17-يناير-2019

يبدو الإضراب العام في القطاع العام والوظيفة العمومية مبطّنًا بالسياسة (صورة تقريبية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

مقال رأي

 

أسئلة عديدة تحفّ بالإضراب العام في القطاع العام والوظيفة العمومية الذي نفذه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الخميس 17 جانفي/ كانون الثاني 2019 من قبيل لماذا المضي قدمًا في اتجاه الإضراب رغم أن الاتفاق بين الحكومة والمنظمة الشغيلة كان على حافة الإمضاء؟ لماذا تلكأت الحكومة في الجلسات الماراطونية الأخيرة التي جمعت وفود التفاوض وتشبثت بنقاط فنية صغيرة دفعت من خلالها الاتحاد للذهاب إلى تنفيذ الإضراب العام؟

لماذا لم تتدخل رئاسة الجمهورية بشكل واضح بثقلها الرمزي وبوزنها النسبي في السلطة للدفع إلى الحلحلة وتجنيب الوطن إضرابًا خسارته المادية فادحة ولا تتحملها خزينة الدولة؟ ما هي تداعيات الإضراب العام على الحياة السياسية والاجتماعية في تونس في قادم الأيام وهل سيشرّع على آفاق أخرى؟

إن الاضراب العام  قد يبدو ظاهره اجتماعيًا مرتبطًا بالمعيشي واليوميّ لكن له وجه سياسي يختفي أحيانًا ويبرز أحيانًا أخرى

اقرأ/ي أيضًا: الإضراب العام يهدد الوحدة الوطنية أم يكرسها؟!

أسئلة لا حصر لها تتناسل من بعضها إلى ما لا نهاية له بخصوص هذا الحدث الهام الذي تعيشه تونس للمرة الرابعة منذ الاستقلال عن فرنسا سنة 1956 إلى اليوم.

إن الإضراب العام في القطاع العام والوظيفة العمومية قد يبدو ظاهره اجتماعيًا مرتبطًا بالمعيشي واليوميّ ويتنزّل في روافد اجتماعية أبرزها التردّي الواضح والجلي للمقدرة الشرائية للموظفين العموميين والمواطنين بشكل عام، لكن لهذا الإضراب وجه سياسي يختفي أحيانًا ويبرز أحيانًا أخرى.

فمنذ المؤتمر الأخير للاتحاد العام التونسي للشغل وصعود مكتب تنفيذي جديد على رأسه نور الدين الطبوبي والحرب مندلعة بين حكومة يوسف الشاهد والمنظمة الشغيلة، تخفت أحيانًا لتبرز في أحيان أخرى. وأسباب ذلك عديدة، لكن أبرزها هو قلق الاتحاد العام التونسي للشغل من فشل مسألة الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه تونس بلا هوادة منذ تسع سنوات خاصة وأنه ساعد في إنجاح بعض المحطات التي كانت فيها البلاد ستنزلق نحو المجهول وتشكيله لما سمي بـ"الرباعي الراعي للحوار" واعتراف العالم بالدور التاريخي للمنظمة الشغيلة في إنقاذ تونس من عنف محدق ونال بذلك جائزة نوبل للسلام. 

الشعار الذي رفعته حكومة يوسف الشاهد منذ توليها الحكم وهو "محاربة الفساد" فنّده الاتحاد العام التونسي للشغل سياسيًا

أيضًا متابعة ومراقبة الاتحاد العام التونسي للشغل وبانشغال واضح للوضع السياسي في تونس المتسم بالتردي والضبابية والابتعاد التام عن نتائج انتخابات 2014، واتهامه لحزب حركة النهضة بالتغوّل السياسي وابتلاعها للحكم في ظل الأزمة التي يعيشها حزب نداء تونس الفائز الأول في تشريعية ورئاسية 2014.

