17-يونيو-2019

عرض "ملكة الدم" في افتتاح الدورة الثانية لأيام قرطاج الكوريغرافية

 

عندما سُئل الممثل الأمريكي أنطوني كوين عن أدائه الرائع لرقصة زوربا في شريط "زوربا اليوناني" التي لحّنها ميكيس ثيودوراكيس سنة 1960 خصيصًا للفيلم، قال: "رغم أن تلك الرقصة مستلهمة من أعماق الألحان اليونانية القديمة إلا أنني ومذ رقصتها للمرة الأولى شعرت أنها لغة نطقها جسدي بسلاسة وسهولة ولم تعترضني أية صعوبة في التعامل معها لكأنها قدّت على مقاسي".  

هكذا هو الرقص لغة البدايات، تولد مع الإنسان من نفس المكان الذي تنبع منه الروح لذلك كلما طربت الروح وهزتها الألحان، رقص الجسد رقصًا عاتيًا حد الطيران. والرقص أيضًا هو لغة النهايات فـ"الموت لا يعدو أن يكون سوى رقصة" وفق أسطورة "الهالوين" الأوروبية عندما يدعو الموت جميع الأموات مرة في السنة ويقيمون معًا حفلًا راقصًا حتى مطلع الفجر.

 اختارت الدورة الثانية لأيام قرطاج الكوريغرافية المنعقدة في العاصمة تونس من 14 إلى 20 جوان 2019 شعار "لا رقص بدون كرامة جسدية" وهو شعار فلسفي يحيلنا مباشرة على التفكير في مسألة الحرية 

الرقص هو لغة كونية خارقة لكل الأزمان والحضارات تروي قصة البشرية وتحفظها من التلف والزوال باندساسه في أجساد سلالات البشر ليظهر في مساحات الفرح والحزن والصخب والحرب والتأمل والحب. يأتي الرقص فيأخذ بأيدينا نحو القصص القديمة للأجداد وأساطير الإنسان الأول فنرقص غصبًا عنّا مأخوذين مدهوشين، "غصب عني أرقص.. أرقص فينشبك حلمك بحلمي.. لا انكسار ولا انهزام ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا" (مقطع من أغنية كتبتها كوثر مصطفى ولحنها كمال الطويل وغناها الفنان النوبي محمد منير في فيلم "المصير" ليوسف شاهين).

يمكن اعتبار الرقص غلافًا ثقافيًا للكوكب الأزرق لا يختلف عن طبقة الأوزون الحامية للإنسان من تحولات الطبيعة ومن التيه في فضاء الكون اللامتناهي، لكن لهذه الضرورة الثقافية علاقة عضوية بالحرية، فالجسد الراقص وقوده الحرية والمطلق الذي يناجي الوجود في مطلقه.

اقرأ/ي أيضًا: عرض "خيول" لـ"كابيني كا": كوريغرافيا لترتيب الحياة من جديد

لذلك اختارت الدورة الثانية لأيام قرطاج الكوريغرافية المنعقدة في العاصمة تونس من 14 إلى 20 جوان/يونيو 2019 شعار "لا رقص بدون كرامة جسدية" وهو شعار فلسفي يحيلنا مباشرة على التفكير في مسألة الحرية حيث تسكن الكرامة بجميع معانيها، فالجسد يحمل في خطواته وهيأته ووقفاته وسباقاته وتطلعاته، جميع تلك المراكمات السياسية والثقافية والاجتماعية إلى درجة أنه ينطبع بها فنجد أجسادًا ذليلة وخائفة ومتألقة ومتوثبة وزاهية يسودها الفرح والتألق والنجاحات، حتى أنه ثمة من يربط الفوز في الألعاب الأولمبية مثلا بالأجساد التي تشبعت بالحرية على مرّ تاريخها وتاريخ سلالاتها.

مديرة أيام قرطاج الكوريغرافية لـ"ألترا تونس": تونس تتفرد بدفاعها عن الرقص كفن وكمهنة

أيام قرطاج الكوريغرافية.. تتويج لإرث الرقص في تونس

تقدّم أيام قرطاج الكوريغرافية وطيلة أسبوع كامل لجمهورها 37 عرضًا منها 15 عرضًا تونسيًا و22 عرضًا عربيًا وأجنبيًا، كما يشارك خلال هذه الدورة الثانية 225 مختصًا موزعين بين راقصين ومصممين ومدربين وباحثين. لكن السؤال الملح بخصوص هذا المهرجان هو: هل يعتبر الرقص في تونس مادة ثقافية فنية جماهيرية ترقى إلى حد إنشاء تظاهرة دولية يبذل من أجلها المال العمومي؟

تاريخيًا، يبدو الرقص متأصلًا في تونس، فالناس يرقصون في مواسم الحصاد والجني وفي المناسبات الدينية والأعراس بطريقة عفوية وتلقائية حيث تخرج الحركات والخطوات من الأعماق الفنية للإنسان. لكن يخضع هذا الرقص لنواميس المجتمع وخاصة في المستوى الحضاري، فنجده رقصًا "شرقيًا" بهيمنة ذكورية وذلك بالنظر الى التحولات الاجتماعية الطارئة لعل آخرها الفتح الإسلامي لإفريقية وإلى حد قريب كان الذكر يرقص ويعبر بجسده في العلن في حين أن المرأة ترقص سرًا بعيدًا عن أعين الذكور وإن رقصت عنًا فإن النظرة إليها تمر عبر صراط الاخلاق.

