19-فبراير-2024
بورقيبة على خط الرمل نزار بولحية

"بورقيبة على خط الرمل" رواية تتقاطع فيها الأحداث والشخصيات ويمتزج فيها الواقع بالخيال وتتسلّل إليها رائحة السلطة والسياسة والتاريخ والإبداع الفني

 

"هل كانت تونس تستحق كل ما جرى لها في تلك السنوات؟".. هكذا ذيّل الكاتب نزار بولحية روايته الجديدة "بورقيبة على خط الرمل". رواية تتقاطع فيها الأحداث والشخصيات ويمتزج فيها الواقع بالخيال وتتسلّل إليها رائحة السلطة والسياسة والتاريخ والإبداع الفني. وقد يتسلل إليك الشك خلال كافة مراحل القصة فلا تميّز بين ما هو حقيقة وماهو مخيال حتى تكاد تعصف بك تلك السفينة في أمواج بحر هذه البلاد التي اهتزت عديد المرات وشهدت تحولات في مشهدها السياسي.

سفينة تونس كانت حاضرة في كافة مراحل الرواية بداية من واقعية هجرة الحبيب بورقيبة السرية انطلاقًا من جزيرة قرقنة نحو طرابلس الغرب وما حف من تلك الهجرة من غموض. الرحلة التاريخية في الواقع انطلقت من شواطئ قرقنة على متن مركب "اللود"، وقد تمّ التنسيق وكراء اللود من صاحبه علي الزاهي وانطلقت الرحلة البحرية في اتجاه ليبيا تقل أربع أشخاص على متنها وهم الرايس محمد العون والرايس علي الزاهي وخليفة حواص والحبيب بورقيبة. 

"هل كانت تونس تستحق كل ما جرى لها في تلك السنوات؟".. هكذا ذيّل الكاتب نزار بولحية روايته "بورقيبة على خط الرمل" التي تتقاطع فيها الأحداث والشخصيات ويمتزج فيها الواقع بالخيال وتتسلّل إليها رائحة السلطة والسياسة والتاريخ والإبداع الفني

كان ذلك في شهر ماي/أيار 1947 حيث التقى هناك، أي بليبيا، بمصطفى حسن باي (وعاد محمد العون ومن معه أدراجهم إلى قرقنة بعد أن تأكدوا من وصول بورقيبة، ثم بعدها واصل الحبيب بورقيبة رحلته إلى القاهرة التي وصلها في 3 جوان/يونيو 1947، حينها بعث برسالة شكر وطمأنة إلى محمد العون).

فكّ ألغاز هذه الرواية لكاتبها نزار بولحية تبدأ من هنا، وتحف بها خطوط الرمل التي لم تكن خطوط الضرب ولا علم الطّرق ولا طريق الكهانة والسحر وإنما هي خطوط مرت بها تونس. 

فالرواية تنقسم إلى ثلاثة فصول وتضمنت خط الانحدار وخط السقوط وخط النجاة وخط النجاح وخط التحولات وخط المصائر. و من هنا كانت البداية في سفر تونس عبر عهود مختلفة بداية من الزمن الاستعماري إلى الزمن البورقيبي وصولًا إلى الزمن النوفمبري، وخلال جميع المراحل جمع الروائي بين شخصيات حقيقية واقعية مثل بورقيبة وزين العابدين بن علي ورشيد صفر وسعيدة ساسي  بوصفارة والصياح و مزالي و محمد القرقني وغيرهم، وشخصيات غير واقعية أو تحمل أسماء مستعارة جنيسة لأشخاص واقعية مثل عم الهادي وسالم وغيرهم.

