مقال رأي
بعد إعلان الهيئة الإدارية التي تعدّ أعلى سلطة تقريرية في الاتحاد العام التونسي للشغل قرار المضي في تنفيذ إضراب عام ثان في القطاع العام والوظيفة العمومية خلال يومي 20 و21 فيفري/شباط المقبل، تكون الصورة قد اتضحت أكثر فأكثر حول صراع الإرادات بين يوسف الشاهد والائتلاف الحاكم الداعم له وفي مقدمته حركة النهضة من جهة، والمنظمة الشغيلة والقوى السياسية والاجتماعية المصطفة خلفها في الطرف المقابل.
إنّ معركة كسر العظام الدائرة اليوم بين الطرفين الحكومي والنقابي لا يمكن فهمها خارج مدار الرهانات السياسية الاستراتيجية فتحوّل اتحاد الشغل من موقّع على وثيقة قرطاج التي جاءت بيوسف الشاهد إلى سدّة الحكم في القصبة وواحد من أبرز المساندين له في الفترة الأولى من مرحلة حكمه حيث بلغ الأمر درجة لعب دور الوسيط بين السلطة ومجموعات من المعتصمين إبان أزمة الحوض المنجمي إلى رأس حربة القوى المناهضة للحكومة والمنادية بتغييرها، يعكس حجم التغيير الجذري في العلاقة بين فاعلين أساسيين في معادلة السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.
إن إصرار الشاهد على تمطيط الأزمة يخفي في حقيقة الأمر خلفيات سياسية ليست بمنأى عن قادم الاستحقاقات الانتخابية التي ستكون محدّدة لمستقبل الرجل
يعلم رئيس الحكومة يوسف الشاهد علم اليقين أنّ اتحاد الشغل بات يمثل العقبة الأشد صعوبة في المنعطف الأخير في طريق تحقيق طموحاته السياسية التي تعاظمت خاصة بعد نجاحه في تعميق أزمة حزبه الأم نداء تونس وتقليم أظافر والده الروحي رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي الذي فقد زمام المبادرة بعد أن باءت مختلف مناورته بالفشل.
في هذا الإطار، يأتي تعنّت الشاهد بعد رفضه الاستجابة لمطالب المنظمة الشغيلة في علاقة بمفاوضات الزيادة في رواتب قطاع العاملين في الوظيفة العمومية رغم قناعته بخطورة التصادم مع اتحاد الشغل، صاحب النفوذ القوي في المعادلة الوطنية.
واهم من يعتقد أنّ ضغوطات صندوق النقد الدولي وتهديداته بتعليق التعاون مع الدولة التونسية وهو ما قد يؤدي عمليًا وقتها إلى إمكانية عجز الحكومة عن صرف رواتب أعوانها وموظفيها، وحدها التي كانت وراء قرار الشاهد بعدم تلبية مطالب اتحاد الشغل الذي اشترط زيادة تضاهي تلك التي تمّ توقيعها في الاتفاق الخاص بالترفيع في أجور العاملين في المنشآت والمؤسسات العمومية. ولا شكّ في أنّ الشاهد يراهن على تحجيم دور اتحاد الشغل الذي وجد نفسه وجهًا لوجه في مواجهة قد تكون محدّدة لمستقبل العملية السياسية في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: الإضراب العام يهدد الوحدة الوطنية أم يكرسها؟!
لقد كان من الممكن أن يتوصل رئيس الحكومة إلى تسوية مع المنظمة الشغيلة خلال الأيام الماضية من المفاوضات التي سبقت تنفيذ الإضراب العام الأخير، الذي أعاد خلط الأوراق من جديد، بيد أنّ إصراره على تمطيط الأزمة يخفي في حقيقة الأمر خلفيات سياسية ليست بمنأى عن قادم الاستحقاقات الانتخابية التي ستكون محدّدة لمستقبل الرجل و"مشروعه السياسي" الذي حظي بهالة إعلامية كبرى وشدّ انتباه جلّ المتابعين للتجربة التونسية داخليًا وخارجيًا رغم الضبابية التي تكتنف ملامحه وأرضيته.
من هذا المنطلق يمكن الجزم بأنّ الأزمة القائمة بين الطرفين هي في ظاهرها اجتماعية متعلقة بغلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للعمّال والموظفين ولكن في عمقها هي سياسية بامتياز تحتّم على كلّ طرف إعداد العدّة لخوض حرب استنزاف أضحت أمرًا واقعًا وقد تستعمل فيها كلّ الأسلحة المشروعة وغير المشروعة.
