09-مارس-2019

يتطلّع جلّهم ضمنيًا إلى محاولة إعادة استنساخ تجربة نداء تونس في سنتي 2012 و2013

 

مقال رأي

 

شهدت حركة تحيا تونس منذ الإعلان عن الشروع في مسار تأسيسها التحاق العديد من الشخصيات التي سبق أن خاضت تجارب سياسية في أحزاب أخرى من مشارب مختلفة، علاوة عن انضمام وجوه من ميدان المال والأعمال والإدارة والمؤسسات العمومية والعمل الجمعياتي والمدني والنقابي.

وقد صرّح المكلفون بعملية إعداد المؤتمر التأسيسي أنّ الحزب تلقى في وقت وجيز لم يتجاوز 5 أيام أكثر من 45 ألف طلب انخراط، وهو في نظرهم مؤشر هام على جاذبية هذا المشروع السياسي الذي يهدف المشرفون عليه إلى الفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان القادم وبالتالي مواصلة تجربة الحكم الحالية بقيادة يوسف الشاهد.

الملفت للنظر في هذه الديناميكية التي يعيش على وقعها الحزب الذي تحصّل رسميًا على التأشيرة القانونية، هو الجانب السياسي البشري المتعلق بالهجرة الجماعية لنشطاء سياسيين نحو بناء تنظيمي جديد مازال قيد التأسيس وهويته الفكرية ورؤيته السياسية لم تتوضح بعد، وعلى الرغم من ذلك فهو يضمّ فسيفساء من المجموعات التي تداعت إلى هذا الكيان الوليد من كلّ فجّ عميق.

لا يمكن الحكم على "تحيا تونس" بشكل قطعي طالما أنّ ملامحه العامة لم تتبلور بعد في نصوص تأسيسية عميقة

لا يمكن الحكم على هذا الحزب بشكل قطعي طالما أنّ ملامحه العامة لم تتبلور بعد في نصوص تأسيسية عميقة تعبّر عن رؤية أصحابه ربطًا بمستقبل التجربة الديمقراطية في تونس والتحديات الاستراتيجية الكبرى، غير أنّه من المهم الوقوف عند ظاهرة موجة الانسحابات من تشكيلات حزبية أخرى والتحوّل نحو "حزب البلفيدير" الذي اختار من هذه المنطقة وسط تونس العاصمة وعلى مقربة من الحديقة العمومية الشهيرة مكانًا لمقرّه المركزي الفخم.

اقرأ/ي أيضًا: نهاية حركة النهضة

شخصيات سياسية من أحزاب الجمهوري والمسار والدستوري الحرّ والنداء والمشروع والوطني الحرّ سابقًا وآفاق وغيرها قرّرت أن تخوض تجربة جديدة في حركة تحيا تونس، التي ولدت من رحم حكومة يوسف الشاهد الذي يقدّم على أنّه الزعيم السياسي لهذا الحزب الجديد.

يتطلّع جلّ هؤلاء ضمنيًا إلى محاولة إعادة استنساخ تجربة نداء تونس في سنتي 2012 و2013 حينما قام الباجي قائد السبسي بتجميع روافد فكرية وسياسية ونقابية وحقوقية عديدة ضمن وعاء تنظيمي واحد تحت يافطة التصدي للترويكا الحاكمة آنذاك بقيادة حركة النهضة مقدمًا نفسه على أنّه الضامن للتوازن السياسي وللتداول السلمي على السلطة.

كما يعولون أيضًا على الرصيد السلطوي لهذا الكيان الناشئ باعتباره "حزب الإدارة" و"الدولة العميقة" التي باتت يتيمة بعد تشظي النداء وضمور الوزن السياسي والشعبي للباجي قائد السبسي، الذي أضحى أسدًا جريحًا ارتأى أبناؤه المرور إلى مرحلة قتل الأب رمزيًا واعتباريًا إيذانًا بميلاد مرحلة سياسية جديدة عنوانها الأبرز انتخابات 2019 والتحالفات التي ستليها في الحكم.

يعول جزء من المنظمين لـ"تحيا تونس" على الرصيد السلطوي لهذا الكيان الناشئ باعتباره "حزب الإدارة"

في نظر هؤلاء لا يحتاج الأمر إلى تعقيدات كبيرة. يكفي فقط التسليم بمقولة أن الشعب سيكون مع القوي أي مع من يملك السلطة والمال والإعلام أو بالأحرى "مع الواقف" كما يتردّد في المعجم الشعبي التونسي. منهاج سياسي وسوسيولوجي تنطبق عليه مقولة "عاش الملك، مات الملك"، فالشعوب ذاكرتها مثقوبة حسب تقدير أصحاب هذا التمشي. لا تهمّ كثيرًا المراجعات ولا قضيّة النقد الذاتي للتجارب التاريخية فالأهم الآن والبلاد تتأهب للحدث الانتخابي المرتقب، هو تجميع أكثر ما يمكن من موارد بشرية وإمكانيات مالية لكسب الرهان وفق الرأي المستبطن لدى غالبيتهم.

من المفارقات أنّ من بين المهاجرين الجدد صوب حركة تحيا تونس من كان في الحزب الجمهوري قبل أن ينتقل إلى تقلد مسؤولية في المجلس المركزي للجبهة الشعبية. انتقال سياسي من النقيض إلى النقيض تمّ دون أيّ تبيان سياسي وفكري نقدي لهذا الخيار الذي رغم أنّه يمكن تصنيفه ضمن خانة الحريّة الشخصيّة لكنّه من المنظور السياسي الموضوعي يضع أصحابه في مأزق أخلاقي قد يعزّز ثقافة الانتهازية ومنطق الغنيمة الذي ظلّ متفشيًا حتّى بعد الثورة، التي قامت ضدّ حزب التجمع الدستوري المنحل وممارسات قواعده وأنصاره وقياداته.