لعل ما يميز الرواية كتابة وتدوين آثار شفوية نطق بها فاعلون في كواليس السياسة بعيدًا عن الأنظار والمسامع، تلك الاجتماعات التي تحدث هنا وهناك لرسم معالم حكم تونس وتحدد دوائر الولاءات والعداوات

هذا المزج بين الشخوص حوّل القصة إلى أحجية وجب فكها وتفكيك مكوناتها ربما بشهادات لمؤرخين أو مراجع مكتوبة، فهي تشجعنا على كشف ما خفي منها أو ما أراد الكاتب إيصاله. ولعلّ المصارحة ببعض الحقائق التاريخية الواردة في رواية "بورقيبة على خط الرمل" تحيلنا على زمن الصدام الذي كان مسكوتًا عنه وهو زمن صدام الحبيب بورقيبة مع صالح بن يوسف وصدام بورقيبة مع الإسلاميين أواخر عهده بالحكم وتولي زين العابدين بن علي مقاليد وزارة الداخلية وانقلابه على بورقيبة وإطلالته النوفمبرية في 1987، إنه خط السلطة الذي كانت تتكالب عليه ذئاب السياسة في ذاك العهد.

 

 

ولعل ما يميز الرواية كتابة وتدوين آثار شفوية نطق بها فاعلون في كواليس السياسة بعيدًا عن الأنظار والمسامع، تلك الاجتماعات التي تحدث هنا وهناك لرسم معالم حكم تونس وتحدد دوائر الولاءات والعداوات.

إنها أزاميل السياسة التي نحتت أغوار السلطة والحكم في تونس كانت كالضرب على الرمل لما تكتسيه من غموض ومسار نحو المجهول.

 

صورة
رواية "بورقيبة على خط الرمل" للكاتب نزار بولحية

 

  • من الكتابة الصحفية إلى الكتابة الروائية 

التقى مراسل "الترا تونس" الكاتب الروائي نزار بولحية الذي أسهم لعقود في كتابة المقالات والتحاليل بصحف عربية وكان له إصدار سنة 1995 "ديبلوماسية السفاحين" (حول حرب البلقان، البوسنة والهرسك).

وخلال المقابلة، حاولنا فك بعض رموز الرواية وقراءة خطوطها الكبرى، سألنا الكاتب حول منهجه في الكتابة ومدى استجابة الحرف للأفكار التي حاول ترسيخها في الرواية فأجاب: "أن نكتب يعني أن تكون عندنا فكرة جاهزة من قبل أو نكتب لنعكس موقفًا أو نكتب لنلبي رغبة ذاتيّة فينا أو لرغبة أو إحساس بضرورة الكتابة. لن أدّعي أنني كتبت دون أن أنطلق من أي فكرة، أي كتبت من فراغ، ولا أدّعي أني تماهيت مع ذاتي وكتبت بطريقة منفلتة وبطريقة متحرّرة جدًا، ولم يكن لي أي منهج أو ما سمّيته أنت بخط تحريري، هو ربما يصح هذا المفهوم على الصحافة وليس العمل الفنّي الأدبي".

 

  • خطوط الرواية

وأضاف بولحية قائلًا: "كانت لي بالطبع بعض الانطباعات والمواقف حول تلك الحقبة من تاريخ تونس، لكنني حاولت في تناولي لها أن أبتعد عن زاوية أو نظرة السياسي أو نظرة المؤرخ وأن أتعامل مع تلك الحقبة التي عشت جزءًا منها على الأقل بطريقة أدبيّة وروائية أكثر منها بطريقة سياسية أو تاريخيّة". 

الكاتب نزار بولحية لـ"الترا تونس": حاولت في تناولي رواية "بورقيبة على خط الرمل" أن أبتعد عن نظرة السياسي أو المؤرخ وأن أتعامل مع تلك الحقبة التاريخية بطريقة أدبيّة وروائية

وحول اختياره لعنوان الرواية، يقول نزار بولحية: "رأيت في فكرة الخطوط أنها تعيدنا إلى فكرة الحياة بالنسبة لي الحياة عبارة عن خطّ يبدأ بنقطة وينتهي في أخرى، وبين هذه وتلك تدور مجموعة من الأحداث والوقائع التي هي تختلف من شخص إلى آخر ومن بلد إلى آخر، لكنّ الكل يلتقي في تلك النقطة النهائية التي هي الموت".

