعبيرها.

أما النوع الثالث من المتسولين فتقول سوسن الغريبي إنّهم يختلفون في المظهر والخطاب فنجدهم في أبهى صورة ويخبرك أن محفظته سرقت ويطلب منك أن تقدم له ثمن تذكرة فقط، أو يخبرك بأنه جاء ليعالج ولم يبقى له ثمن تاكسي فقط. وهذا النوع يقنعك بصدقه من خلال لباقته وحسن مظهره ولو أنك لم تصادفه مرة أخرى وتسمع منه قصة مختلفة لن تتوقع أنه متسول.

 وتؤّكّد محدّثتنا أنّ ظاهرة التسوّل أصبحت تجارة رائجة وأنّ كلّ فئة تختار فضاء عملها وأدوات العمل من مظهر وخطاب وطريقة الطلب، فمنهم من يستميل العواطف ومنهم من يحاول أن يستميل عقلك ومنهم من يحاول أن يستثير عطفك دون طلب المال مباشرة بل من خلال بيع منتوج معين، علّك تعطيه أكثر من ثمنها الفعلي.

سوسن الغريبي (باحثة في علم الاجتماع): توجد قواعد في عالم التسوّل لابد من مراعاتها منها اختيار أماكن لا يتواجد بها الأمن أو متسوّل آخر

وتضيف الغريبي أنّ في عالم التسوّل قواعد وضوابط لابد من مراعاتها، منها اختيار أماكن لا يتواجد بها الأمن، ولا يتواجد بها زميل (متسول آخر) لأنّ لكل منهم مجال عمله، على حدّ قولها. وجميع الفئات الاجتماعية تمارس هذا الفعل بإرادتهم أو بالإجبار فنجد الرضع ونجد الأطفال اليافعين والكهول والنساء وحتّى الشيوخ.

وتختم الباحثة في علم الاجتماع حديثها بالقول إن التسوّل يعتبر جُنحة في القانون التونسي، كما أنّ ممارسه يتعرض للوصم الاجتماعي، ولكنه أيضًا تجاوز الأفراد لتتكون مجموعات وشبكات منظمة تستعمل خاصة الفئات الهشة في ممارسة فعل التسوّل، كما يمكن أن تتعرض هذه الفئات الي العنف والتهديد إذا لم توفر مبلغًا محددًا يتم الاتفاق المسبق حوله.

وتعدّ ظاهرة التسوّل ظاهرة معقّدة تستوجب تدخل عديد الأطراف الأمنية والاجتماعية ومندوبي حماية الطفولة والمصالح المختصة بوزارة المرأة للإحاطة بهذه الفئات الهشة وتطبيق القانون.