اقرأ/ي أيضًا: معركة الشعب.. معركة الوعي بين القديم والجديد

في حركة تحيا تونس اليوم هناك أيضًا من الملتحقين الجدد من فاز في الانتخابات البلدية بعد أن ترشح على إحدى قائمات الحزب الدستوري الحرّ الذي تتزعمه عبير موسي بخطاب سياسي راديكالي صدامي مع حركة النهضة. خيار سياسي تمّ دون توضيح أسباب مقنعة تبرّر التنقل من معسكر إلى آخر هما على طرفي نقيض وقد يكونا مثل الخطّان المتوازيان اللذان قيل سابقًا عنهما أنهما لا يلتقيان.

هناك قيادات ملتحقة حديثًا بـ"تحيا تونس" كانت بالأمس القريب تدين بالولاء لحافظ قائد السبسي وتشيد بقيادته الحكيمة للحزب

هناك أيضًا قيادات ملتحقة حديثًا بحركة تحيا تونس كانت بالأمس القريب تدين بالولاء للمدير التنفيذي لنداء تونس حافظ قائد السبسي وتشيد بقيادته الحكيمة للحزب رغم أنّه قد تحوّل في عهده إلى "كاراكوز سياسي"، بعد أن نكث جلّ وعوده الانتخابية التي أتاحت له الفوز في انتخابات 2014. نفس هذه الشخصيات هي اليوم تثمّن ما تعتبره مشروعًا سياسيًا طموحًا لرئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي شهدت في عهده البلاد مؤشرات سلبية تاريخية اقتصاديًا وماليًا واجتماعيًا لم يسبق أنّ تمّ تسجيلها حتّى في زمن الترويكا.

صحيح أنّ التجربة الحزبية في تونس مازالت هشّة ومتحركة مثل الوضع العام في البلاد. ولا شكّ في أنّ هذه الحالة السياسية هي مرتبطة بمسار الانتقال الديمقراطي الذي جاء نتاجًا لعقود من الاستبداد والتضييق على الحريات العامة بما في ذلك حرية التنظّم الحزبي وهو ما يفسر التحولات والتقلبات التي تشهدها الساحة الوطنية التونسية. بيد أنّ هذا الظرف الاستثنائي لا يمكن أن يبرّر العبث الحاصل والذي يتجلّى خاصة في طريقة تأسيس الأحزاب السياسية وتمثّلات النخب لهذه العملية التي يفترض أن تكون على أسس صلبة تجتمع فيها المجموعات والأفراد على قاعدة برامج مستقبلية وأرضية سياسية وفكرية موضوعية وواضحة المعالم قابلة لإنتاج حلول ومشاريع إصلاحية تهم مشاكل وحاجيات المجتمع والدولة في نفس الوقت.

قد يعتبر البعض أنّ في هذه الحركيّة ثراء وظاهرة صحيّة تنّم عن حيوية المشهد السياسي في تونس. في حين أنّ الواقع وتجارب الماضي القريب والبعيد على حدّ السواء تؤكد عكس ذلك. فمن مقومات نجاح أيّ مشروع سياسي حزبي ضرورة البناء على المراكمة التي ترتكز على فريضة المراجعات والنقد الذاتي لاستخلاص العبر وهو معطى غائب إلى حدّ الآن في تجربة حركة تحيا تونس، التي أصبحت عملية الاستقطاب والتعبئة داخلها شبيهة بـطريقة "الصيد بالكركارة" التي تقوم على استعمال وسائل تقنية من قبل البحارة مثل الجرافة التي تحصد كلّ ما يعترضها في قاع البحر وهي تتم في عرض السواحل ويبرّر أصحاب هذه الممارسة لجوؤهم إلى هذا النشاط غير القانوني والمدمّر للثورة السمكية بالتراجع الكبير في مردودية القطاع.

الظرف الاستثنائي للبلاد لا يمكن أن يبرّر العبث الحاصل والذي يتجلّى خاصة في طريقة تأسيس الأحزاب السياسية وتمثّلات النخب لهذه العملية

إنّ الواقعية السياسية أو البراغماتية وفق توصيفات أخرى، لا تكفي وحدها لضمان نجاح البناء التنظيمي لحركة تحيا تونس التي قد تولد منذ البداية حاملة لبذور أزمة هيكلية. وضع من المرجّح أنّ يتكرّر مثلما حدث في وقت سابق مع حركة نداء تونس التي تأسّست على عجل لأهداف ظرفية ومصالح متناقضة تقاذفتها الطموحات والمآرب، وقد تفرز في قادم الأشهر عملية تشكيل القائمات الانتخابية لـ"حزب البلفيدير" أولى إرهاصات هذا الخلل البنيوي.

في عملية الصيد بالكركارة يسود منطق الربح السريع الظرفي غير الشريف على حساب المصلحة العامة والتفكير بعيد النظر وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تخريب الحاضر وتدمير المستقبل. ومن لا يقرؤون التاريخ محكوم عليهم أن يعيدوه أكثر من مرّة ولو في صيغ مختلفة، فالتاريخ كما يقول عنه الفيسلوف كارل ماركس يعيد نفسه مرتين، مرّة في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يسار مفاوض حزبيًا و"ثوري" نقابيًا: ما وراء الأكمة؟

تونس.. بلد العجائب السياسية