يكفي أنّ نتأمل في الشعارات والمؤيدات التي يقدمها كلّ طرف دفاعًا عن موقفه لنستشف عمق الرهان السياسي الاستراتيجي في هذه المعركة التي يبدو أنّها ستكون مفصلية في علاقة بموقع الطرفين وحجم تأثيرهما في مستقبل البلاد سياسيًا وانتخابيًا.
ففي الوقت الذي يراهن فيه يوسف الشاهد على تقديم نفسه كزعيم سياسي مستقبلي قويّ قادر على تحمّل أعباء الحكم وفرض منطق علوية مصلحة الدولة في علاقة بالالتزامات مع الشركاء الخارجيين وكبار المستثمرين وأصحاب المؤسسات الاقتصادية محليًا حسب رؤيته الخاصة، يتطلّع اتحاد الشغل إلى كبح جماح رئيس الحكومة الحالي وإنهاكه شعبيًا وهو الذي يستعدّ للإعلان عن تأسيس حزب جديد ليكون مطيّة لتثبيت أسس استدامة حكمه خلال المرحلة التي ستلي انتخابات 2019.
الأزمة بين الحكومة واتحاد الشغل في عمقها سياسية بامتياز تحتّم على كلّ طرف إعداد العدّة لخوض حرب استنزاف أضحت أمرًا واقعًا وقد تستعمل فيها كلّ الأسلحة
إنّ رهان حرب الاستنزاف بين الطرفين منصب أساسًا على الفئات الاجتماعية المتوسطة التي هي تمثّل الخزّان الانتخابي الأكبر والذي قد يكون محدّدًا في نتائج الانتخابات القادمة. فالشاهد يسعى جاهدًا لإقناع هذه الشرائح الاجتماعية بأنّ مصلحة البلاد تقتضي لزامًا انتهاج مقاربة مختلفة تمامًا عمن حكموا منذ 2011 والذين تجنبوا لي ذراع المنظمة الشغيلة فكانوا كلّما اشتدت الأزمة إلا واستجابوا لمطالب الطرف النقابي المتعلقة بالمفاوضات الاجتماعية والزيادة في الأجور.
في حين يرى اتحاد الشغل أنّ الظرف الراهن الذي اتّسم بضعف قوى المعارضة لاسيما الديمقراطية الاجتماعية والتي بدت عاجزة عن التصدي لسياسات حكومة الشاهد الليبرالية ومآربه المتعاظمة بعد أن أصبح رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية يحتمّ لعب دور طلائعي مباشر يتجاوز البعد الاجتماعي فقط. هنا بالذات قد تلتقي مصالح المنظمة الشغيلة بشكل غير مباشر مع حزب النداء ورئيسه الشرفي الباجي قائد السبسي الذي كان سببًا في استدراج الطرف النقابي للمشاركة في حكومة الشاهد الأولى والتوقيع على وثيقة قرطاج وقتها تحت يافطة الوحدة الوطنية وضرورة تكاتف الجهود لمجابهة نزيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتحديات الأمنية والسياسية.
إعلان قيادة اتحاد الشغل مؤخرًا أنّ المنظمة مهتمة وستكون معنية بالانتخابات القادمة بقطع النظر عن مسألة المشاركة المباشرة من عدمها يبرز بشكل لا مراء فيه الدور السياسي الذي وضع على أجندة الطرف النقابي الذي تتطابق رؤيته في عديد المسائل مع أحزاب المعارضة اليسارية والديمقراطية الاجتماعية وقطاعات واسعة من المجتمع المدني والمبادرات المواطنية المستقلة عن الطيف الحزبي والتي تتبنى نفس التشخيص والتوجهات في علاقة بسبل الخروج بالبلاد من أزمتها التي باتت تهدّد مسار الانتقال الديمقراطي برمته.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الإضرابات العامة في تونس.. من الخميس الأسود إلى إضراب الوظيفة العمومية
يدرك اتحاد الشغل أيضًا أنّ حرب الاستنزاف هذه قد تكون سلاحًا ذو حديّن، فهي تتطلب نفسًا طويلًا وقدرة كبيرة على تعبئة القواعد النقابية وخاصة الشارع الذي يزداد انقسامه يومًا بعد يوم بين مؤيدين للمنظمة الشغيلة ومعارضين لها. وقتها سيكون اتحاد الشغل إزاء واجب تحقيق نتيجة ملموسة تكون في مستوى انتظارات منظوريه بأقل الخسائر لاسيما على مستوى صورته وشعبيته لدى الرأي العام وعموم المواطنين مع قرب موعد حلول شهر رمضان وفصل الصيف الذي تشهد فيه البلاد خفوتًا في الاهتمام بالشأن العام ومنسوب الحراك السياسي والذي سيتلوه مباشرة انطلاق موعد الحملات الانتخابية.