 تأتي أيام قرطاج الكوريغرافية لتتوج إرث الرقص في تونس وتصالح التونسيين مع فن يستهدف جمال أجسادهم ومع تاريخهم الثقافي عمومًا 

بيد أنه ومنذ العقود الأخيرة لفترة الاحتلال الفرنسي وإلى غاية اليوم، تغيرت أحوال الرقص فتحرر جزئيًا من بوتقة الأخلاق بمعناها الاجتماعي، فظهر راقصون تونسيون كبار مثل الثنائي النسائي "زينة وعزيزة" و"اللغبابي" الذي يعتبر أول معلم للرقص في تونس إضافة لرضا العمروسي.

كما تم بعث الفرقة الوطنية للفنون الشعبية سنة 1962 التي قدمت كوريغرافيا اجتماعية تونسية تروي الحياة اليومية التونسية الحضرية والبدوية. ورغم النزعة الفلكلورية للفرقة إلا أنها بينت مدى اهتمام الدولة بمسألة الرقص في تونس وبداية الاعتراف به كفن يمثل ثقافة هذا الشعب.

اقرأ/ي أيضًا: في شارع بورقيبة.. تحدي الإرهاب بالرقص

كما تتالت أجيال الراقصين والكوريغرافيين سواء الباحثين في الرقص المحلي والشرقي أو أولئك المنفتحين على ثقافات أخرى، ونذكر منهم نوال الاسكندراني وعماد جمعة وحافظ زليط وراقصي سهام بلخوجة وملاك السبعي ورشدي بلقاسمي. لكن هؤلاء وبالرغم من تفرد تجاربهم إلا أنهم لم يجمعهم يومًا ما هاجس التأسيس لتظاهرة توحد حلمهم بالرقص. 

بذلك تأتي أيام قرطاج الكوريغرافية لتتوج إرث الرقص في تونس وتصالح التونسيين مع فن يستهدف جمال أجسادهم ومع تاريخهم الثقافي عمومًا وذلك من خلال العروض التونسية والأجنبية المقدمة، وأيضًا من خلال الورشات ولقاءات التفكير التي تطرح أسئلة عميقة للنقاش تسائل كرامة الجسد ضمن تاريخيته وضمن ذاكرته وطرق ضمان حريته واعتبار الرقص شكلًا من أشكال حرية الأجساد.

"ملكة الدم" لعصمان بابا سي.. كرة القدم بنكهة الرقص الإفريقي الأنثوي

الدورة الثانية لأيام قرطاج الكوريغرافية، التي تديرها الراقصة والباحثة الأكاديمية مريم قلوز، اُفتتحت بعرض كوريغرافي من فرنسا لعصمان بابا سي، فرنسي من أصول سينغالية، بعنوان "ملكة الدم" نفذته مجموعة راقصات "البرادوكس سال" التي أسسها عصمان بعد رحلة ثلاثة عقود من التجريب في الرقص وتصميم الرقصات.

اللوحات الراقصة المقدمة على إيقاعات موسيقى الهاوس العالمية كانت حريصة على تقديم وإبراز تلك الجزئيات الصغيرة التي عادة ما نهملها عند مشاهدتنا لمباراة كرة قدم

عرض ملكة الدم هو فسيفساء من الحركات والخطوات متناقضة: سريعة أحيانًا ومتثاقلة أحيانًا أخرى، فوضوية أحيانًا وشطرنجية أحيانًا أخرى، وهو بذلك يتشبه بما يحدث من حركات لا متناهية في مباراة كرة قدم خاصة إذا علمنا أن مصمم العرض هو باحث في حركات أجساد لاعبي كرة القدم لمدة ثلاثة عقود ولا زال.

اللوحات الراقصة المقدمة على إيقاعات موسيقى الهاوس العالمية كانت حريصة على تقديم وابراز تلك الجزئيات الصغيرة التي عادة ما نهملها عند مشاهدتنا لمباراة كرة قدم أثناء المراوغات وأثناء التحام أجساد اللاعبين والخطوات الغاضبة والمنتصرة. لم يكن عصمان بابا سي ناقلًا بسيطًا لحركات لاعبي كرة القدم عبر أجساد راقصات "البرادوكس سال" بل كثف من المشاعر التي نلمحها في تعابير الوجه وحركات الأعين.

من عرض "ملكة الدم"

"ملكة الدم" قد يبدو بحثًا كوريغرافيًا اهتم بحركات لعبة شعبية لكنه بحث أيضًا في قدرة الجسد على التعبير والتواصل مع بقية الأجساد دون كلام. ويمثل اختيار جسد المرأة الزنجية لتقديم لوحاته حمّال لعدة دلالات أولها تقديم الجسد الإفريقي الانثوي المسكون بالرقص والذي يلخص طبيعة إفريقيا في قسوتها وفي لينها، وفي ذلك أيضًا اعتراف وتكريم للمرأة الإفريقية التي مازالت تعاني اضطهادات مختلفة في مجتمعاتها خاصة ذات النزعة القبلية.

وإن بقدر تأصيل أيام قرطاج الكوريغرافية لفن الرقص في تونس وفي إفريقيا والوطن العربي، فهي تشرّع على التساؤلات الفلسفية والفكرية الشجاعة بخصوص علاقة المجتمعات الشرقية ذات النزعة الذكورية بالرقص والتسريد بالرقص وأيضًا علاقة الجسد بالذاكرة والحرية. وبالنهاية، تأتي هذه التظاهرة الثقافية كاعتراف جزيل من الدولة التونسية بفن الرقص وفضله على تاريخ الثقافة ودوره في المجتمع.

 

شاهد/ي أيضًا:

فيديو: رقص الشارع..خطوات تُجاري إيقاع "الهيب هوب"

فيديو: رشدي بلقاسمي.. الراقص المتمرد