01-مارس-2019

مرضي بدأ مع ثورات الربيع العربي (باتريك باز/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

ها أنا الآن، أقف أمام المرآة وتشير الساعة إلى الرابعة صباحًا. هي ليلة أخرى من ألف ليلة لا أعرف فيها طعم النوم، أو ربما أتعمد السهر حتى الضحى لأمضي باقي اليوم مغمض العينين. مرّت أكثر من ربع ساعة ولازلت أمام المرآة، أحدّق في الوشم الثالث على جسدي النحيل. أفكر، من كان يتصور أن الوشم سيغطي جسد فتى عادي مثلي؟

وشم هو الثالث في ظرف ثلاث سنوات تحديدًا منذ أن أدمنت الألم، ألم مادي يترك أثره في شتى أنحاء جسدي، ويلازمني لأيام لينسيني ألمًا آخر معنوي. يأبى منذ مدة أن يتركني في حال سبيلي، يحتل عقلي وفؤادي، لا دواء قادر على طرده، فتراني إذا ما تلى القمر الشمس، أتخذ ركنًا منا غرفتي الصغيرة، أضغط بيدي على ركبتي وأبكي لساعات كالمجانين أو لعلي واحد منهم.

اقرأ/ي أيضًا: معركة الشعب.. معركة الوعي بين القديم والجديد

ها أنا الآن، أقف أمام المرآة وأفكر، من كان يتصور أن ذلك الفتى الرصين، كما وصفتني والدتي دائمًا، قائلة أنني على خلاف شقيقي الأصغر وأطيعها في كل صغيرة وكبيرة ولم أسبب لها القلق يومًا ظنًا منها أنها بقولها هذا تمدحني، من كان يتصور أن فتى كهذا، سيتشبه بأقران السوء؟

حقيقة لا أعلم إن كان الأمر إيجابيًا أم سلبيًا، أقصد تحولي من فتى "عادي" إلى فتى "خبيث". وللتوضيح هنا فإنه إذا ما قيل في وطني عن شخصٍ ما بأنّه عادي، فقد ذُم، وأما إذا وصِف بالخبيث، فقد مُدح. كما قلت، لا أعلم إذا ما كان الأمر إيجابيًا أم سلبيًا، لكن، ما أنا على يقين منه أني أتخلص رويدًا من الألم المعنوي الذي حدثتكم عنه.

لا تستعجلوا، أعلم بأنكم تتساءلون الآن عن علاقة ثورات الربيع العربي بما أقوله، خاصة وأني ذكرتها في عنوان هذا النص، إليكم علاقتها.

مع ثورات الربيع العربي، ولأكون دقيقًا هنا، قبل أن يقرر بشار الأسد رسم مشاهد مروعة لجثث متفحمة، لا ملامح لها، ولأطفال بالكاد يتنفسون بفعل الكيمياوي، ومع احتلال دبابات عبد الفتاح السيسي ميدان التحرير، وأثناء اكتشافي لجرائم خليفة حفتر، وصولاً إلى تحليق طائرات التحالف العربي في سماء اليمن. قبل كل هذا وأثناءه، كنت أبكي، نعم أبكي، لمجرد أن يصفع جندي صهيوني مثلًا كهلًا فلسطينيًا. صورة كالتي ذكرتها للتو، كانت كفيلة بأن تضيق الخناق على قلبي لأيام متتالية.

أذكر أنه لدى مشاهدتي لأسماء البلتاجي تحتضر لم أبتسم لأشهر وكنت مع كل رغيف خبز يعبر حلقي أراها تبكي أينما أشيح بوجهي 

أذكر أنه لدى مشاهدتي لأسماء البلتاجي تحتضر، لم أبتسم لأشهر، وكنت مع كل رغيف خبز يعبر حلقي، أراها تبكي أينما أشيح بوجهي فأشعر بالذنب وكأنّيٓ قاتلها. مرضي هذا، بدأ مع ثورات الربيع العربي، وهاهو ينتهي بنهايتها على ما أعتقد. تلك الثورات التي صورتني بأنني مركز هذه الأمة.

مهلًا دعوني لا أبالغ، لا أقصد فعلًا مركزها، ولكن هوسي بها وصل بي إلى درجة الاهتمام بكل تفصيل يجدّ بمصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس، والعالم بأسره. أبحث، مثلًا، عما إذا كان فوز هيلاري كلينتون بالرئاسيات في الولايات المتحدة الأمريكية سيكون في صالحي كمواطن في الشرق الأوسط أم هو وبال علي وعلى أبنائي في المستقبل.