يقول نزار بولحية: "السطر الأخير من الرواية فيه إشارة قويّة لهذه الفكرة، وكيف أنّ كل هذه الخطوط على تفرّقها وتنوّعها وعلى اختلاف منطلقاتها تصبّ في مسار نهائيّ وحيد وهو الموت لذلك اخترت لتنظيم هذه الرواية خطوطًا كالانحدار والسقوط وغيرها، كسمة من تاريخ هذا البلد".

 

  • الرواية وفخّ التأريخ

ويضيف محدث "الترا تونس": "بالعودة إلى بورقيبة، هناك نقطة أساسية، وهي أنّ الريس محمد في أحد فصول الرواية بدأ يتحدث عن بورقيبة وعن العلاقة التي تجمعهما وأشار إلى نقطة مهمة وهي التأريخ لبورقيبة ومن يكتب لبورقيبة على لسان أبطال الرواية".

وعقّب قائلًا: "معظم من يكتب سيرة بورقيبة أو جزءًا من تاريخه أسمّيهم بالمشرّحين وليس المؤرّخين، من قاموا بتشريح الإرث أو ما تركه بورقيبة كالأطبّاء الشرعيين الذين يزوّرون الحقائق، فعدد كبير من المؤرخين يقومون بعمليّة تشريح وفيه عمليّة تحريف للتاريخ لأنهم يفقدون الرواية الأصليّة للأحداث التي جرت و يطوّعونها وفق أجندات أو أهداف أو غايات أخرى"، مستطردًا: "بالفعل أعتبر أن بورقيبة شخص ظلم من طرف المؤرخين، فقد ظلموه حين امتدحوه بشكل مفرط وظلموه حين حاولوا ازدراءه وطمس جوانب إيجابية في سيرته".

نزار بولحية لـ"الترا تونس": أعتبر أن بورقيبة شخص ظلم من طرف المؤرخين، فقد ظلموه حين امتدحوه بشكل مفرط وظلموه حين حاولوا ازدراءه وطمس جوانب إيجابية في سيرته

حول مدى تاريخية كتابه، يجيب نزار بولحية: "هذا العمل ليس تاريخيًا ولا سياسيًا، لم أتقمّص دور المؤرّخ ولم أكتب هذا العمل بروح أو فكر السّياسي، أنا كتبت عملًا أدبيًا فنيًا ونظرت إلى بورقيبة وشخصيات عاصرته على أنها شخصيات روائيّة فقط. المؤرّخ في هذه الحالة إذا قرأ الرواية سيطرح على نفسه سؤالًا هو وحده سيجيب عنه: "هل تستحق تونس كلّ ما جرى لها؟" على المؤرّخ والقارئ أن يطرح هذا السؤال على نفسه، وقد اخترت عن قصد ألا أتحدّث باسم شخصيّاتي الروائية بل أتركها تتحدّث عن نفسها بنفسها بين سطور الرواية بضمير الأنا، هذا خيار في القصّة ولا أعرف إن كان صائبًا أم لا، ويبقى الحكم هنا للقارئ".

 

 

اعتبر الكاتب نزار بولحية أن "هذه الرواية ليست خاصّة ببورقيبة كزعيم أو كشخص فقط، وليس هو البطل الوحيد في الرواية، ففيها تقاطع بين بورقيبة الشخص ومساره وشخصيات أخرى عاصرته بعضها حقيقي وبعضها خيالي. وهذا التقاطع بين مسار بورقيبة ومسار تلك الشخصيات هو الذي استدعى في الأخير هذه الرواية".

نزار بولحية لـ"الترا تونس": الحقبة الزمنية التي تناولتها الرواية تحتضن سنوات ملتهبة، سنوات النار والدم، بين 1945- 1985، فقد كانت سنوات حاميّة ومفصليّة في تاريخ تونس الحديث

وأضاف بولحية قائلًا: "الحقبة الزمنية التي تناولتها الرواية تحتضن سنوات ملتهبة، سنوات النار والدم، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك فنحن نتحدّث عن 40 عامًا (بين 1945- 1985)، كانت سنوات حاميّة ومفصليّة في تاريخ تونس الحديث. هكذا أراها، بدأت بنوع من النجاة والنصر في سنة 1945 لبورقيبة حين استطاع أن ينجو بنفسه من غرق محقق في البحر المتوسط في تلك الرحلة الشهيرة التي قادته إلى الشرق من جزيرة قرقنة التي دائمًا أقول عنها إنها منسية ونائية، وتتداعى الأحداث شيئًا فشيئًا إلى أن نصل إلى منتصف الثمانينات وهي فترة الانحدار والسقوط المريع الذي تدحرجت فيه الأمور وصولًا إلى الانقلاب الطبي الذي قام به بن علي سنة 1987 فكانت سنوات قاسية على تونس".