ومن الأسباب كذلك انسجام الرؤى السياسية والإيديولوجية للاتحاد مع رؤى بعض الأحزاب والمنظمات الوطنية الأخرى والتي يمكن أن تتلخص في إزاحة الحكومة الحالية المسنودة سياسيًا من حزب حركة النهضة وأحزاب أخرى موالية للنهضة ومتعطشة للسلطة والذهاب للاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019 بحكومة جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: الطبوبي: الحكومة جوّعت الشعب وقرارات تصعيدية منتظرة

الشعار الذي رفعته حكومة يوسف الشاهد منذ توليها الحكم وهو "محاربة الفساد" فنّده الاتحاد العام التونسي للشغل سياسيًا بأن اتهم الحكومة بأنها كانت انتقائية في تعاملها مع رجال الأعمال الفاسدين. وفنّده بالأرقام والمؤشرات حيث أثبت بواسطة خبرائه أن الفساد آخذ في الانتشار كالنار في الهشيم وأن الاقتصاد الموازي فاق نسبة 52 في المائة، ليؤكد بذلك أن شعار محاربة الفساد هو "بروبغندا" سياسية فقط في حين أن الواقع هو عكس ذلك.

الاتحاد ومنذ الإضراب العام الخاص بالوظيفة العمومية يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 باتت تصريحات قياداته واضحة وغير مشفرة، فهي تتهم هذه الحكومة ومن والاها بالفشل الذريع في كل الاتجاهات وبحماية الفساد وتذهب التصريحات بعيدًا بالتلويح في دخول الاتحاد للسباقات الانتخابية القادمة.

يبقى الإضراب العام على أهميته مسكونًا بالخطورة خاصة إذا تطلعنا إلى آفاقه السياسية القصية حيث لا تبدو سوى العتمة

صمت رئاسة الجمهورية وعدم مسارعتها بالتدخّل فيما يتعلق بالإضراب العام قرأه البعض في سياق تخلّي الرئيس الباجي قائد السبسي (مؤسس حزب نداء تونس ورئيسه الشرفي منذ وصوله إلى قصر قرطاج) عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الابن العاق ندائيًا والمرتمي في الآونة الأخيرة في أحضان حزب آخر هو حركة النهضة.                 

كل هذه المؤشرات تبيّن أن الإضراب العام في القطاع العام والوظيفة العمومية مبطّن بالسياسة تماهيًا مع مقولة شهيرة لكارل ماركس مفادها أن "العمل النقابي هو الدرجة الصفر للعمل السياسي".

أما الحكومة ومساندوها فإنهم وحسب المتابعين يحسنون المناورة السياسية حيث حاول الشاهد أن يكون مباشرًا مع الشعب في تقديمه الأرقام والمؤشرات التي حالت دون الزيادة في الأجور ومدى تأثير ذلك على الميزانية العامة للدولة وارتهان البلاد للجهات المانحة والمقرضة، متهمًا المنظمة الشغيلة بعدم التفهم وانزياحها التام عن أدوارها الاجتماعية وممارستها السياسة علنًا وميلها لأحزاب بعينها لأسباب إيديولوجية بالأساس.

لكن كل هذا له انعكاسات سلبية على المناخ العام في تونس أولها متصل بالانتقال الديمقراطي في حد ذاته الذي بات يعاني هزات متتالية قد تنسف العملية الديمقراطية الناشئة. وثانيها متصل بالحياة اليومية للمواطن التونسي الذي بات معيشه اليومي قاسيًا وصعبًا في ظل انفلات الاسعار وازدهار أنشطة المحتكرين والوسطاء والمهربين، وهو ما أدى إلى بروز ظاهرة مجتمعية خطيرة وهي الهجرة ذات الرأسين، الهجرة السرية والمجازفة عبر البحر نحو شموس الشمال البعيدة، والثانية العلنية والمتمثلة في هجرة الأدمغة في اتجاه جنات أخرى منشودة حيث الكرامة والمال.

يبقى الإضراب العام على أهميته كحق وكرسالة واضحة من الاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة عريقة كانت سدًا منيعًا ومازالت، أمام الحكومات والسياسات والأنظمة السياسية والمتربصين بكرامة الشعب التونسي، مسكونًا بالخطورة خاصة إذا تطلعنا إلى آفاقه السياسية القصية حيث لا تبدو سوى العتمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ الإضرابات العامة في تونس.. من الخميس الأسود إلى إضراب الوظيفة العمومية

هوامش.. على دفتر جدل الثورة