أقدر، من هو المسؤول عن تخريب المنشآت العمومية في مصر وما هدفه من دفع الناس نحو الخروج ضد محمد مرسي. أمضي وقتًا ليس بقصير، أقرأ توقعات المحللين، وهل سيصبح وطني كالسويد بعد أن تخلصنا من الديكتاتورية؟ ألتهم مقالات السياسة والاقتصاد والثقافة وأتحدث في كل شيء.

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التلفزي.. إيهام بالتفكير وتسيّد المبتذل

كانت حالتي تسوء يوماً بعد يوم! أصبح كل شيء بالنسبة إلي متعلق بالرابع عشر من شهر جانفي/كانون الثاني لسنة 2011. كنت أفرح لكل انتخابات أينما كانت، تسكرني مظاهر الحرية والديمقراطية حد الثمالة، وكنت أموت إذا مات مواطن مصري. يموت هو مرة فأموت أنا مرات ومرات.

كنت أتضور جوعًا إذا ما فقد طفل يمني وزنه، وكلما أكلتُ أكثر، أجوع أكثر فأكثر، إلى أن اشرأب وجهي وصار قاتم اللون. تخالني مدمنًا للمخدرات. كنت أختنق، إذا ما اختنقت نساء سوريا، يختنقن هن لدقائق فأختنق أنا لساعات.

بقيت على تلك الحال، إلى حدود يوم الناس هذا، لا، قبل أسبوع على ما أظن، أي عندما أعلن الجزائريون رفضهم ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة. وجدتني، وعلى غير السنوات الأخيرة غير متحمس، بل أكثر من ذلك، لم أهتم للأمر، بل أكثر من ذلك أيضًا، أجدني أردّد في نفسي ليتهم يتراجعون.

كنت أفرح لكل انتخابات أينما كانت تسكرني مظاهر الحرية والديمقراطية حد الثمالة وكنت أموت إذا مات مواطن مصري

ولا أخفيكم سرًا، أمس أو اليوم، لا أعرف، أظن أن يومي هو أمسكم، فأنتم نائمون الآن، بينما لم أستيقظ أنا إلا منذ ساعات قليلة. المهم، اليوم، رأيت جثثًا في مصر وقد نهشتها النيران. فلم أتأثر. أظنني شفيت فعلًا! أعلم أن ما أتفوه به الآن ضرب من الجنون، بالنسبة لكم على الأقل.

سأراعي مشاعركم، لن أقول بأني صرتُ أفرح لكل روح عربية تنتقل إلى جوار ربها، بعيدًا عن عذابات الدنيا. لكن، ولأكون صريحًا، الموت تحول في نظري من طامة، إلى منفذ، أو مخرج، أو طوق نجاة. الموت تحولت في نظري إلى حياة حقيقية! أظنني شفيتُ فعلًا، صحيح أن أفكاري تمامًا كما يبدو هذا النص.

لعله فعلًا مشوّش، لست أدري. أعتقد بأنها أعراض شفائي، فما مررت به ليس بيسير. أن تكون "عاديًا" ثم تتحول إلى "خبيث" ليس أمرًا سهلًا. أنا الآن لست متأكدًا من كل شيء، لكني أخيرا لا أشعر بأي ألم معنوي!

 أشعر اليوم بأنني مستعد لما هو أسوء مما رأيته في اليمن ومصر وسوريا وليبيا 

في فيلم "الحريف"، جلس عادل إمام، وقد كان يجسد شخصية فارس، إلى والده الذي اتخذ مسكنًا فوق سطح بناية، قائلًا :"أمي ماتت..". ببرود، يطلب والده منه سيجارة، ويجيب "كلنا هنموت"، ويواصل الأب: "ساعات بنموت قبل الموت بكثير".

أظنني مثله، نجوت مؤخرًا ومت مؤخرًا، معنويًا على الأقل، في انتظار المنفذ الحقيقي الذي سيأخذني حيث يخبر ذلك الصغير السوري ربه بكل شيء.

أنا الآن لا أشعر بأي ألم معنوي! لا أشعر بالخوف من المستقبل لأول مرة! ذاك التشاؤم الذي كبلني طويلًا اختفى! اليوم، أشعر بأنني مستعد لما هو أسوء مما رأيته في اليمن ومصر وسوريا وليبيا، وبالمناسبة أراه قريبًا، قريبًا جدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طلاب قارعوا النظام لتغييره وانتهوا حراسًا لإدارته!

يسار مفاوض حزبيًا و"ثوري" نقابيًا: ما وراء الأكمة؟