 

صورة
الحبيب بورقيبة باللباس القرقني

 

الصحفي محمد وليد الجموسي، في مقابلة له مع مراسل "الترا تونس"، يقول: "تثير رواية "بورقيبة على خط الرمل" للكاتب نزار بولحية، لدى القارئ حيرة كبيرة باعتبار الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه، وهو الرواية التي تقوم على التخييل من ناحية وباعتبار المتن المشحون بالحقائق التي تدعو القارئ بإلحاح للتفكير فيها والبحث عميقًا في تاريخ تونس من ناحية ثانية". 

الصحفي محمد وليد الجموسي لـ"الترا تونس": الرواية امتدت زمنيًا على مدى عقود وروائيًا على امتداد عشرات الصفحات، تعرضت لتجربة بورقيبة من زمن الكفاح إلى زمن الصعود إلى زمن السقوط عبر حبكة اعتمدت كثيرًا لعبة الفلاش باك

ويضيف الجموسي: "هي رواية امتدت زمنيًا على مدى عقود وروائيًا على امتداد عشرات الصفحات، تعرضت لتجربة بورقيبة من زمن الكفاح إلى زمن الصعود إلى زمن السقوط عبر حبكة اعتمدت كثيرًا لعبة الفلاش باك. فتعددت في النص الخطوط وقد ارتبط كل خط من هذه الخطوط بحقبة زمنية معينة، فكان الكاتب في منزلة الشاهد على العصر والعارف بالخفايا، وكان في منزلة الناقل للأحداث من خلال عديد الشخصيات التي كانت لها علاقة بمحور القرار السياسي في تونس ينقل أقوالها وأفعالها وخبايا أنفسها وأحاسيسها، ما يجعل القارئ في حيرة بين الحد الفاصل والواصل، وبين الواقعي والخيالي، أي بين ما مداره التاريخ وبين ما مداره الخيال".

وتابع الجموسي قائلًا: "الكتاب مجازفة بكلّ ما للكلمة من معنى. باعتبار ما تضمنه من أحداث ونقله من كواليس للمطبخ السياسي في تونس. ميزته أنه اعتمد خطابًا تقريريًا نأى بنفسه عن التأليه والشيطنة. وحاول أن يقارب شخصية بورقيبة بطريقة مختلفة عن السائد في مدونات التاريخ. ويركز على حدث أهمله الكثير من المؤرخين وهو تلك الرحلة التي قادته إلى ليبيا ومنها إلى الشرق على متن مركب، والتي حددت آجلًا مستقبل الفعل السياسي في تونس وكانت مصيرية".

محمد وليد الجموسي: الكتاب مجازفة باعتبار ما نقله من كواليس للمطبخ السياسي في تونس ميزته أنه اعتمد خطابًا تقريريًا نأى بنفسه عن التأليه والشيطنة وحاول أن يقارب شخصية بورقيبة بطريقة مختلفة عن السائد في مدونات التاريخ

"بورقيبة على خط الرمل" رواية قد تستفزّ المؤرّخ الذي لا يجد فيه منهجًا علميًا وتغضب السياسي الذي استهوته ولاءاته، وقد تثير الناقد الأدبي الذي سيجد فيه "الأنا المتضخّمة" في الشخوص. وفي النهاية سيبقى السؤال: "هل رست سفينة النجاة أم لا تزال الأمواج تتلاطمها يمنة ويسرة؟".

 

صورة
الكاتب نزار بولحية في مقابلة مع مراسل "الترا تونس"