حتمًا لن يتوقف الصراع المفتوح بين اتحاد الشغل وحكومة الشاهد على ملف المفاوضات الاجتماعية في قطاع الوظيفة العمومية بل حتّى في حال التوصل إلى تسوية تبدو غير محسومة حاليًا فإنّ اشكالية التعليم الثانوي وإمكانية مزيد تفاقم الأزمة داخل قطاع التربية ما قد يعيد شبح السنة البيضاء وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي والنفسي للسواد الأعظم من العائلات التونسية ستكون إحدى الورقات المحدّدة في مصير الطرف الحكومي.
تفتح حرب الاستنزاف الباب أمام سيناريوهات عديدة ممكنة في الفترة القادمة. فخيار التصعيد الذي ارتأى السير فيه اتحاد الشغل وإصراره على عدم التوصل إلى تسوية دون قبول الحكومة بمبدإ إقرار زيادة في الأجور تضاهي في قيمتها نفس الحجم الذي تمّ التوافق عليه في مفاوضات القطاع العام وفق الروزنامة التي يقترحها لتفعيل ذلك، من المؤكد أنّه سيبعثر أوراق الشاهد بخصوص استعداداته صحبة القوى الملتفة حوله لخوض غمار الانتخابات التشريعية وربّما الرئاسية القادمة التي يروم من خلالها الحصول على أغلبية ولو نسبية تسمح له بمواصلة قيادة سفينة الحكم صحبة شريكه الأبرز حركة النهضة التي بدا متوافقًا معها حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى لاسيما وهي التي تعيش على وقع فكّ الارتباط بحليفها السابق نداء تونس ومؤسّسه الباجي قائد السبسي وهو ما يجعلها إزاء حتمية البحث عن حليف استراتيجي قويّ.
يدرك اتحاد الشغل أنّ حرب الاستنزاف قد تكون سلاحًا ذو حديّن، فهي تتطلب نفسًا طويلًا وقدرة كبيرة على تعبئة القواعد وخاصة الشارع الذي يزداد انقسامًا
في هذه الوضعية التي يصطدم فيها الشاهد وحيدًا باتحاد الشغل قد يجد نفسه إزاء فرضية تقمّص دور الضحيّة قبيل المحطة الانتخابية المرتقبة كاستراتيجية اتصالية وسياسية يمكن أن تفضي إلى إعلان استقالة حكومته وتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال ودخوله المعترك الانتخابي من الواجهة الأمامية المباشرة أملًا في أن يستثمر ذلك عبر صندوق الاقتراع بتفويض شعبي.
يخوض الشاهد حرب استنزاف مع اتحاد الشغل ربحًا للوقت وهو يدرك أنّ هذه المغامرة ستكون حبلى بالمطبات والفرضيات غير المضمونة. فترويض المارد النقابي يعني كسب نقاط هامة في صراع تثبيت أركان حكمه انطلاقًا من الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة خاصة وأنّ حليفه حزب حركة النهضة يمرّ بوضع حرج تتقاطع فيه العوامل الخارجية بالداخلية لاسيما بعد إثارة ملف ما بات يسمّى إعلاميًا بالجهاز السرّي والذي أضعف كثيرًا هوامش المناورة لدى جماعة مونبليزير فضلًا عن القمة العربية المنتظرة في تونس خلال شهر مارس/آذار والتي يروم من خلالها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي استعادة موقعه كلاعب محوري في لعبة الشطرنج السياسي وطنيًا وإقليميًا على وجه الخصوص لاسيما مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر حركة نداء تونس الذي يهدف من خلاله إلى ترميم ما يمكن ترميمه قبيل الانتخابات القادمة نهاية العام الجاري.
لكن سيناريو فشل الشاهد في مساعي تحجيم دور اتحاد الشغل في المعادلة الوطنية قد ينقلب معه السحر على الساحر فتتحول حرب الاستنزاف بين الطرفين إلى وبال على الطموحات السياسية لرئيس الحكومة الحالي لاسيما مع تفاقم الأزمة الاجتماعية وموجات الغضب لدى الفئات الفقيرة والجهات الداخلية، والذي من المؤكد أنّ الانتخابات القادمة وحدها ستكون المحك الحقيقي لتقييم حجم ثقل وزنه الشعبي وآفاق مستقبله السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: